الأحد ١٥ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

لعودتك نكهة مميزة

المساء رمادي، أشعث، كئيب، ينفث من عينيه الجاحظتين سموم الغربة، والغيظ، والقحط، والتوهان، وتترنم شفتاه المحمومتان بمقطوعة شعرية مؤثرة، شجية، تمزقني أصداؤها الموجعة إلى شطرين، وتزرعني شجرة عارية، هرمة في أغوار المتاهات ، يتعمق الجرح الغائر بداخلي كالأخدود، تلدغ نيران الأسى الحارقة كبدي، وأنزف بتأوه شديد في بيادر الوحدة المفزعة، وفي كنف الأيام المسيجة بالهواجس، والشكوك. تبتلعني فوهة الفراغ في جنون عبثي غادر فأغدو شمعة بلهاء يتراقص ظلي الصدئ على حيطان غرفتي، وأتجرد من خواطري وأشعاري مثلما تتجرد الدوحة الفينانة من أوراقها في عز عنفوان الخريف.

في فضول بالغ أتلفت التفاتة الولهان باحثة عن وجه أليف وديع سكن عنوة بروج أحلامي الشامخة، وموطن صباي.أحوم في غرفتي الخرساء ضالة، معذبة، مغتربة كسنونوة تهفو بعشقها الأبدي المعشوشب إلى موقع، ونغم، ودفء.

الصمت العنيد يطبق علي بفكيه، يسلبني كامل إرادتي في مواجهة الموقف الملغم، تعلوني فوضى الأسئلة المتذبذبة:متى تعود جوهرتي الغالية، وتكنس بابتسامتها الحانية رذاذ اكتئابي، وشرودي، وتعيد لي انضباطي، وتوازني؟متى تعود لتبث في حناياي زغاريد اللقاء، وروعة الدفء؟

وأنا كحمامة مهيضة الجناح، قلت لها وغصات الألم تخرب حبال صوتي: إلى أين يا عزيزتي؟ أتؤثرين البعاد عني؟
أجابت بصوت خفيض كأنه آت من بئر عميق وهي منكبة على وضع حاجياتها في الحقيبة:سأمكث بعض الوقت عند أهلي، وسأعود ريثما تهدأ الأجواء المكهربة بيني وبين والدك.

انسحبت من البيت وهي تطبع وراءها أذيال خيبة مفجعة، وبصمات انهزام شنيع.
كانت بمثابة ظلالا ظليلة تلازمني في أعيادي ومتاعبي، وكانت قمرا وهاجا يلثم عالمي القزحي الفسيح، وتثملني بحضورها العبق فتسعد قلبي بين ضلوعه، وتطربه.

من النافذة المفتوحة الدفتين أتطلع إلى كل الوجوه المكدودة والممتلئة التي تعبر الطرقات ساعية إلى هدفها المنشود، أهتف في غمرة من حيرتي، وقلقي، وضياعي:لم لم تذيعي نبأ عودتك إلى حد الساعة؟
قلت لوالدي وأنا أستجمع أطراف شجاعتي، وأتعلق بأهداب الأمل:ألا تحاول استردادها يا أبي؟

وأشرقت بالبكاء وأنا أنصهر في بوتقة الشوق الحامية.
ـــ سأبذل قصارى جهدي لاسترجاعها، والدتك جوهرة نادرة، ملاك طاهر و.....
قاطعته وبهجة العمر تغسلني من أدران الشجن: أصحيح ما تقوله ياأبي؟
هز رأسه المتعب علامة الموافقة، عانقته بقوة جارفة لامثيل لها، لثمته فوق جبينه لثمات رحيمة، وهتفت في صوت يصطخب:من دونها صار البيت موحشا، مكتئبا، استحال بين ليلة وضحاها إلى مقبرة مرعبة.

وطفقت أبحث عن اللغز المحير الذي دفع أمي إلى الخروج من بيتها، والدي سامحه الله لم يتلفظ ولو بحرف رغم أن عينيه الرماديتين كانتا تفصحان عن أشياء كثيرة، وتفضحانه.

كانت صدمة عنيفة حين عثرت على صورة لامرأة مجهولة في درج مكتبه.من تكون صاحبة هذه الصورة؟ألها علاقة وطيدة بوالدي؟الأمر واضح لا غبار عليه، إذن هذه عشيقته، والدي يغش أمي، واجهته بكل حزم وجرأة:أتعرف امرأة أخرى غير أمي؟

امتقع وجهه وصرخ في وجهي:ماذا تقصدين؟
ـــ المرأة الموجودة في الدرج، أقصد الصورة.
ـــ دعينا منها، تلك الصورة تمثل الماضي فقط، والدتك تشك في جميع تصرفاتي، تعتبرني خائنا، ومزيفا.إنها مخطئة يا ابنتي.صدقيني.
ـــ إذن ما الحل في رأيك؟
انحنى على الدرج، وبحركة من يده سحب الصورة ومزقها إربا إربا، ثم خرج وصفق الباب وراءه وهو عازم على استرداد جوهرته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى