السبت ١٥ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم هند فايز أبوالعينين

ماذا فعلت الشبكة العنكبوتية (إنترنت) بأرواحنا؟

قبل حوالي عشر سنوات، لم يكن مستساغاً أو منطقياً أن أقول أن لي أصدقاءً ومعارفَ من الأدباء في معظم الدول العربية... وكان سيزيد غموض مثل هذا التصريح أن أضيف إليه أنني لم ألتق ِ بأيّ منهم أبدا. إذ لم يكن ذلك ممكنا إلا من خلال التواصل البريدي الورقي، وهو ليس كافٍ أبدا لإنشاء التعارف، نظرا لمتطلباته الزمنية والمادية. أما اليوم فإن العالم أصبح قرية ً واحدة، ترى الناس فيه يخاطبون بعضهم عبر القارات بالصوت والصورة ، وقد نرى في آخر العقد القادم أننا سنستطيع مصافحة بعضنا البعض عبر القارات أيضا .. فمن يدري ؟

ما يميّز الإتصال الإسفيري- كما يسميه أخي الأديب هشام آدم – ويجعله مفضلا ً لدى البشر على الإتصال الواقعي هو أن الأول يتيح للمتصل أن يخرج من حدودٍ فـُرضت عليه، سواء أكانت في خلقته أو ظروفه المعيشية ، أو حتى قدراته الإجتماعية. فالألثغ مثلا يجد فرصة للتعبير عن آرائه دون الاضطرار إلى إخفاء لثغته، والفقير يستطيع أن يصادق "ابن الذوات" دون أن يقلق من مقارنةٍ مخجلة بين هندامهما، والدميم يجد فرصة ً للتعارف ببنتٍ جميلة ويسمع منها الإطراءات التي كان يسمعها في أحلامه فقط.

لكن هذا التواصل "الإسفيري" نجم عنه تماسٌّ في الأرواح البشرية. فنحن نعي أن جسد الإنسان فقط هو المحدود ببعديّ الزمان والمكان، أما الروح البشرية فهي طليقة ... لا أبعاد لها. وهذا يعني أن الإنسان الواقف أمامك – أيّا كان – قد لا يكون معك في لحظتها، فروحه قد مرّت يومها بعوالم مختلفة، مع صديق ٍ في الشرق وعدوّ ٍ في الغرب ربما ...
هو يقف أمامك بجسده، لكن روحه في حالة هيام، بين ما رأى في الشرق، وما سمع في الغرب، وحبيبة ٍ يترقب أن يظهر اسمها من الشمال ، وحديث ٍ لم يكمله مع الجنوب، بسبب إنقطاع الإتصال المفاجىء!

لو إفترضنا أن كل البشر في العالم يستفيدون من خدمة الإنترنت، ويعيشون في هذه الحالة، كلّ الناس السائرين بأجسادهم في الشارع وأرواحهم تمر بين الأسلاك بسرعة تـُضائل سرعة الضوء، إذا ما إحتمال أن يجيبك شخصٌ تستوقفه للسؤال عن الساعة؟ أو حتى أن يجيبك أصلا ً، إن ناديته باسمه الحقيقي؟ حالة كهذه تشبه حالة الانتشاء بالمخدرات، الناس في عالمك يسيرون من حولك وهم على أسطح عوالم مختلفة !! لكلٍّ كوكبُه !!

كما أن هذا التـّماس الروحاني نتج عنه إختلافُ صورة الإنسان عند ذاته، فهو أصبح يرى نفسه بأبعادٍ غير تلك التي يراه بها الناس في عالمه الحقيقي. إلا أنه يعود إلى واقع الأرض بمجرد أن يذكـّره أحدٌ بحقيقته على كوكبها. وهنا أرى الوضع أشبه بالشيزوفرينيا، ينفصم الشخص عن ذاته، لأن هناك ذاتا أخرى له تحققت وأثبتت وجودها في عالم ٍ آخر، وهي الذات الأقرب لما يريد ذاته أن تكون، خالية ٌ من عيوبٍ لا حول له فيها ولا قوة. ويصبح الإتصال بالآخرين عبر الذات المنشودة هو تفريغٌ للطاقات الفكرية وإشباعٌ للحاجات العاطفية أيضا، وإثبات للكينونة بعيدا عن عالم ٍ مليءٍ بالمعيقات. وما المخلـّص من الذات البالية المكروهة والعالم المعوّق، إلا بضعة ُ أسلاكٍ وكلمة مرور ، وتحدث النشوة.
ويعجب أحدٌ من تفشـّي " إدمان الإنترنت " ؟

يبدو لي أن سلسلة الإتصال – فالنشوة - فالإدمان هذه ستؤدي إلى ظهور أمراض نفسية جديدة على الباحثين. كما أنها ستعيد تشكيل هرم ماسلو للاحتياجات البشرية ليصبح مستطيلا مقطوعا من منتصفه، تقع الحاجات الجسدية في نصف منه، وفي النصف الثاني تـُجمع الاحتياجات الثانوية كلها مع بعضها : الحاجة للإحساس بالأمان والاحترام والانتماء وإثبات الذات، تـُستبدل كلها بالحاجة للإنترنت. يبقى أن نذكر أن فتاوى علماء الدين قد حرمت الخمر والمخدرات لما تحدثه من عبثٍ في الأرواح وإخلالٍ بعقول متعاطيها، فهل سنرى اليوم الذي تُطلق فيه فتوى تحريم " الشات " ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى