الثلاثاء ١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٣
معرض شامل للفنان العراقي فيصل لعيبي في ابو ظبي

لوحات بغدادية بألوان مبهجة وشخصيات مؤنثة

في القاعة الكبرى للمجمع الثقافي في أبو ظبي أقام الفنان العراقي فيصل لعيبي معرضاً شاملاً لأعماله التي نفذها خلال السنوات الأربعين المنصرمة التي مارس فيها الرسم ابتداء من ستينيات القرن الماضي في بغداد وحتى اليوم حيث يقيم في بريطانيا. اشتمل المعرض على تجارب متنوعة للفنان، ولكنها جمعت في طيها ونشورها هاجسه الأبرز كفنان مبدع ألا وهو البحث عن الذات، وسؤال الهوية. وقد صاغ الفنان أعماله بأساليب خاصة به ميزته عن سائر الفنانين العراقيين والعرب.

ولد الفنان في مدينة البصرة في العراق عام 1945، وتخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1967، وأكاديمية الفنون الجميلة عام 1970، والمدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1980، وحصل على دبلوم الدراسات المعمقة من جامعة السوربون عام 1981.

تنقل في هجرته الأوروبية عبر بلدان عديدة بينها فرنسا وإيطاليا والجزائر وغيرها ويعيش حالياً في بريطانيا. أقام الفنان أكثر من عشرة معارض شخصية وشارك في عشرات المعارض الجماعية في الوطن العربي والعالم. في معظم أعماله يحتل الجسد البشري مركز الثقل، وتبرز اللوحات التزيينية أشكالاً أساسية وإيقاعات تحيط بالأجساد الكبيرة. كما لو أنها تعاكسها، وليس هناك من حركة عائقة بل صرامة وميل الى سحر الصورة.

بين العتمة والنور

في لوحات النساء عنده نجد العباءة التي تستر الجسد تفضح اللوعة والأسى في كل شخصية. وفي أعماله الأخرى نجد الكتلة والفراغ يتناوبان بين الجسد والفتحات التي توحي بالخارج والداخل في اللوحة نفسها وهما يكملان بعضهما العمق والمحتوى وأقواس كبيرة بأشكال مختلفة. ويبدو فيصل في أعماله وكأن اللوحة مقررة سلفاً وماثلة أمامه كالكنز المفتوح. بطبيعة الحال نعرف أن مصادر الفنان الخيالية والمنحدرة من تراثه الفني متعددة وثرية الجسد والسطح، الصورة والفراغ، الفن والواقع، وهو يمسك بواسطة خياله كل بقعة في العتمة والنور المتداخلين غير المنفصلين بعد حيث ترقد فاكهة الحياة وفاكهة الموت في الإناء، إنه يرينا أسراره ويترك لنا أن نختار.

جابرييلا شبريغات الناقدة الألمانية لمجلة "تاندانس" في ميونيخ رأت أن من النظرة الأولى، يسود اللوحات الكبيرة لفيصل لعيبي وضوح صارخ، فالمواضيع التي تلتقطها العين العابرة جلية: رجل بكامل ملابسه، امرأة شبه عارية، نارجيلة، إناء خزفي مليء بالفاكهة، إشارة، وتتحدث الناقدة نفسها عن ذلك الصمت الخاص الذي يشيع من هذه الموضوعات على لوحات لعيبي وتصفه بأنه الصمت الذي انقطعت عنه حواسنا الملوثة منذ زمن بعيد. كل شيء في لوحات فيصل لعيبي شاخص البقاء، وفنه له سمات خاصة، بالغة التميز عما يطبع أعمال غيره من الفنانين العراقيين. ثمة ميول مؤنثة أيضاً بادية على هذه الأعمال، الشخصيات حتى الرجالية تبدو ذكوريتها خفيفة، ويشع من عيونها أحياناً ضوء المؤنث. يرسم فيصل لعيبي البيئة الشعبية العراقية بطقوسها ومظاهرها وعاداتها. وذلك من خلال مفرداتها الأكثر شيوعاً. لكن هذا لا يمنعه من التعبير عن كل ذلك بلغة فنية جديدة وخاصة. إنه يرسم لكي يرينا ما يراه قائماً في واقع الأمر بين هذا الرجل وهذه المرأة. وأحياناً ما يكون بصر شخصياته شاخصاً إلينا بينما تبدو هذه الشخصيات محاطة بأشكال وألوان الفاكهة والآنية الخزفية.

الشعور بالغربة

ورغم ألفة وحميمية الحالات التي تخضع لها أعمال الفنان، إلا أن هناك شعوراً خفياً بالغربة تنقله مشاهدة لوحاته الى نفوس مشاهديها، كأن هذه اللوحات تريد أن تقول: نحن لم نعد طاهرين، ولا نعيش في الجنة، العالم كله على مسافة قريبة من الجحيم. إن موقف الفنان من قضايا شعبه وقضايا عصره وقضايا الإنسان عموماً يبدو جلياً في شتى أعماله التي تسيطر عليها ألوان مبهجة وحارة غالباً. نادراً ما يستعمل الألوان القاتمة، سوف تظهر هذه الألوان مع موضوعات الموت مع تلك المشاهد الجنائزية للموت العراقي وحيث أجساد الموتى مقرونة دائماً بتلك العباءات الحزينة. حيث ثمة أجساد ممددة بأبواب البيوت، وهناك العباءات التي تحيط بهذا الموت. مشاهد تتكرر على أكثر من عمل. لكن الانطباع الأبرز مع هذا المعرض الشامل لأعمال فيصل لعيبي هو تلك القدرة على نقل البيئة العراقية الواقعية، والواقع أن المنظور في لوحة لعيبي والأبعاد والتكوينات لا تنتمي الى أي واقعية من تلك الواقعيات الفنية التي عرفناها في الفن التشكيلي العربي، إنها شيء آخر يدمج بين عناصر شتى حديثة، ليؤلف عملاً ينهض على المشهد والحكاية. ثمة على كل لوحة حكاية، وخبر وبينها حكايات محيرة. فاللوحة تعطي مألوفاً ما أن تطمئن اليه حتى تشعر بأن إضافة صامتة تنتظرك هناك في الخطوط والألوان والحالات، لغز ما لن يمكنك العبور نحوه من دون تدرب على القراءة بطريقة جديدة.

البساطة الخادعة

ثمة باستمرار ما يوهم ببساطته في أعمال لعيبي، وهو ليس كذلك، تقول الناقدة الألمانية نفسها بعد محاولات متعددة مع اللوحات، اكتشفت، فيما بعد، في تركيب هذه اللوحات توترات دفينة تعكس علاقات السيد بالعبد، كما تتجلى أيضاً في الشوق الى الحبيب، وتبدي إعجابها بوجه خاص بتلك النساء العاريات والعربيات في تعدد ألوانها المثيرة للبهجة المتباهية بجمالها وشخصياتها المترفة والمعافاة والخالية من التواطؤ، من المؤكد أن الفنان خبر جيداً ثقل التقاليد المحافظة.

والواقع أن عمل فيصل ليس حنيناً الى الماضي أو نبشه، بل بحثاً عن بقاياه --- كي نجد الطريق الموصل الى حريتنا الخاصة، وهذا ينطبق علينا أيضاً كما ينطبق على الفنان، لأننا نسير معاً.

إن مهنة الرسام بما فيها من منغصات نموذجية متناقضة في أوروبا الغربية حيث يقيم اليوم فيصل لعيبي تتميز بالنسبة الى رسام من العراق بابعاد أخرى ذات مستويات وتعقيدات أكبر.

المنفى / اللامكان

إن تجربة اللامكان / المنفى بالنسبة الى فيصل وأقرانه من الفنانين العراقيين والعرب، حيث الاستلاب الاجتماعي بالمعنى الأشمل للكلمة، تضعهم أمام إغراءات جاذبية الخارج والجديد، وهو ما ينطوي على خطر التواؤم مع كوزموبولينية ثقافية نخبوية يرتبط بها النجاح حقاً، ولكن على حساب فقدان الهوية الثقافية والعيش بلا تأريخ ولا ذكرى، أو أن المسافة التي تفصل المرء عن الخارج والجديد تقوده الى الحنين (نوستالجيا) المحلي الضيق المفتقد في واقعه الجديد، إن هذا السفر بما ينطوي عليه من أهوال يحتوي كذلك على فرص وإمكانات كبيرة تتحدى الفنان كل يوم. لكن لوحات هذا المعرض تقول شيئاً آخر. إنها تؤكد أن الشخصية الفنية لهذا الفنان رحبة وناضجة ومتمردة معاً، إنه فنان يعرف كيف يتعامل مع العالم في تأريخيته المعاصرة فهو يختطف الحالة الراهنة بلمح البصر ويمسك بها بوصفها تأريخه هو.

مع هذه اللوحات نحن بإزاء صور ومشاهد لحد ميراه خمسة آلاف سنة نتأملها هنا في أعمال فيصل بكل ما فيها من تناقضات وجمل. وهو يعتبر ذلك من واجبه والتزاماته، إن اكتشافاته نتيجة توترات تتمحور في ثلاثة مستويات: فإلى جانب اللوحات والتخطيطات المتعلقة بموضوع الرجل والمرأة، هناك أعمال تعتمد على الكتابة العربية والخط العربي كشكل جمالي والتي تبدو للغربي جميلة وجذابة أما لفيصل فهي علامات مستترة يجد فيها راحته الداخلية، والمستوى الثالث هو ما يتعلق بالمواضيع الاجتماعية والمشاكل التي تواجه شعبه، ففي لوحة "الشهداء" (500 سنتيمتراً + 70 سنتيمتراً) وهي لوحة كبيرة نجده قد استخدم تراثه السومري والآشوري، وهي متصلة بهموم الشعب العراقي، ولا تختلف لوحة "المقهى" (700 سنتيمتر + 150 سنتيمتراً) إذ نجد الاستفادة نفسها مع ملامح تعود لتفرة الحضارة الاسلامية كذلك.

هذه هي المشاعر الخاصة التي انشغل وجدان الفنان فيصل مثلما شغلت من قبل النحات المصري محمود مختار والرسام العراقي جواد سليم اللذين بشرا بفن عربي المحتوى، وربما يمكننا القول أنه فن موجه لمشاهدين عرب وجمهور إنساني في الوقت نفسه. قلة من الفنانين تمكنوا من تحقيق هذه المعادلة الصعبة. أن لا تكون أعمالهم منفصلة عن البيئات التي خرجوا منها، وأن تتميز أعمالهم بالجدة والابتكار والطليعة.

عن مجلة العربي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى