متنفَّس عبرَ القضبان (73)
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛ عقّب الأسير المحرّر محمد خلف:"الرفيق وائل الجاغوب التقيت معه في غرفة واحدة في سجن الجلبوع متواضع ثقافته واسعة وصلب وهادئ الطباع وذو خبرة وتجارب كبيرة الحديث معه مثمر وشيق. الحرية تليق به".
عقّب فراس الشافعي (نجل الأسير رائد):"كل الشكر والتقدير لك استاذ حسن قليل الاشخاص امثالك اللي لسا فيهم الحس بالمسؤولية تجاه الاسرى والاهتمام بتفاصيلهم وانشاء الله الافراج العاجل لجميع الاسرى".
وعقّبت الكاتبة صفاء أبو خضره:"أنا سعيدة وفخورة جدا بمنحي فرصة كتابة تقديم ديوان أحمد العارضة راجية المولى أن يفك اسره وجميع أسرانا في القريب العاجل."
"حديث صباحي ممتاز"
التقيت صباح الأحد 05 شباط 2023 في سجن الجلبوع المتجدّد بالأسير وائل نعيم أحمد الجاغوب [1] (بعد أن تم نقله من سجن رامون في إطار سياسة التنكيل بالأسرى) مُطلًا بابتسامة واثقة لنبدأ نقاش شرحه يطول.
تبادلنا أطراف الحديث حول الكلّ الفلسطيني والهويّة الفلسطينيّة الجامعة (تابع مشروعي التواصلي عبر صحيفة القدس)، أهميّة سقوط الحواجز والتركيز على ال-14 مليون فلسطيني؛ شعب واحد وقضيّة واحدة، وكلّ فلسطيني في مكانه مؤثّر، والنقد الخجول خلّص ما عليه. نعم، وجدته مناضلًا صلبًا لا يليِن.
وكذلك تناولنا الوضع الثقافي؛ حيّز مشتبك متقدّم، وكفانا أن نستقوي على الواقع بالشعارات الرنّانة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
الداخل الفلسطيني بات مستهدفًا، والوضع مؤلم ومقلق، لكن الرافعة فقط من الداخل،"أنا مش عنوان التغيير"، وعليه يتوجّب ترجمة غضب الشباب لفعل سياسي حقيقي، فهناك أجيال جديدة متمرّدة على الوضع القائم المتكلِّس.
كلّمني بثقة وصلابة وعنفوان وثوريّة بريئة، لديه رؤية ورؤيا للمشهد وما يتوجّب فعله، ما زال حالمًا ولم ينجح الأسر والسجّان بكسر شوكته وترويضه.
حين افترقنا صافحني عبر الزجاج المقيت ملوّحًا بيده:"حديث صباحي ممتاز".
"ما بالُ عَيني لا تجفُّ دُموعُها"
بعد لقائي بوائل أطلّ الأسير رائد عليان عيد شافعي [2] مبتسمًا وعاتبني قائلًا:"استنّيت هذا اللقاء من زمان!".
تناولنا مشروعه الثقافي ولروايته المرتقبة"معبد الغريب"، الاغتراب داخل الوطن، يافا التي لم تأت بالمركب – يافا قبل البحر، وشطحته الحيفاويّة حين سافر مع الحلم إلى أعالي الكرمل.
حدّثني عن الحلم والواقع، تغيير المفهوم والقيَم وفقدان الذاكرة الجمعيّة وعن قريته المهجّرة – بيار عدس، والوضع داخل السجن، يذكّره بالحكم العسكري في الداخل الفلسطيني إبّان النكبة، خلق مخاتير وزعامات والتحوّل إلى ثقافة عبيد، لا أكثر ولا أقلّ، والصراع مع المنظومة قبل الإدارة، أزمة مؤلمة.
تحدّثنا عن ضرورة تناول إنسانيّة الأسير، فالبطولات يوميًا على شاشات الفضائيات ولسنا بحاجة إليها.
صوّر لي أثر القزاز اللئيم على الأسير، وعن احتضانه لفراسه مرّة واحد منذ أسره! (كان عمر فراس ستة شهور حين اعتقاله وصار عشرينيّ)، وحدّثني بحرقة أنّه خلال اعتقاله فُجع بوفاة ابنته الكبرى"دنيا"وكانت تبلغ من العمر حينها 6 سنوات بحادث سير (مواليد 07.02.1999 وتوفيت يوم 04.03.2005)، ثم فُجع بوفاة ابنته الصغرى"رانيا"بحادث سير آخر بعدها بـثلاثة شهور فقط) مواليد 24.10.2000 وتوفيت يوم ميلادها 24.10.2005) ولم يسمح له الاحتلال باحتضانهما أو إلقاء نظرة الوداع عليهما وبعدها توفى والده دون وداع. صُدمت من حديثه، موجع ومؤلم يا رائد. أخبرته أنّه ليس من عادتي الغوغلة قبل اللقاء الأوّل بالأسير كي لا أكون مرتشي بفكرتي حوله.
في طريق عودتي إلى حيفا رافقني المشهد...وجاءني ما قاله أبو ذؤيب الهذلي:
ما بالُ عَيني لا تجفُّ دُموعُها
كثيرٌ تشَكّيها قليلٌ هُجوعُها
"هل بوسع بحر يافا أن يستوعب؟"
بعد لقائي بوائل ورائد أطلّ الصديق الأسير أحمد تيسير خليل العارضة [3] وتلازمه رفيقة دربه التي اعتدتها، تلك الابتسامة الخجولة، أوصلته سلامات وائل (يمكث معه في ذات السجن دون لقاء)، سلامات زوجتي سميرة وجيفارا البديري وتناولنا قليلًا زيارته ليافا ومشاركته حفل إشهار ديوانه"خلل طفيف في السفرجل".
تناولنا مشروعه الثقافي؛"خربشات على نون النسوة"و"درج إلى القمر"ورغبة الصديقة صفاء أبو خضرة بكتابة تقديم أو تظهير لإحدى أعماله القادمة فعبّر عن سعادته وطلب إيصالها سلاماته وشكره.
ناقشنا فكرة أمسية قريبه له في عمان ضمن مبادرة"أسرى يكتبون"مع رابطة الكتاب الأردنيين، وأدب السجون والحريّة ومستجدّاته.
تحدّثنا عن بحر يافا وبحر حيفا، وهل بوسعهما استيعاب كلّ"المليح"الذي نعمله ونزتّه هناك؟ وعن تلك الهالة المقدّسة التي يجب تعريتها.
تواعدنا أن نلتقي قريبًا في حيفانا ويافاه ونتمتع ببحرهما.
في طريقي مغادرًا جاءتني كلماته:
"أهديكَ حيفا أو حياتي
فانْتَقِ ما شئتَ تَحْظَ بالدلالْ
أو فارتحلْ عنها وعنّي إنْ أَرَدْتَ
وقُلْ بأنّي حينَها أَجْراً مَنَحْتُكَ للزوالْ
أو فارتضي
لا فَرْقَ حتى
إنْ حَظِيتَ بها كجوهرةٍ ثمينةْ
أو حَظِيتَ بنصفِ عشقي للمدينة"
لكم أعزاءي وائل ورائد وأحمد كل التحايا، والحريّة القريبة لكُم ولجميع أسرى الحريّة.
[1] الأسير وائل الجاغوب، أُعتقل يوم 1 أيار 2001 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن المؤبد.
[2] الأسير رائد الشافعي، اعتقل يوم 28 تموز 2003، حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن المؤبد.
[3] الأسير أحمد العارضة، أُعتقل يوم 2 تشرين ثاني 2004، حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً بالسجن المؤبد.