الأربعاء ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٢١
بقلم حسن عبادي

متنفَّس عبرَ القضبان (32)

بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.

عقّبت الكاتبة إلهام بلان دعبول: "كل التّقدير للأسيرة على نقل رسالتها لنا عبر الحوار معك أستاذ حسن. والشكر الكبير لمجهودك في إحياء قضيّة الأسرى في الحياة اليومية. أصبحنا نعرف أسمائهم وصورهم وأحاسيسهم وأفكارهم".

وعقّبت الكاتبة فهيمة غنايم: "تلك الفراشات تقبع في زنازين الأسر ومن يعيث فسادا في الأرض يبسط جناحيه يستنزف النور كلما لاح فجره، فك الله أسرهن وجميع أسرانا في سجون الاحتلال.. تحية لجهودكم الجبارة".

"المعتقل مدرسة وهنيئًا لمن تعلّم"

التقيت صباح يوم الاثنين 26 تموز 2021 في سجن الدامون بالأسيرة بشرى جمال محمد الطويل، كان لقاؤنا الثاني، باغتتني بالحديث عن مشاركتي ببرنامج "صباح يا قدس" لتخبرني بأن البرنامج "إجباري" لكل الأسيرات، ويشكّل لهن نافذة تطلّ على الحريّة المشتهاة.
تحدّثنا حول برامج الراية، أجيال، صوت الأسرى وصوت فلسطين الخاصّة بالأسرى ويتابعنها من أجل التواصل مع الأهل في غياب الزيارات ووسائل التواصل الأخرى.

حدّثتني عن صدمتها وزميلاتها حين سماع خبر وفاة سهى، ابنة خالدة، زميلتهن في الأسر ووقفتهن معًا لعبور المحنة، بعيدًا عن الفصائليّة المقيتة، لتتساءل: أين الوحدة بيننا، ولماذا نحتاج للألم كي يوحّدنا؟!

طمأنتها على صحّة والدها الأسير جمال الطويل، وإنهاء إضرابه عن الطعام، وحدّثتني عن اعتقالاته المتكرّرة وتبعيّاتها، مطاردته المستمرّة منذ صحيت على الحياة ممّا صقل شخصيّتها.
تؤمن بأنّ على صاحب الرسالة إيصالها، رغم دفع الثمن ولكن بأخفّ ضرر ممكن.

وصلت لقناعة بأن المعتقل مدرسة وهنيئًا لمن تعلّم.

تعمل بشرى جادّة على كتابة وإعداد كتاب حول تجربتها الاعتقاليّة ووالدها، ذاك الأب الذي ناصر ابنته بأمعائه الخاوية 29 يومًا لينتصر على السجّان، ليكون شوكة في حلق الجلّاد.
تستغلّ وقت الأسر في القراءة والتثقيف، نمّت ملكتها وموهبتها وشخصيتها أكثر وتعمل على ذلك أيضا مع زميلاتها داخل السجن.

"الدفاع عن القيم طريق التحرر والارتقاء"

مع انتهاء لقائي ببشرى أطلّت الأسيرة خالدة كنعان جرار ترافقها ابتسامة خجولة.

تحدّثنا بداية، بطبيعة الحال، عن وفاة وجنازة ابنتها سهى ومشاركة الكلّ الفلسطيني العزاء الصادق والعارم بهذا المصاب الجلل، تحدّثت بحرقة عن صعوبة الفقدان، وتزيد صعوبة حين تكون بعيدًا، ووجّهت جزيل شكرها لكلّ من شارك أو تواصل أو كتب؛ وكم أثلج صدرها حين شاهدت صحيفة المدينة الحيفاوية والصفحة التي تصدّرها عنوان "أودّعك بوردة!" وصورتها تعانق سهى وبجانبها صورة الإكليل، وحين خبّروها بتظاهرة الحراك الحيفاوي جانب السجن. أخبرتها عن الفستان الذي لبسته الفنّانة التشكيليّة رنا بشارة في التظاهرة أمام بوّابة السجن ويحمل أسماء حرائر الدامون.

تحدّثت عن أهمية تذويت القيم الإنسانيّة، فعلًا وليس قولًا، تعوّل على الجيل الجديد، وأهميّة تقبّله للآخر وللتعدّديّة، وعلينا أن ندافع عن تلك القيم لنتحرّر ونرتقي.

تناولنا القراءة والكتابة خلف القضبان، دراسات يكتبنها الأسيرات، دور شروق وميسون ومكتبة سجن/ قلعة الدامون.

يؤلمها الحالة التي آل إليها الشارع الفلسطيني، كفانا تباهيًا من أقلّنا وحشيّة وقمعًا، فـ "كلّنا تحت بُسطار الاحتلال".

كم ارتاحت حين سمعت يافا وغسّان عبر راديو "أجيال" يوم الجمعة وكم تتوق لعناقهم...والوالدة.

"السما الحقيقي"

بعد لقائي ببشرى وخالدة، أطلّت الأسيرة ربى فهمي عاصي عبر ممرّات الدامون بابتسامة طفوليّة شقيّة، بعكس السجّانة المرافقة العبوسة، بادرتني قائلة: "أنا بعرفك، شفتك يوم الجمعة ببرنامج "صباح الخير يا قدس"، ممّا أذاب جليد اللقاء الأوّل بغريبة أصغر عمرًا من بناتي (مواليد 2000).

حدّثتني بدايةً عن تعلّمها الطبيخ (كانت بعيدة عنه كلّ البعد قبل اعتقالها) واللغة العبرية والإسبانيّة، وعن راديو أجيال، بلِمّ الكل، وساعة بثّ برنامج رسائل ذوي الأسرى تسمع صوت الأهالي من كلّ الغرف.

حدّثتني عن اشتياقها لحياة الجامعة وشوارعها... والكافيتريا، وعن الحياة في السجن والبدائل.
اكتشفت داخل الأسوار العالم الحقيقي خارجها وأهميّته، في المستشفى لامست كرسي من العالم الحقيقي (الكنبة!)، وفي طريقها من الزنزانة إلى غرفة الزيارات تشاهد "السما الحقيقي"، ومن طاقة غرفة الأحكام العالية تشاهد السما بدون شبك (ذكرت كلمة "العالم الحقيقي" أكثر من عشر مرّات وجعلتني أستوعب أكثر وأكثر الزمن الموازي للأسير وليد دقة).
حدّثتني عن أهميّة المفتاح بالنسبة للسجين، فحلم زميلتها روان ألّا تفارق المفتاح حين تحرّرها لأنّها ستصير ملكة المفتاح وهي تتحكّم به وليس السجّان.

حدّثتني عن نادي حلوة الرياضي مع بطاقات اشتراك ابتكرنها وعن الشبابيك التي تطلّ على "الفورة" وتحرمهن من التمتّع بالكرمل.

حدّثتني عن القراءة في السجن ورواية وجع بلا قرار للأسير كميل أبو حنيش، تنقصها الخاتمة، ووعدتها بأعماله الكاملة هديّة تحرّرها.

الاعتقال منحها فرصة للتفكير...

كان لقاء غير شكل!

لكن عزيزاتي بشرى، خالدة وربى أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى