الاثنين ١٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الخميسي

لم يبق في غزة إلا الهواء

أرسلت إلي زميلة - شاعرة فلسطينية من غزة - رسالة قصيرة على المحمول تقول فيها : " لا ماء ولا كهرباء ولا تلفونات ، كمان شوي ويقطعوا الهواء " . وقد فعل النازيون من قبل شيئا كهذا عندما حاصروا ليننجراد في الحرب العالمية الثانية ستة شهور كاملة ، ظلت المدينة تقاوم خلالها إلي أن خرجت أسطورة من بين الأنقاض والموت. ويأتي حصار غزة وقصفها الآن ، استكمالا عسكريا للحصار السياسي والاقتصادي لحكومة حماس الذي نظمته أمريكا وشاركت فيه الدول العربية والأوروبية والمنظمات الدولية كافة ، حتى أصبح " تهريب مليون دولار إلي الشعب الفلسطيني " مشكلة عجزت جامعة الدول العربية عن حلها ، بينما يعد تهريب المليارات من الأمور المألوفة كل يوم . الحصار السياسي والاقتصادي لحكومة حماس ، ثم التذرع بقصة الجندي الإسرائيلي الأسير ، جاء لكي تستكمل القنابل ما بدأته السياسة ، بهدف التنحية النهائية لمبدأ المقاومة . هذا بعد أن ظنت إسرائيل أن اتفاقية كامب ديفيد المشئومة المذلة ، واتفاقية الأردن ، واتفاقيات أوسلو ، قد قضت جميعها على آمال الشعب الفلسطيني في أرضه ودولته ، ورسخت عبر ثلاثين عاما روح الهزيمة ، فإذا بمنظمة حماس وحكومتها تغير كل الحسابات وتعيد للأذهان قدرة الشعب الفلسطيني على مواصلة القتال ورفض الاحتلال وانتخاب حكومة تدعو إلي المقاومة وتعلن أن طريق السلام مسدود ، وأنه لم يفضي في الواقع الفعلي إلا لمزيد من الاحتلال ، والتوطين ، والمذابح ، والعربدة الإسرائيلية العسكرية بحرية تامة في سماء دمشق ، ولبنان ، وأي عاصمة عربية، والتهديد بقصف السد العالي في مصر على لسان شارون . أما الشعب المصري فقد ذاق مرارة " الرخاء " الذي وعدوه به إذا جنح للسلم ، وذاق مرارة حالة الطوارئ ، وتعميق التبعية السياسية والتخلف الاقتصادي .

وليست المسألة ، هي اعتراف حماس بإسرائيل من عدمه ، فقد اعترفت منظمة فتح بإسرائيل ، واعترفت بها مصر والأردن وبطرق أو بأخرى اعترفت بها غالبية النظم العربية . فما الذي حصده الشعب الفلسطيني من ذلك الاعتراف ؟ وما الذي جنته الشعوب العربية من ذلك ؟ . النتيجة بعد ثلاثين عاما واضحة : المزيد من الغطرسة والعدوان وتكريس احتلال الأرض الفلسطينية وعدم الانسحاب من شبر واحد ، واستمرار الأسرى الفلسطينيين بالآلاف في المعتقلات ، وقتل الجنود المصريين من وقت لآخر عند الحدود في رفح ، والتهديد الإسرائيلي لدمشق وطهران وبيروت والمساهمة في احتلال العراق . أما أوهام الدولة الفلسطينية ، فلم يبق منها سوى غزة ، بينما تم إخراج الضفة الغربية فعليا من خارطة فلسطين بتوطين ربع المليون إسرائيلي فيها . فما الذي تبقى من أحلام الشعب الفلسطيني ؟ وما الذي قدمته إسرائيل لمن اعترف بها على الصعيد الفلسطيني أو العربي ؟ . لا شئ . سوى مشاهد من نوع مشهد شاطئ غزة الذي يغتال فيه الطيران الإسرائيلي أسرة فلسطينية بأكملها كانت تتنزه متخيلة أنها تتنشق هواء بلادها عند بحرها . فما الذي يعنيه الاعتراف بإسرائيل في ظل هذه الظروف المحددة ؟ هل حصلت فتح على شئ مقابل اعترافها لكي تكون نموذجا يشجع حماس على تلك الخطوة ؟ إن الاعتراف بإسرائيل الآن ، بهذه الشروط ، لا يعني سوى الاعتراف بحقها في احتلال الأرض دون مقابل . لقد تم الاعتراف بإسرائيل من قبل دون مقابل ، واعتراف حماس بها الآن يعني المزيد من تكريس الاعتراف بواقع " احتلال بلا مقاومة " . اعتقدت إسرائيل بعد ثلاثين عاما ، في ظل الهمود السياسي العام أنها صارت أقرب ما تكون إلي أحلامها ، أي تلخيص كل حقوق الشعب الفلسطيني في مجرد مقاطعة ملحقة بإسرائيل يرفرف منها علم في الهواء وإذا دعت الحاجة تم اجتياحها في دقائق جوا وبرا وبحرا ؟ . وفجأة إذا بحماس تقفز عبر انتخابات شرعية وديمقراطية إلي الحكم ، وفجأة تتجدد فكرة المقاومة ، وهو أخطر ما تخشاه إسرائيل .

وما هو " الجندي الإسرائيلي الأسير " الأسطورة ؟ وهل تأبه إسرائيل حقا بمصيره إلي هذه الدرجة ؟ فإذا كانت معنية بمصيره فلماذا لم تفرج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين وبينهم نحو أربعمائة طفل فتنقذ بذلك الجندي الأسطورة ؟ أم أن الجندي الأسير رمز يتصارع الطرفان عليه ، ويختفي من خلفه صراع حقيقي حول استمرار المقاومة أو استمرار الاحتلال ؟ بعث المقاومة ، أو تكريس القوة الإسرائيلية ، إلي درجة تساوي معها حياة جندي واحد حياة شعب بأكمله ، وتساوى معها حياة شعب بأكمله الاحتفاظ بالجندي أسيرا ؟ . تسعى إسرائيل بالقوة البربرية والقصف الوحشي لكي تؤكد للشعب الفلسطيني أن " المقاومة " خطر عليه ، وأنه سيلقى أشد أنواع العقاب الجماعي إذا فكر في العودة لذلك الطريق ، وأن عليه أن يقبل فقط بالاحتلال .

أما الأطراف العربية التي أظهرت قدرتها دائما على إسداء النصح للفلسطينيين ، وتوجيههم إلي طريق التسوية والسلام الموهوم ، فإنها – ما أن يتعلق الأمر بالوحشية الإسرائيلية – حتى تقف كالعادة عاجزة عن تقديم أي شئ لذلك السلام ، عندما يتم اختطاف أحمد سعدات ، وعندما تقوم إسرائيل بدك غزة على مرأى من العالم ، وهدم محطة الكهرباء الوحيدة فيها ، واختطاف الوزراء ، وقصف مبنى الحكومة ، وقتل الأطفال الذين يتساقطون كل يوم ولا يبلغون أبدا سن الشباب .

وبالرغم من كل شئ فإن التحدي الذي أظهرته حكومة حماس لإسرائيل برفضها التسوية السياسية بنتائجها وشكلها الراهن ، هو الذي حرك موجات التأييد الشعبي الواسعة لقضية فلسطين بين الشعوب العربية ، وبفضل هذا التحدي تتسع القطاعات المؤيدة للحق الفلسطيني داخل أوروبا ، وبفضل هذا التحدي الباسل تتعرى إسرائيل أمام العالم كدولة نازية ترتكب على كافة جرائم الحرب ، وبفضل هذا التحدي تعري عجز الأنظمة العربية أمام شعوبها ، وتجد تلك الأنظمة نفسها في تناقض مباشر وصريح مع شعوبها ، وبفضل هذا التحدي تتعرى السياسة الأمريكية المؤيدة على طول الخط لإسرائيل ، وتتكشف للناس الحقيقة البسيطة المذهلة وهي أننا نسعى للسلام منذ ثلاثين عاما ، فلم نحصد سوى الحرب علينا وعلى مستقبل بلادنا . إن غزة المحاصرة ، والتي لم يبق فيها شئ يعمل سوى الهواء ، غزة التي تعيش تحت الأنقاض وبين أشلاء أبنائها ، هي ذاتها غزة التي تلوح للعالم من فوق قمة دمائها بالحقيقة وبأن الشعب الفلسطيني لم يفقد أمله في تحرير أرضه ولا قدرته على ذلك . أما ردود الأفعال الإسرائيلية فتؤكد – رغم عنفها – شيئا واحدا : أن صواب إسرائيل قد طاش ، ليس بسبب جندي أسير ، ولكن لأن التسويات والهزائم والخداع الطويل والمؤتمرات السياسية والمبادرات، لم تفقد ذلك الشعب أمله، ولا وعيه، ولا بطولته ، إذ لم يعد لديه ما يخسره سوى الهواء .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى