الأحد ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٧
"معجَمٌ بكِ" في متنِهِ
بقلم آمال عواد رضوان

متنُ الشاعر محمد حلمي الريشة

بإيعاز من "د. فهد أبو خضرة" أجدني مطالَبة بقراءة المجموعة الشعرية "معجمٌ بكِ" للشاعر محمد حلمي الريشة للندوة القادمة، من بعد أن أوكل إليّ في الندوة السابقة قراءةً حول "أصابع" للشاعرة منى ظاهر، فهل تراني أنجح بقراءة فصول فيوض الشاعر الريشة كما ينبغي؟ آمل أن أنجح بهذه المهمة الشاقة.

الشاعر محمد حلمي الريشة يتسربل عباءة سحرية، من سحب وجدانية فضفاضة واسعة المدى، تزخر بمطر حسيّ ينهمر غزيرًا على أرض عطشى تتشرب ماءه وتتشبع، وما يستفيض يغدو فِضاءً تجري جداوله أشعارًا وأنهارًا وبحارًا يسبر غورها، وسرعان ما يعتلي موجة ثائرة، ينطلق ويحلّق في حيّز فَضاء رحب يتّسع لشقاوة حرفه، فيغوص في الفَضاء ويحلّق فيه، ليفضي بخبايا سرائره ولواعجه، فيفيض ويتفايض بانسياب محنّك، بخبرة شاعر ماهر، يفضّض الصور الشعرية، يرصّعها ويموّهها بجمالية فائقة، فهل يبلغ لفضاوة البال ببياضه، ويخلو من الهمّ والكمّ الزاخر به؟
هذا المستأثِر بحرفه والمستأثَر بحسِّه، كيف يترجم نفسه بعلاقةٍ وطيدةٌ أواصرها، متينةٌ شاعريتها في متون الشعر؟

لَمْ أَكُنْ لأَبْدَأَهُ كِتَابًا/ أَوْ أُعِيْدَ تَهْجِئَتَهُ ../ هُوَ فِي مَتْنِهِ مَتْنِي!

إِغَارَةُ أَثِيْرٍ أَشْرَعَتْ غِلاَفَهُ/ تَرَاقَصَ أَوْرَاقًا ../ أَنَا أَعْزِفُهُ خَفْقِي!

كِتَابُهُ دُنُوُّ شَجَرَةٍ/ بِعُرْيِ لَيْلِ حَفِيْفِهِ ../ أُسَامِرُهُ بِثِيَابِ ثِمَارِي!

سَمْتُهُ مِنْ قَبْلُ/ وَجْهُهُ بِعُنْفُوَانِ تَوَهَانِهِ ../ كَيْفَ لَمْ أَعْرِفْهُ فِيَّ!

عَبَثَتْ بِأَوْصَافِهِ الرِّيْحُ/ أَغْمَضَ أَهْدَابَ دَفَّتَيْهِ ../ أُفَتِّحُهُ قِرَاءَةً وَاحِدَةً!

مَلِيْئَةً بِفَارِغِ وُجُوْدِي/ كَانَتْ سُطُوْرُهُ ../ يُرَطِّبُ إِبْهَامِيَ فَأَقْلِبُهُ!

طَافِحٌ بِحُرُوْفِ العَطْفِ/ نَافِرٌ بِنُوْنِ نِسْوَةٍ وَاحِدَةٍ ../ أَلْثُمُهُ صَفْحَةً .. صَفْحَةً!

مِنْ خَلْفِ سِيَاجِ المَسَافَةِ/ يُناثِرُنِي جُوَّانِيَّةَ أَبْجَدِيَّتِه ../ أَمْتَصُّ حُرُوْفَهَا لِيَكْتُبَنِي!

مَرَّةً أُوْلَى وَأُخْرَى/ خِلْتُهَا كِتَابَةَ كِذْبَةٍ ../ مَا أَرْفَفْتُهَا حِيْنَ صَدَقَتْنِي!

يَتَفَتَّحُ قُرْبِي تَعَاذُبَ أَجْوِبَةٍ/ تََتَعَذَّبُ يَدَايَ فَرَاغَهَا مِنْهُ ../ أَسْئِلَةً أَكْثَرَ بِاتَ حِضْنِي!

وَقْعُ رَائِحَةِ رِقَاعِهِ/ يَشَّاهَقُ هَدْرَ تَنَفُّسٍ يُشْتَهَى ../ أَدُسُّ أَنِيْنَهُ فِي وِسَادَتِي!

مَا أَسْغَبَ انْتِهَائِيَ مِنْهُ/ يُغْلِقُ جَنَاحَيْهِ عَلَى وَقْدَةِ نُعَاسِي ../ فَجْرًا أَبُثُّهُ أَمْوَاهَ شَوْقِهِ إِلَيَّ!

تَتْرُكُ كَلِمَاتُهِ آثَارَ نَرْجِسٍ/ عَلَى شُرْفَةِ الشَّفَتَيْنِ ../ أَضُمُّهَا اشْتِعَالاً طَيَّ قُبْلَتِي!

فِكْرَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُ اسْتَرْخَتْ/ صُوْرَةً مَائِيَّةً ../ أَنَا تَحْتَ ظِلِّ سُطُورِهِ!

كَانَ ثَمَّةَ افْتِرَاضُ امْرَأَةٍ/ تَتَشَبَّثُ بِحَوَاشِي قَلْبِهِ ../ الآنَ ثَمَّتِي أُنْثَاهُ!

(قصيدة: "كتاب"، ص 62- 67)

من خلال قصيدة "كتاب"، والتي هي ترجمة جليّة مفصِّلة لكينونة الشاعر وما يرمي إليه، يمكن أن نستشف من خلال سطورٍ معدودة، شخصية الشاعر محمد حلمي الريشة، بعلاقته الصادقة مع عالمه الذي يتجلى فيه وينجلي، ألا وهو الشعر.

"خَالِفْ ..تُعْرَفْ!"

نعم، هذا هو مسار الشاعر بكل المضامين والمضامير، مبتدئًا من صورة الغلاف والعنوان معًا، اللذين يشكلان معًا فاتحة تساؤلات هائمة مهيمنة تضج بتخيل لا محدود، ثمّ الإهداء الغريب، والأغرب من كل هذا وذاك، هو شِقَيّ الكتاب "ما قبل" و"ما بعد".

العنوان "معجمٌ بكِ" من الفعل أعجم، فما الذي يقصده الشاعر بين نقيضَي المعنى المبهم الجليّ؟
أكأنما هو المبهم الغامض وهي وحدها من تزيل إبهامه وتفسّره وتترجمه؟ أم هي وحدها من تشكّل قاموسه اللغويّ ومفرداته الحسية الشاعرية؟ أم هو المفسّر بها والمبهم بها في الوقت ذاته؟

بين "معجمٌ بكِ" و"معجبٌ بكِ" حرف فاصل، وبين حرفي الباء والميم يبذر الشاعر الريشة بذار تمويه وتحيير في تربة القارئ، تنتظر مطرًا غزيرًا حميمًا يرويها، لتنبت أغراس جمال وشعر حين يُدرَكُ المعنى!
هذا النوع من الشعر يتطلب قراءة واستقراءً خاصًّا من قبل القارئ كي يتتبع المسارات بآثارها، كما لو كان القارئ يقود مركبة خيالية بين جزر سحرية، تحتاج إلى مهارة فائقة في فنون قيادتها المتميزة، فالمسارات البرية تغص بمشاة ومركبات وحافلات تسير بسرعة وبلا نظام، تتعرض خلالها لمطبات ومفاجآت عديدة غير متوقعة، وبلباقة مفاجئة تنتقل من برية إلى بحرية، وفجأة تجدك أمام هاوية عميقة، فتجعل منها مركبة فضائية لتعبر بسلام... فهل تصل بسلام؟ وكيف؟

صورة الغلاف

اللوحة المرسومة على الغلاف فيها من الغرابة التركيبية واللامنطق ما يثير التساؤل والاستهجان!
العين؟ أنثى الغسق تمشي فوق حاجب العين المائي؟ الزرقة والبياض يتناقضان ويتناصفان إلى حدٍّ ما؟
فما الذي يقصده الشاعر؟ أهي مجرد لوحة لا ترابط بين أجزائها، أم أن كل جزء فيها له دلالاته المختزَلة، والتي تجسّد مضامين النصوص المكثَّفة؟

ثَلاَثُ صُوَرٍ لَكِ هِيَ قُطْفَتِي مِنْ طَاقَةِ أَلْبُوْمِنَا
هي مفتاحٌ أساسٌ لحلّ خطوط الشيفرة بألوانها السريّة، فاللوحة تتلوّن بلونين متناقضين شبه متناصفين تقريبًا ومائلين يشكّلان قطبين، الكحليّ في أعلاه والأبيض في أسفله، فما وراءهما من معنى ومغنى؟

وَأَنْتِ تَجْلِسِيْنَ عَلَى صَخْرَةٍ هِيَ فَوْقَ ضِفَّةِ اختِلاَطِ نَهَرِنَا بِنَهَارِنَا
أهو اختلاط النهر بالنهار؟! عين من تكون تلك؟ ألعلها عين الشاعر؟ أم عين الكاميرا؟ أم هي عين كلمة "شعر"؟
لو تنبهنا لوجدنا كلمة شعر مكتوبة بخط أزرق صغير ومرسومة رسمًا بالكحلي وفي طرفها الأيسر حمرة تمتد إلى حرف الراء كأنما تنزف، فما دلالتها الدموية؟

وَمَيْلُ عُنْقِكِ الوَرْدِيِّ [بَعْدَ بَدْءِ انْطِوَاءِ يَنَاعَةِ دَمِي] يَذْبَحُنِي وَرِيْدًا وَرِيْدًا بِشَقْوَةِ دَلاَلِه!
أهي عين الشاعر تنزف الحسرة والذكريات الخوالي؟ أم عين كلمة "شعر" تنزف لوعة حبٍّ مضى ولا زال يسري في الوريد ومجرى الدمع النازف؟

ما بين الأبيض والكحليّ سحابة أو جدول ماء أو جسر متقوس بلون أزرق مخضوضر، فهل هو حاجب العين؟ وكيف اتخذ لونه ومن أين؟
وَأَنْتِ تَرْتَقِيْنَ بِيَمَامِ خَطْوِكِ تَقَوُّسَ جِسْرِ الجُنُوْنِ الجَمِيْلِ نَحْوِي
...
تَمْنَحِيْنَ لَوْنَ زُرْقَةِ قَمِيْصِكِ وَاخْضِرَارِ حُبُوْرِكِ لِتَمَوُّجِ مَائِهِ كَأَنَّهُ صَدْرُكِ يَتَنَهَّدُ..
فوق الجسر تقف هي؛ الأنثى الحبيبة، فاردة جناحيها وقد تسربلت لون الشمس في غروبها:
أَنْتِ مُنْتَصِبَةٌ تَتَّكِئِيْنَ عَلَى رَذَاذِ سَحَابَةٍ، وَتَفْرِدِيْنَ حُنُوَّ جَنَاحَيْكِ نَحْوَ بُرْتُقَالَةِ الغَسَقِ..
صور رائعة مختزلة في كلمات مقتضبة، تلازمها ريشة ساحر يرسم الصور، يشكلها ليبعث فيها روحًا شعرية تحييها.

الإهداء الغريب!

لقد ترك الصفحتين المتقابلتين تطفحان ببياضهما وليذيّل الجهة اليسرى السفلى بإهدائه صغير الحروف ودون الإشارة إلى الإهداء إذ يقول:

إِلَيْهَا .. وَلُغَتِي ؛
تِلْكَ الَّتِي لاَ أَغْتَصِبُهَا
إِنْ لَمْ تُمَتِّعْنِي

هو مدخل إلى عالم فوضاه، ولغته هي أنثاه التي يفضّ بكارة حروفها بحنان وحرص، وبشفافية منسابة يختزل العناصر والأشياء والتفاصيل ليبلغ لبّ الثمرة، حيث الجوهر دون القشور، بلغته السحرية يكسر الثوابت بلباقة دون أن يشظيها أو يخدشها، وهنا تكمن براعة الشاعر، وكأنه يمسك بسكين ماسيّ حادّ، يقتطع الأجزاء الزجاجية الرهيفة دون خدش عصبها!
قراءة شعر الريشة تحتاج حنكة خاصة بكيفية التعامل مع النصوص الغاصّة باللانظام وبالفوضى الشعرية، كيف؟ وهل لفوضى الريشة أنظمة مبتكرة ثابتة؟ مؤطرة؟ محدودة؟

هو الفوضوي المتحرر؛ تستفزه سلطة ونظام اللغة المألوفة بأنماطها وروتينها، يتمرّد فيجعل نصوصه عارمة بالفوضى، يرفض الخضوع لنظام سائد متعارف عليه، بل يبتكر أنظمة متقلبة متميزة ترتع على مسارح التجربة الخاصة وشاشات الذكرى، فلا ثوابت في لغته، بل دائمة الحركة والاستحداث، حروف نصوصه تغلي في قِدرٍ شعريٍّ يشتعل، لا يعرف السكون والانطفاء أو البرود، وثمة عناصر أساس تميز شعر الريشة كلغة تمرد.

عناوين النصوص

نلاحظ جميعها تتألف من كلمة واحدة: "لألأة، حواس، نشيش، اختزال، أشياء، جنوح، لجأة، كتاب، اشتراق، رنين، نعاس، بياض، تخابب، كمان، رواغ، خشخاش، رغوة، زوال، سأم، جويس"، ماعدا اسم الكتاب مؤلف من كلمتين "معجمٌ بكِ"، وهذا يؤكد حالة الذوبان والثنائية المنصهرة بالتلاحم "أنا بِـ أنتِ".

لغة التأنيث المهيمنة في معظم نصوصه

الأنثى في شعر الريشة تحتل مساحة شاسعة، حجمًا كبيرًا وكثافة شفيفة، تلك الغائبة قالبًا والحاضرة قلبًا، يمتلئ بها وبتفاصيلها، ثم يتلوها نشيد لوعة في أقبية فراغه وغيابها القصري، ويأبى إلاّ أن تورقَ حروفه الشوكية، فتونعَ أصابعه بها ثمارًا شهية.

المعايير المألوفة

الكتاب يحتوي ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: يسمّيه "ما بعد"، والقسم الثاني: يسمّيه "ما قبل"، والقسم الثالث يسمّيه "جويس"، وهو بالتالي يبدأ من الثاني إلى الأول، على عكس المألوف، فما قصده بـ"ما قبل" و"ما بعد" ؟ وهل تتوقع أن يبتدئ ترقيم الصفحات تنازليًّا وليس تصاعديًّا؟ أو بترقيم مغاير مبلبلاً القارئ بفوضاه؟

التشكيل الصوري

يبدو واضحًا من خلال الغلاف، أنه يرسم الكلمات بالصور ويرسم الصور بالكلمات:
ثَلاَثُ صُوَرٍ لَكِ هِيَ قُطْفَتِي مِنْ طَاقَةِ أَلْبُوْمِنَا: وَاحِدَةٌ وَأَنْتِ مُنْتَصِبَةٌ تَتَّكِئِيْنَ عَلَى رَذَاذِ سَحَابَةٍ، وَتَفْرِدِيْنَ حُنُوَّ جَنَاحَيْكِ نَحْوَ بُرْتُقَالَةِ الغَسَقِ.. ثَانِيَةٌ وَأَنْتِ تَجْلِسِيْنَ عَلَى صَخْرَةٍ هِيَ فَوْقَ ضِفَّةِ اختِلاَطِ نَهَرِنَا بِنَهَارِنَا، وَتَمْنَحِيْنَ لَوْنَ زُرْقَةِ قَمِيْصِكِ وَاخْضِرَارِ حُبُوْرِكِ لِتَمَوُّجِ مَائِهِ كَأَنَّهُ صَدْرُكِ يَتَنَهَّدُ.. ثَالِثَةٌ وَأَنْتِ تَرْتَقِيْنَ بِيَمَامِ خَطْوِكِ تَقَوُّسَ جِسْرِ الجُنُوْنِ الجَمِيْلِ نَحْوِي، وَمَيْلُ عُنْقِكِ الوَرْدِيِّ [بَعْدَ بَدْءِ انْطِوَاءِ يَنَاعَةِ دَمِي] يَذْبَحُنِي وَرِيْدًا وَرِيْدًا بِشَقْوَةِ دَلاَلِه!

لِسَانُكِ العُصْفُوْرُ
الَّذِي نَقَّرَ صَوْتُهُ غِشَاءَ حُلُمِي
قَدِرَ أَنْ يَهْتِكَهُ بِحَنَان !
...
حِيْنَ، فُجْأَةً، بِالبَابِ أَنْتِ
لَمْ يَسْتَطِعْ
سِوَى
أَنْ يُسَلِّمَ إِطَارَهُ لِيَدَيْكِ الجَانِحَتَيْنِ
وَيَمْضِي بِزَوَايَاهُ يَغْبِطُنِي !

عصفور الساعة يقف على زنبرك، يخرج لينبئنا بالوقت عند تمام الساعات، ويأبى الشاعر إلاّ أن يجعل المجرد محسوسًا والصوت ملموسًا، فيهتك صوتها غشاء حلمه ليصير واقعًا، ويتفاجأ بحضورها الباب أيضًا، ليسلّم إطاره ليديها مُغبِطًا الشاعر بها! (تأنيس للباب في روعة استقبالها).
في قصيدة "رنين" الرقم سبعة تكرر سبع مرات بسبع فقرات وبقصدٍ مازجًا بين الكلمة ومدلولها، ليزاوج عدد الفقرات بالرقم سبعة.

يتجلى في شاعريته المجنونة، وبلغته المغموسة بخيال لا محدود، وصوره تتجدد فيها أمواه الغرابة وشلالات الدهشة، فتارة يُلبس الصور معانٍ ويخلع عليها رداءات لفظية مغايرة غير متوقعة للقارئ، وتارة أخرى يُعرّيها تمامًا من دلالاتها، فيخلخل نظام الجملة بتراكيبها، وكذلك الكلمة بتقطيع أوصالها، جاعلاً القارئ مستنفَرًا على الدوام، متلاعبًا بالإيقاعات الحركية اللونية واللفظية، لكنه يحافظ بدقة على وحدة وزن ثابتة دون نشاز.

التشكيل البصري
جعل للكلمات المتفرقة الثلاث الأولى رسمًا هندسيًّا:
نَجْمَةٌ
ضُحًى أَرْبعَِاءٌ
بشكل المثلث وقد أكده شكلاً بصريًّا في الكلمات الثلاث التالية:
مُثَلَّثُ
وَرْدَةِ الوَجْد
تصوير المعنى بميل درجات كأنه يصعد درجًا:
لاَ يُقْرَأُ اللَّيْلُ بِرُطُوْبَةِ وِسَادَةٍ فَقَطْ ؛
هذِهِ مُرَاهَقَةٌ تُ
رَ
ا
قُ
عَلَى
مَنْفًى
يَتَنَفَّسُ
صُعُوْدًا
عَبْقَرِيًّا
تفكيك الكلمات لحروفها طوليًّا وعموديًّا:
تَ
تَ
دَ
لَّ
ى
تفكيك الكلمات لحروفها عرضيًّا وأفقيًّا:
يَ تَ نَ ا ثَ رُ
تفكيك الحروف والكلمات والجمل بشكل مائل:
الميلان يتماثل مع المعنى، فيعطي للكلمة وللصورة ظلال المعنى:
يَنْحَنِي
لَكِ ..
لِي ..
لَنَا ..
(شكل الانحناء في ميلانه المتدرج)
ها أَنَا مُقَشَّرٌ مِثْلَ جَسَدٍ،
دُوْنَ ظِلِّهِ،
يَرْتَجِفُ دِفْئًا
مِنَ احْتِكَاكِ مُرُوْرِكِ
فَوْقَ
سِكِّيْنِي!
يعطي للجسد ظلاً راسمًا ذاك الظلّ بالكلمات بعيدًا عن الجسد..
يَبْدَأُ اللَّيْلُ مِنِّي ؛
عَتْمَةَ تَمَاهٍ بَيْضَاءَ
لِيَنْتَهِيَ
نُوَّارُهُ
فِيْكِ!
كأنما صدى العتمة يتخافت رويدًا رويدًا بذبذبات خفقاته..
وَبِفُجْأَةٍ مُوَارَبَةٍ ،
وَلُجْأَةٍ خَفِيْضَةٍ
مِلْنَا
مَيْلَةً
عَالِِيَةً!
تمثيل للميلان المصوّر..
مُعَلَّقَةً أَضْحَتْ ، عَلَى صَدْرِكِ ، قَصِيْدَتِي ؛
نَجْمَةً دَائِخَةً بَيْنَ مَذْبَحَيْنِ ..
مَحَارَةَ دُوَارٍ حَوْلَ انْحِنَاءَاتِهِمَا ..
- وَهُوَ ؟
آيَةُ طَلِّ عُشْبٍ يَقْطُرُ عَطَشِي
قَطْرَةً
قَطْرَةًً
قَطْرَةً!
تصوير لتقاطر القطرة أثناء التنقيط..
رَيْثَمَا تَنْضُجُ حَبَّتَا الوَجْهِ بِوُضُوْحِهَا ،
وَيَمِيْلُ بِدَلاَلٍ
مَيَّاسُ
غُصْنِهَا
نَحْوِي!

نلاحظ هذه الميلانات تمتثل بطواعية لسحر كلم الآسرة في قصيدة "نعاس"، وبشكل واضح في جميع أجزائها المفككة المتصلة، المتماثلة المتمايلة مع ألحانها الراقصة في غنج:

مَا بِهَا تِلْكَ النَّظْرَةُُ الشَّقِيَّةُ ..
يُدْرِكُهَا
النُّعَاسُ
كُلَّمَا
أَيْقَظَتْنِي!
...
ثَغْرُهَا نَحْلَةٌ تَتَعَسَّلُ غِنَاءً ..
لَوْ
أَرْشِفُهَا
انْسِكَابَ
طَرَبٍ !

الشاعر الريشة يجعل القارئ متأهبًا للصدمات متوثبًا للصعقات، حذرًا في تخطيه صورًا تتأرجح بين البناء والتقويض، فالنصوص حافلة بطقوس خاصة تبثّ وجه القارئ بتعابير تتغامز بين البسمة والدهشة.
والشاعر الريشة يرتقي في شعريته بعذوبة، لكن القارئ البسيط الذي يعاني من اللياقة القرائية لهذا النوع من الشعر، يجري ويجري محاولاً أن يستقرئ تلك الصور بغرابتها وهو يلهث، فيستعذب ويتعذب، وبين العذوبة والتعذيب يترك القارئ فاغرًا فاه، علّه يلتقط أنفاسه، لتتنامى الدهشة في عينه ونفسه.

بين مدّ التضادات وجزر التناقضات، يتجلى شعريًّا بتمايز في إبداعاته واختلاجات مشاعره، تؤهله جراءة ما أن يُقْدِم دون توانٍ أو وجلٍ في تأملاته وابتكاراته، وبين الضوء الخافت والعتمة، ينسج الحكايات بتناغم جامح، فلا تتكشف الصور بكاملها، بل تظلل أجزاءَها غشاوة ضباب، كأنما تسلط ضوء فانوسك في مغارة كاريستية، فلا ترى بوضوح كل الأشكال الكلسية بها، بل جزءًا بسيطًا مسلطًا عليه الضوء تبعث على الدهشة، وكلما تابعت التأمل تزداد انبهارًا.
يرتكز الشاعر الريشة على دلالات وإشارات محظورة ورموز ضمنية لا تعرف التأطير، يشكلها بأسلوب مرهف، منتقلاَ من صورة إلى إيحاء، معتمدًا في كل خطوة تشبيهًا وتصويرًا ينسابان دون كلل.
كذلك له أدواته المعجمية الخاصة بمفرداته المتميزة، يحصد غمار لغته ليدرسها على بيادر نصوصه، فتنزف أطراف أنامله شجنًا عاصفًا ساكنًا مذهلاً، وتبوح سريرته بطقوسه الغامضة المضببة، ويظل النصّ عابقًا بصداه. \

بِلَحْظََةٍ أُوْلَى
أَطْفَأْنَا ظَلاَمًا ؛
بِنَدَى يَدَيْنَا الوَرْدَتَيْنِ
وَاشْتَعَلْنَا شَمْعَتَيْنِ ؛
بِذُبَالَةٍ وَاحِدَة !
هي القبلة في جعل الجسدين المتلاحمين روحًا واحدة..

لغته مغموسة بالخيال وصوره متجددة من حيث البنى والمعاني
يتطرق إلى أدق التفاصيل والتي لا تهمّ بشكل خاص، لكنه يجعل منها ذات أهمية وقيمة فائقة، فيتوغل في الذاكرة محققًا التماسك الداخلي من حيث الفكرة والبنية الشعرية والإيقاعية، ويزاوج بين الإيقاع واللفظ والحركة.
في قصيدة "أشياء" لازال يحتفظ بأشيائها وذكرياتها، فرشاة شعرها، كاميرا، حقيبة، خاتم، لآلئ... تلك اللحظات بمكنوناتها الحميمة يسترقها لتدثره بدفئها، وإن مرّت يعيد إليها الحياة، وإن سكنت يعيد إليها حركتها، فيستحضر الماضي بتناغم هامس، ويفكك الوقت ويعْتق اللحظة من سلاسلها، يجعل لها أجنحة تحلق في آفاق وفضاءات لا متناهية، ويكون للحظة الملغوزة صدى موسيقيًّا فريداً.

الخَاتَمُ الَّذِي اسْتَقَرَّ هَالَةَ رَوْنَقٍ حَوْلَ إِصْبَعِي [بِفِعْلِكِ البَرِيْءِ] أَتَحَسَّسُهُ آنًا بِآنٍ؛ لَيْسَ تَأْكِيْدًا لِوُجُوْدِهِ يَلْتَفُّ حَوْلَهُ فِي خُشُوْعٍ، بَلْ لأَرَاكِ إِذْ تَرَكْتِ رَسْمَ وَجْهِكِ النَّبِيْلِ عَلَى ضَرَاعَةِ عَيْنِهِ وَفِضَّةِ مِرْآتِه!
...
ثَلاَثُ صُوَرٍ لَكِ هِيَ قُطْفَتِي مِنْ طَاقَةِ أَلْبُوْمِنَا: وَاحِدَةٌ وَأَنْتِ مُنْتَصِبَةٌ تَتَّكِئِيْنَ عَلَى رَذَاذِ سَحَابَةٍ، وَتَفْرِدِيْنَ حُنُوَّ جَنَاحَيْكِ نَحْوَ بُرْتُقَالَةِ الغَسَقِ.. ثَانِيَةٌ وَأَنْتِ تَجْلِسِيْنَ عَلَى صَخْرَةٍ هِيَ فَوْقَ ضِفَّةِ اختِلاَطِ نَهَرِنَا بِنَهَارِنَا، وَتَمْنَحِيْنَ لَوْنَ زُرْقَةِ قَمِيْصِكِ وَاخْضِرَارِ حُبُوْرِكِ لِتَمَوُّجِ مَائِهِ كَأَنَّهُ صَدْرُكِ يَتَنَهَّدُ.. ثَالِثَةٌ وَأَنْتِ تَرْتَقِيْنَ بِيَمَامِ خَطْوِكِ تَقَوُّسَ جِسْرِ الجُنُوْنِ الجَمِيْلِ نَحْوِي، وَمَيْلُ عُنْقِكِ الوَرْدِيِّ [بَعْدَ بَدْءِ انْطِوَاءِ يَنَاعَةِ دَمِي] يَذْبَحُنِي وَرِيْدًا وَرِيْدًا بِشَقْوَةِ دَلاَلِه!

الصور المركبة تركيبًا مقلوبًا بنقائضها

في معرضه الفنيّ التصويريّ، يطفح الزمان بنكهة غرابة، وتعم المكان رائحة دهشة، إذ ينحت الفكرة بخبرة شاعر ليجسّدها ويسربلها رمزية مجردة من كل افتعال أو تصنع، بدون حدود ودون التفات إلى الوراء، يعبر فضاءً شاسعًا متجاوزًا كل إشارات المرور، فلا يأبه باكتمال الصورة أو انتقاصها، بل يتابع في تصوير الفكرة المضمرة بحركة دؤوبة، بطاقة لا تفتر ولا تنفذ، يخلق عالمًا جديدًا مغايرًا بتراكيب مستحدثة ودلالات متناسقة، تترابط فيها كل العناصر لتشكل وحدة متكاملة من بناء يخلبه سحر الصور والتعبيرات:

- لاَ يُمْكِنُ تَفْسِيْرُ مَكَانٍ بِظِلِّ زَمَنٍ
- أَطْفَأْنَا ظَلاَمًا
- تَطْرَحُهُ جَمْعًا
- النَّهَرُ الَّذِي اغْتَسَلَ بِمَاءِ قَدَمَيْكِ ؛
صَارَ يَصْرُخُنِي مِنْ جَرَيَانِ عَطَشِهِ فِي حَلْقِي
- كَمْ كُنْتِ عَلَى صَوَابِ القَلْبِ
حِيْنَ خَطَّأْتِ سَاعَةَ الشُّرْفَةِ العَاشِرَة
سَبَقْتِ عِنَاقَ عَقَارِبِهَا لِعِنَاقِنَا
بِسَاعَةِ رُوْحِكِ الرَّشِيْقَةِ
مِثْلَ أَيْلٍ يَ تَ وَ اثَ بُ فَوْقَ
طَمْيِ انْتِظَارِيَ
دُوْنَ
أَنْ يَتْرُكَ أَثَرًا!

كيف يمكن لأيل أن يتواثب فوق الطمي الناعم دون أن يترك أثرًا؟ أم أنها بخفتها وسرعتها فاقت الأيل براعة؟

- شَالُكِ المَنْسِيُّ
تَرَكَ عِطْرَ إِيْقَاعِكِ فِي فَضَاءِ عُزْلَتِي
يَدُوْرُ بِي
كَدَائِخِ رَقْص!
- لِمَنْ كُنْتِ تَبْتَسِمِيْن ؛
لِيْ أَمْ لِرَمْشَةِ الكَامِيْرَا ؟
أَيَّتُهَا الوَثَّابَةُ بِثَبَاتٍ فِي لَقْطَةِ
القَلْب!
- كَيْفَ صِرْنَا نُشْبِهُنَا ؛
نَحْنُ اللَّذَيْنِ اخْتَزَلْنَا سِيَاجَ الفُصُوْلِ /
فنَهَضَتْ لأَجْلِنَا مَنَازِلُ
الوَرْد !
- ... وَحِيْنَ وَحْدِي أَخِيْرًا فِي نُزُلِ الفَرَاغِ ؛
تَذَكَّرَتُ ذَاكَ الحَنِيْنِ الَّذِي غَادَرَنِي كَحُلُمٍ/
آنَهَا - شَهَقْتُ بِتَفَحُّمٍ :
آآآآ...!
- لُذْتُنِي إِلَيْكِ ؛
صَقْرًا دُوْنَ نَظْرَةٍ ..
جَنَاحًا دُوْنَ طَائِرٍ ..
رِيْشًا دُوْنَ رِيْحٍ ..
فَكُنْتِنِي بِبَرَاعَةِ بَرِيْقِكِ الحُلُمِيِّ
تُرِيْقِيْنَ بَلَلَ أَهْدَابِ أَسْمَائِكِ الوَاحِدَةِ

الخلاصة

هو الشاعر محمد حلمي الريشة الذي يتحايل على اللغة، ليهرب من وهن الواقع وضغوطاته، يستخدم أساليب تتعدد فيها الإثارة، وتتنوع ألوان الاستفزازات، تتوالى الصدمات الصاعقة في سياقها، ويحاول أن يميط اللثام عن مشاعره الدفينة البركانية في سكونها، لكنه يظل محفوفًا بالمحظورات والهواجس، يحلّق بجناحي الحرية اللغوية الشعرية مبتعدًا عن المتاح المحصور بالواقع إلى جناحي طيفها، فيعبر إشارات المرور والتعجب والاستفهام والاستدراك عبر متون الشعر.
وهو الشاعر الريشة يتكئ على مساند الخطاب الشعري، مهندسًا بدقة حرفه البخيل رسومًا بصرية ثرية، تتآلف في تشكيلاتها الصورية، وتتخالف في تناقضاتها اللفظية، تتجامح ما بين الواقع والمتخيَّل والمستحضَر باختراقات نحوية أحيانًا، وبلغة تحوير أحيانًا أخرى، يجمع بين تفاصيلها المتنافرة ودقائقها المتناقضة انسجامٌ بديعٌ متميزٌ في تكثيفاته واختزالاته اللغوية المقتصِدة والمفعمة بالدلالات ونظام فوضوي ثائر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى