الأربعاء ٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم هند فايز أبوالعينين

لغة المثقف والمجتمع

يعجز المثقف عن إيجاد مساحة كافية لوجوده في مجتمعنا. ولا أقصد بذلك مجتمع المثقفين لدينا، بل المجتمع على أكمله، مفتوحا على كافة فئاته. وما لم يكن المثقف في جلسة حوارية فكرية أو أدبية فإنه سيشعر بأن المجتمع المفتوح يقصيه بجدران لايراها أحد، لكنه أكثرهم إحساسا بها.

من مظاهر هذا الإقصاء أن يجد المثقف نفسه فجأة خارج الحوار بسبب آرائه. أو أن تـُبتر الأحاديث بشروعه الرد عليها. ذلك لأن آراءه ستظهر أبعادا وأعماقا من المعرفة لن ترضي غرور العامة، حتى لو أنه أنكر على نفسه فوقية المعرفة، فظهورها العفوي في آرائه ووسع اطلاعه ستجعل منه عنصرا غ م ف: غير مرغوب فيه. وآسف حقا حين أقول أن هذا الإقصاء أوضح وأوسع انتشارا بين النساء. فيبدو أن من مفارقات عصرنا المضحكة أن المرأة المثقفة تعتبر غ م ف في المجتمع النسوي.

و قد يلجأ المثقف إلى الإنزواء طواعية ً ، وذلك بإخفاء أية دلائل على مواهبه الإبداعية وعدم الإتيان على ذكرها في معارض أحاديثه، أو باصطناع ركاكة اللغة – وإن كان ذلك صعبا على المثقف فعلا - وتجده في ذلك يقولب أفكاره العريضة بلغة العامة المبسطة، حتى لا يـُفرض الإقصاء عليه فرضا بنظرات شزرة.

قبل أيام كتب الدكتور صلاح جرار حول تداخل اللغة العامية بالفصحى، وأبدى رأيا سديدا حين قال أن اللغة العربية الفصحى لا يجب أن تكون حكرا على فئة بعينها هي فئة المثقفين.

في محاولات عديدة لاستقراء أسباب الإقصاء القسري على المثقف قمت بتجارب قد يضحك لها القارىء، وكلها تخص اللغة التي تولـّد ذلك الإقصاء. في التجربة الأولى، وفي ضمن حوارٍ اجتماعيّ عادي، قمت بإقحام بعض الجمل بالعربية الفصحى. وكررت ذلك بشكل متقارب في نفس الموضوع. فحدث ما توقعته من إقصاء. تبادلتْ المتحدثاتُ نظراتٍ قرأتـُها بسهولة، وبلا سبب تغـيـّر الموضوع إلى آخر أكثر "نسائية".
أما في التجربة الثانية فقمت باستخدام جملٍ باللغة الإنجليزية الفصيحة في موضوع من نفس الطبيعة، نقاش اجتماعي بحت. وبالتدريج أطلت الجمل وأسهبت فيها. وكانت ردة الفعل مغايرة تماما لتلك في التجربة الأولى. فقد وسعت العيون وارتفعت الحواجب إعجابا بما أبديت، علما بأن الرأي ذاته كان سطحيا ولا ينم عن أي وسع في المعرفة أو الثقافة. واستمر الحديث ذاته، لا بل أن المتحدثات بدأن في إطلاق عبارات باللغة الإنجليزية أيضا، وكأني بدأت منافسة ً من نوع ما دون علم مني. ولم يحدث الإقصاء.

محاولات إيجاد أسباب لهذه الظاهرة ستكون عنقودية، لأن اكتساب اللغات الأخرى كان منذ زمن محط َ احترام لدى فئات كثيرة، وإن لم يكن أبدا دلالة على أي تفوق علمي أو فكري، لكنه لسبب ما ارتبط به. أما أن يتقبل المجتمع المثقف باللغة الثانية ويقصي المثقف بلغته الأم فهي ظاهرة يصعب تفسيرها. فحتى عولمة الثقافة لا تبرر الاستغناء عن اللغة الأم كمظهر من مظاهر وسع المعرفة وعمق الفكر. وقد لا يكون الاستغناء عنها هو الظاهرة في محورها، بل عدم قبولها كدلالة على الثقافة. فلو أن كل مثقف استطاع أن يترجم كامل معرفته باللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية أو غيرها لتقبله المجتمع باعجاب وتقدير. وكأن المطالعة وزيادة المعرفة باللغة العربية ، وظهور ذلك على المثقف، لا يحدث إلا لنقص في شخصه. نقص لا يراه المثقف الآخر، لكن المجتمع يدينه إدانة غير معلنة.

يبدو أن الثقافة في مجتمعاتنا أصبحت لها أنماط ٌ يـُقبل بعضها ويُـقصى البعض الآخر، مما يعني أن شكل المعرفة أصبح أكثر أهمية من جوهرها.


مشاركة منتدى

  • طَرْحٌ مُفِيْدٌ، شُكْرَاً.
    هَلَّاْ اقْتَرِحْتَ بَعْضَ الْحُلُوْلِ العَمَلِيَّةِ لِجَعْلِ التَّحَدُّثِ بِالْفُصْحَىْ يُلَاْقِيْ إِقْبَاْلَاً أَكْبَرَ. و شُكراً.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى