السبت ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم مهند النابلسي

متاهة ماركيز ومتاهة العرب!

لقد تبين أن مشروع النضال الحقوقي الانساني العربي قد ولد متاخرا في سياق الغزو الاسرائيلي للبنان في العام 1982، هكذا نجحت الأنظمة المستبدة العربية بالتواطؤ مع الفكر العربي التقليدي الصنمي والسلفي في قمع حركات حقوق الانسان لفترات طويلة، بحجة أنها امتداد للنفوذ والليبرالية الغربية، كما ان ذلك سهل مهمة شل ارادة الشعوب العربية، وتحويلها لجماد عاجز عن الاحتجاح عما يجري من قمع واضطهاد واستلاب وتعذيب، ولكن الرياح جرت أخيرا عكس ما تشتهي سفن الطغاة، وساعدت الأحداث التاريخية على امتداد العقود الثلاثة المنصرمة، وأجواء الانفتاح الدولي وثورة الاتصالات ونسائم الحرية والديموقراطية على انفجار الثورات العربية الجماهيرية في وجه الطغاة والمستبدين والعصابات الحاكمة.
ما كان ينقص امتنا العربية هو انعدام الذهنية العربية الواحدة، ولكن الانتقال السريع لعدوى "الربيع العربي " منذ بداية العام 2011 أثبت وجود هذه الذهنية كامنة في وعي وضمير الشعوب، كما لاحظنا ذلك في تشابه وتطابق مضمون الشعارات والاحتجاجات، وانتقل التواصل بالتخاطر الجمعي، كما ساعدت على تفعيله الفضائيات ومشاهد اليوتيوب ومراسلات الفيس بوك والتويتر........

حتى يتمكن ماركيز من انجاز روايته الشهيرة "الجنرال في متاهته " فقد أجبر نفسه على الخوض في متاهة مرهقة تعتمد على التوثيق الصارم، مستعينا بالوثائق التي لا حصر لها على امتداد قرن ونصف، واستطاع في النهاية انجاز رواية رائعة تلخص سيرة حياة "سايمون بوليفار " محرر أمريكا اللاتينية.

الرواية بمجملها ذات حس تشاؤمي تؤكد نزعة البشر الشريرة لايذاء محرريهم، وربما تلخصه المقولة الشهيرة "لا كرامة لنبي في وطنه "، فبعد ان تقرأ 269 صفحة من "الوصف الابداعي المركز " لنضالات هذا المحرر الكبير في مزيج مذهل من تفاصيل الحياة الخاصة وصعوبات كفاحه واحباطاته، تشعر بأن جهود هذا الرجل قد ذهبت ربما هباء، وان كفاحه كان أشبه بالحرث في البحر ! فهل الشقاء هو قدر المناضلين الكبار اللذين يضحون بكل شيء في سبيل قضايا شعوبهم الكبرى، أم ان قوى الشر الخفية لا يهدأ بال الا بتحطيمها لمثاليات الشعوب المقهورة، يقول سيمون بوليفار في احدى رسائله "يبدو ان الشيطان هو الذي يوجه شؤون حياتي "، ثم يلخص خيبة أمله بقوله: أما انا فضيعت نفسي في حلم أبحث فيه عن شيء لا وجود له ! وعن أمريكا يقول لأحد أصدقائه "......ولا تذهب كذلك مع اسرتك الى الولايات المتحدة، فهي بلاد الجبروت والفظاعة، وهي ستنهي بكلامها عن الحرية الى الايقاع بنا جميعا في البؤس !"، فبعد أكثر من قرن ونصف ألا ينطبق هذا الوصف تماما على "أمريكا المعاصرة "، فماذا فعلت أمريكا وتفعل بشعوب العالم وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني باسم الادعاء بدعم الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان؟ وماذا عن دعمها الغير محدود للكيان الصهيوني وجبروته واحتلاله واستيطانه ! وماذا عن ممارساتها في العراق وأفغانستان وباقي بلدان المعمورة؟ أما عن التجزئة التي كانت تنخر عقائد شعبه يقول الجنرال "جميع الأفكار التي تخطر للكولومبيين هي في سبيل التجزئة، ألا تعبث التجزئة والفرقة والاقليمية والطائفية للآن في عالمنا العربي؟ أما رده على نزعات شعبه الاقليمية فكان اكثر تشاؤما وحزنا، فهو يقول لصديق له ".....لا تتكلف حتى مشقة الرد عليها، فلينتظروا الى أن تنهال فوقي ثلاث حفنات من التراي ليفعلوا ما يحلوا لهم ".

يكمن التناقض بين جنرال ماركيز والطواغيت العرب في أنهم عملوا وما زالوا ضد شعوبهم، وعززوا النزعات الطائفية والاقليمية والفرقة بين شعوبهم، وزرعوا الأجهزة الامنية القاهرة لقمع وارهاب البشر، وسخروا الجيوش والاسلحة لحماية أنظمتهم، كما شجعوا الفساد والسرقة والوشاية، ووضعوا شعوبهم في متاهة لا مخرج منها الا برحيلهم، وخيروا شعوبهم بين امرين (أحلاهما مر )، اما بقاءهم الكابوسي المرعب واما تدمير البلاد ونشر القتل والفوضى والتعذيب والمعاناة والعنف والتخلف، ولكن يبدو أن بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين هي أوان اللحظة التاريخية لخروج العرب من متاهتهم الطويلة، والخروج من المتاهة يتطلب تضحيات عظيمة ومقاومة باسلة وتحمل العذابات والمعاناة، وبالفعل فقد أوشك فجر العرب على الانبلاج، فمن سيعطل صيرورة الزمن القاهر؟

وفيما كرس بوليفار حياته ونضاله لتحرير شعبه ولرفعة شأنه وعظمته ، كرس الطغاة العرب جهودهم على دحر شعوبهم وتحقيرها وتفقيرها ودفعها للاحباط واليأس، وبالتالي تكريس السرقات بالمليارات لهم ولابناءهم واقرباءهم وحاشيتهم المنافقة، في ظاهرة فريدة تحتاج لدراسات معمقة للحالات النفسية وجنون الكراسي والمناصب والعظمة، وأكاد اجزم ان هذه الظاهرة مرتبطة تحديدا بالشخصية العربية المرتبطة بالتربية البيتية واللانتماء واحتقار الآخرين!
وعكس حالة الشعوب العربية الراهنة، ينهي ماركيز متاهته الرائعة بموت الجنرال " اللعنة...كيف سأخرج من هذه المتاهة!"

ولكنه يذكرنا بنبضات الحياة المستمرة وبروح الزمان، محاولا أن يضيء بارقة الأمل في نفوسنا من خلال تعابير مشرقة "...ورأى من خلال النافذة درة الزهرة وهي تمضي في السماء الى الأبد، والثلوج الخالدة، وشجيرة اللبلاب الجديدة التي لن يرى (الجنرال ) تفتح أزهارها يوم السبت التالي في البيت المغلق حدادا، وومضات الحياة التي لن يعيد تكرارها مطلقا، والى أبد الآبدين! ".

وبعد لقد أثبتت هذه الرواية في اعتقادي المتواضع أنه بالامكان التطرق لقضايا المصير الكبرى والخوض فيها دونما حاجة للأساليب الخطابية والسرد الطويل الممل وللثورية الزائفة، فعندما يكون العمل الفني محفور أصلا في أعماق الوعي البشري، فما على الاديب الفنان المبدع الا أن يمنحنا الأدوات ومن ضمنها عدسة كريستالية سحرية، تمكننا من النظر داخل أعماق كياننا لاكتشاف الخفايا الدفينة وتداخلات حياتنا البشرية المعقدة والتي نشعر بها ونعجز عن رؤيتها والتعبير عنها ! وهذا ما أحسن ماركيز بالتعبير عنه في روايته الرائعة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى