الاثنين ٢٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم السيد نجم

ما تقوله النجوم

لست ممن يحتفلون بانقضاء السنة تلو الأخرى، بزعم أنه يوم الميلاد، وانقضاء الساعات والأيام المقيدة بأسمائهم على الأرض. أزعم أنه كان يوما قاسيا على أمي وعلى!

لا أنكر أنها فرحت بي كثيرا، لأنني كنت السبب الحقيقي الذي أبقى على ارتباطها بزوجها، الذي هو أبى. كما كنت أفرح به صغيرا، لأنه يوم الحلوى والهدايا.. ولا أدرى أين ذهبت بهجة تلك الأشياء؟ هانت بهجة الحلوى وقد نال منى داء السكري، مثلما هانت متعة الأشياء الصغيرة ومشاهدة مباريات كرة القدم في الملعب. تعلقت بجهاز الكمبيوتر أكثر!

ترى لماذا أحتفل بليلة رأس السنة الجديدة؟!

لا أعرف إجابة شافية، كل ما أعرفه هو ما أنهض به دوما في تلك الليلة: أطالع أجنده العام الفائت، أرفع منها ما كان سلبيا وما كان إيجابيا..أقارن في العدد. وجدتها مقارنة ظالمة.

كيف يستوي حدث سلبي بفراق عزيز مع حادثة هزمتني في صراع العمل اليومي..؟ دائما الأرقام عمياء غبية..أكرهها، كما كرهت مادة الحساب صغيرا ونلت بسببها العقاب. وهو ما يبرر فشلي المتكرر مع الباعة النصابين ومغالطتهم لي، المرات القليلة التي أدعى فيها الشطارة، أكتشف أنني المخطئ، فلم أعد أتعمد مراجعة حساب بائع عن حق أو عن باطل.

لن أكشف سرا أن أقول أهم ما أفعله في تلك الليلة منذ سنوات طويلة، أعمد الذهاب إلى مكان بعينه بحي مصر الجديدة، ليس بالمكان الفاخر حتى ترهب الجلوس فيه، ولا هو بالمكان التقليدي. نظيف وهادئ على الرغم من الضجيج المزروع في كل مكان. فيه أحتسي مشروبي وأنا النادم على صغائر أفعالي قبل غيرها. أجلس وحيدا أمام المنضدة المكتظة (المشهيات) التي لا أعرفها تفصيلا، لولا نادل المقهى النوبي العجوز الذي يلقبه الرواد بعاشق ليلة رأس السنة !

يعرفني باسمي ولا أعرف اسمه، ولا يمل الترحيب بي وبالعام الجديد. أطرف ما يقدمه للرواد بسمته الهينة مع زجره للزبائن بتناول ما يقدمه. لعله الوحيد الآن ممن يرتدون القفطان اللامع والعمامة البيضاء مع المنشفة الصغيرة المدلاة من قماط عريض حول خصره ، وعلى الرغم من سنين عمره فلا تجده إلا في حركة ما. كل ما جد عليه خلال السنوات الطويلة أن ترك له صاحب المقهى سلطة إدارة الشباب أصحاب الزي الإفرنجي.. وان علت أصوات خطواته الزاحفة على الأرض!

ذاك اللقاء السنوي بات كفيلا لأن يعرف الرجل عنى أكثر كثيرا عما أعرفه عنه..ولا أدرى كيف أصبحت كتابا مفتوحا له؟

لا ينتظر طويلا فور حضوري، تنشط مجموعات الشباب، تمتلئ المنضدة بالأشياء، أضيف علبة السجائر ليلقى هو بعلبة الكبريت الجديد ثم يختفي في الركن المعتم البعيد قليلا. تلك العلبة ليست الشيء الوحيد الذي يخصني به الرجل. أنا الوحيد الذي ترى على منضدته الكفيار بجوار خيار المزة! لست ثريا، الملعون العجوز يعمد إحضار العبوة الصغيرة خلسة أمامي، بصوته الهامس المعبأ برائحة عطر يخصه لا أعرفه ولا غيري يعرفونه، يقول:"آخر الليلة لي نصف العبوة".

أكثر ما جذبني إليه صمته ونظراته الناطقة، أفصح ذات مرة وأخبرني بسر تعلقه بي.. قال: "لأنك تبكى وحدك وكل الناس تغنى وتضحك!".. ثم مال واقتحم أنفى برائحته متابعا:" ولأنك تشرب بمزاج!!..فلا تسرع كما المبتدئ أو الأهوج الفظ و لا تبطئ كما النسوة"

فلما ابتسمت أخبره بسر تعلقي به .."لأنني أرى فيك أفاعيل الزمن!!" وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها صوته الحقيقي، عاليا ضجرا وكأنني وخزته بآلة حادة ثم قال: "شوف نفسك، ألم تنظر إلى المرآة قبل أن تحضر إلى هنا؟.. شاب شعرك، ترهل جلد رقبتك، ارتخت جفونك، كبر كرشك وان نقص وزنك.. هل تريد المزيد؟!!"

اكتفيت بما سمعت، فضلت الانغماس في متابعة طقوس الرشفة الأخيرة..

كم هي غالية ممتعة، من أجلها أشعلت سيجارة جديدة وارتميت إلى ظهر المقعد حتى كدت التصق به. بحلقت متابعا الوجوه التي لا أراها من حولي.. وان ضبطت النادل العجوز الأسمر بأسنانه اللامعة البيضاء وحده هناك يرمقني. الملعون العجوز الشائخ المجنون أضاع منى متعة الرشفة الأخيرة. وعدت نفسي بالكأس التالية مع رشفته الأخيرة.

لم يتركني وحدي، ألقى بالكتاب أمامي ثم غرب بخطواته المعهودة، العنوان سرق عيني:"ما قالته النجوم للعام الجديد". كان من الممكن ألا أتابع تصفح الكتاب ولا أن أفتح على برج الحوت، لست ممن يقرءون البخت ولا أفضل قراءة الفنجان ولا غيرها. لولا أن قرأت على الغلاف بأنها مقولات الكمبيوتر، وليست من قراء النجوم! "ماذا يقول لك الكمبيوتر عن العام الجديد؟" .. انه الكمبيوتر الذي أعشقه .

لم اهتم بملاحقة الرجل لي وأنا أتابع هرولة في الصفحات.. ولم يعد يشغلني مشهد الغرام بين عشيقين بالمنضدة التي أمامي، وبذاك الشيخ المتصابي وكأنه بصوته الضاحك وملابسه المزركشة ونكاته الفجة يتحدى شيئا ما في رأسه. قرأت ضمن ما قرأت: "احترس من يوم 10أغسطس"!!

ترى ماذا في هذا التاريخ؟

أوقن أن الكمبيوتر هو ذروة التقدم التقني العلمي، على الأقل حتى اليوم. واثق أنا بأن المبرمج اتبع ذروة معطيات نظرية الاحتمالات .. وهذا ما جعلني أشعل سيجارة جديدة.

هل سيكون يوم وفاتي، أم وفاة عزيز لدى.. بل ما علاقة الموت بالبخت أصلا؟ أستر يا ستار.

قد يكون حدث جلل، زلزال يضرب البلاد ، سأنال منه مثل غيري، لماذا إذن يخص مواليد برجي ونحن حوالي خمسة ملايين في المتوسط من سكان البلاد ؟! ..أستر يا ستار.

للمرة الأولى منذ أن عرفت أرض المقهى لمرة واحدة كل سنة..أشوح ألوح للنادل المخادع العجوز. وكأنني سمعت لأول مرة صوت أم كلثوم تغنى من شريط بالعمارة المجاورة.."لن يطيل النوم عمرا، ولن ينقصه طول السهر" !! كما لم أنتبه للبالون الأحمر الكبير وقد كتبوا عليه تهنئة بالعام الجديد.. إلا وأنا أتابع بإلحاح أن يجئ الرجل. افتعل الملعون الانشغال بشجرة رأس السنة الكبيرة وقد زينوها بالمصابيح الصغيرة الملونة.اأظنه يفتعل الانشغال وآلا لماذا يرمقني خلسة هكذا.. ماذا يريد هذا الرجل منى ؟!

كأنه قرر أن يقصف بعنق العلاقة الخاصة بيننا. فشلت لفترة في تفسير أو تبرير سلوكه معي.

نهضت، اندفعت نحوه، دفعته أمامي بجلافة وعنف أكثر من كونه عشم في علاقة خاصة عمرها سنوات لا أعرفها. شجعني أكثر تلك العيون المتابعة من حولي، وصمته ، مع إشاحة وجهه عمدا. ما يخفيه يثيرني أكثر كثيرا مما دار في رأسي من تفسيرات.

"ماذا تريد منى؟"

"أنت تعلم.. أنت السبب"

"لست ممن يقرءون البخت، ولا يعرفون تفسيرا"

" لماذا إذن أحضرت النبؤة ؟"

" بل لماذا تعلقت بها.. قبل أن تسألني، اسأل نفسك" !!

انتهينا إلى نتيجة واحدة اتفقنا عليها.. ألا أفكر ولو للحظة واحدة فيما قرأت. وافقته وتابع وهو منكب على أذني كعادته: " بالأمس فقط انتهيت من كتابة مذكراتي الشخصية.. ألست على وعدك لي بصياغتها من جديد وأنت الشاعر المفوه؟"

كدت أضحك، فلا أدرى ماذا سيفعل الرجل، ربما أقل ما أنتظره منه أن يصافح رقبتي بكفيه حتى يحمل رأسي عليها!!. أعلم مقدار اهتمامه بمذكراته التي لا تعنى شيئا، أعجز عن مصارحته، طوال السنوات الماضية يسألني الوعد بكتابتها من جديد، أوافقه حتى يبرح رأسي ويتركني وحدي.

أنا من محاربي أكتوبر 73، يدي تلك أسرت طيارا منهم، وأحد أفراد الاستطلاع، وهى نفسها التى قبرت الدفعة "عبده المقص" أمهر رماة الجيش الثالث. فتزوجت أخته حتى لا أنسى صديقي، لكنها صرخت فى وجهي ذات ليلة ليلاء وأنا بين أحضانها وأخبرتني بأنها تكره "عبده" مثلما تكرهني بالضبط.

لم أنتبه الى جفونها المتورمة ولا الى احتقان كرتي عينيها ولا الى الصفرة التى اعتلت بشرتها، إلا بعد أن أضأت المصباح. أزحت حديثها الى جانب المزاح والنكتة. عادت وأقسمت أنها دفنت أخيها منذ زمن. فلما اعتبرتها نكتة جديدة، اندفعت نحو رقبتي وتعلقت بها حتى شعرت بانطباق السماء على الأرض، وطلقتها.

وفى العاشر من أغسطس أيضا كسرت ساقي وأنا العب مباراة لكرة القدم، كسرني المجرم عنوة، لأنني تغلبت على فريقه بهدف مباغت فى أول دقيقة. انتهز فرصة كرة مشتركة عالية بيننا.. تركني أعلو وحدي.. قبل أن أعود الى الأرض علق حذاءه.. فسقطت مغشي على، وقد تحطمت عظامي.

ولا أنسى العاشر من أغسطس الماضي، هاجمني اللصوص الملثمون، سرقوني، جعلوني بلا ماض ولا مستقبل. تركوا الفلوس كلها، لم يسرقوا إلا أوراقي.. شهادة الميلاد، شهادة أداء الخدمة العسكرية، البطاقة العائلية، حتى ورقة طلاق أخت "عبده المقص". لم يتركوا لي إلا أصداء ضحكاتهم التى لا أعرف لها تفسيرا، ربما بسبب مشهد وجهي المرعوب.

لا أنكر أنني تعلقت بحديث النادل الملعون، وقد أضاع على احتفاليتي الخاصة برأس السنة الجديدة. لم يترك لي فرصة ولو كانت ضئيلة جدا كي أجد تفسيرا واحدا لهذا اليوم القادم. لم يتركني وحدي ولم يشاركني التفكير.

زاد من جنونه حتى انفلتت العيون والأيادي المتلامسة من حولنا، كما اشرأبت الرؤوس وطالت الرقاب... الكل أرهف السمع لعله يفهم، أن يجد تفسيرا لهياج العجوز الأسمر صاحب الأسنان البيضاء فى الظلمة. لعنني وكل أهلي وأقاربي، بل طال مسئولين كبار فى الدولة،

وصاحب المقهى !!

أصبح همي الوحيد أن يصيح بعيدا عن منضدتي، حتى إذا ما حققوا معه فى قسم الشرطة، فلا يخبرهم بأنه كان يتحدث الى صديقه الذي هو أنا.. وأنا أقسم أنني لا أعرفه، ولا حتى اسمه!!. كان سياج النظرات والعيون شديدا الى حد جعله يصمت فجأة. فتسللت خلسة من مقعدي وقد بدءوا يتجهون نحوه، أدرت ظهري لهم جميعا، أتمتم: " انه العاشر من أغسطس إذن"

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى