الجمعة ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم إدريس مقبول

مجرمو البيئة الحقيقيون

يأخذك العجب وأنت تسمع لأيام أحاديث وبرامج تملأ الدنيا بفجاجتها وضجيجها عن البيئة والأرض واحترام الفضاء الأخضر الذي يعيش فيه الإنسان، وكلما ازداد الهدر والهدير الإعلامي عن الموضوع ازداد عند المستمع،رغم أنفه، اليقين أن الأمر لا يعدو أن يكون دعاية يقوم عليها مخربو البيئة الحقيقيون الذين يغطون فجورهم تجاه البيئة وجشعهم الذي التهم البيئة ولم يترك لنا منها إلا أشباحا بسوء التدبير المقصود.

فكثرة الكلام من قبل القائمين على السياسة عن موضوع ما وليكن حقوق الإنسان أو الديمقراطية أو مجتمع الحداثة أو البيئة ليس دليل عناية بهذه المفاهيم أو مؤشر دفاع عن هذه الشعارات، بل يخفي في الغالب كما يؤكد المفكر جلال أمين في كتابه "خرافة التقدم" اغتصابا لهذه الحقوق والتفافا على هذه الأفكار الجميلة.

الواقع أن من يتكلم رسميا اليوم عن البيئة وضرورة الاهتمام بها بعيد كل البعد عن الإحساس بالبيئة وما يتهددها، إنهم جماعات من المتخلفين عديمو الإحساس بالمرة، حتى يكون لهم إحساس خاص بالبيئة أو غيرها.

وإن أقصر نظر لواقع البيئة عالميا وإقليميا ومحليا ينتهي إلى أن الخطاب الذي يوجه للفقراء والبسطاء عن البيئة هو خطاب مغالط، لأن من يوجهه أولى به من غيره، فالذي يلوث البيئة عالميا هو الشركات العملاقة العابرة للقارات، والمركبات الكيماوية والنووية المزروعة على هذه البسيطة تهدد استقرارها وتوازنها بل وبقاءها، فمن ذا الذي يملك هذه الترسانة من الملوثات غير دول الاستكبار العالمي، وإذا كان حرصهم على البيئة يكمن في تنظيف أجوائهم وبيئتهم من هذه السموم ودفنها في صحارينا وبيئاتنا بصفقات مدفوعة الثمن للمرتشين من سياسيينا غير الشرعيين والمرضى بالجشع، فأنعم بها من سياسة يكتوي بها من لا يد له فيها، ولقد صدق المتنبي حين قال:

وجُـــرمٍ جَــرَّهُ سُــفهاءُ قَــومٍ
وَحَــلَّ بِغَــيرِ جارِمِــهِ العَــذابُ

إن مجرمي البيئة الحقيقيين هم تجار السياسة الذين انفتحت شراهتهم إلى غير نهاية فابتلعوا أجود الأراضي الزراعية وفوتوها للوجهاء والأمراء والسفراء ولأنفسهم وذويهم بقوانين ومراسيم وحرموا البلاد والعباد من الخضرة ومن جمال الطبيعة، إذ قطعوا شرايين الرئة التي كانت تحيط بالمدن والحواضر وتضمن لها هامشا للهواء والغذاء.

صحيح ربما يقنعنا بعض سماسرة السياسة أن هذه الأراضي لم تعد تعطي كما كانت، وحاجاتنا من الغذاء يضمنها بحمد الله العم سام الذي نستورد منه ما نحتاجه بأقل تكلفة مما يكلف فلاحينا الفقراء، ولأن التفاهة بلاء وغباء ليس في الدنيا أشد منه ضررا على العقول والنفوس، فإن مجرمي البيئة الحقيقيين لا يلتفتون إلى ما يترتب على هذه التوجهات البئيسة من ارتهان دائم وعبودية للآخر. كيف لا وقد استطابوا العبودية وتلذذوا بها، بل وصارت مع الوقت شعارا للتفاخر فيما بينهم، فعلى قدر ما تتقادم في العبودية وتترسخ فيها يرتفع مقامك في دنيا السياسة والمداهنة والنجومية الفارغة.

نتساءل أي إجرام يوازي جريمة تفويت الأراضي الزراعية لقطاعات البناء والعقار والإسمنت التي تزرع عوض الحياة موتا وصلابة ويبسا وعبثا، وتزرع معها مزيدا من المنعشين، أو قل معي المنتعشين والمرتشين ومصاصي الدماء من المضاربين الذين يبيعون كل شيء ابتداء من ذواتهم، فهم رمز السوق والثقافة السوقية والسطحية والنهب.

في الدول التي تحترم نفسها تحرم القوانين وتحظر الاعتداء على الأراضي الزراعية والغابوية، كما تقيم الجماعات والأحزاب الخضر الدنيا ولا تقعدها حين يتم انتهاك المناطق الخضراء، وعندنا أسهل طريق للاغتناء هو التواطؤ مع جماعات القوارض المتنفذين والسماسرة السياسيين لتحظى بفرصة الانتفاع بالاطلاع على ما يقرر عن قريب في الدهاليز من جنايات ضد البيئة بتحويل النطاقات الخضراء إلى نطاقات إسمنتية مسلحة سوداء.

لأجل ذلك ليست برامج البيئة إلا برامج إلهاء بامتياز، وطبيعة الإلهاء يكون بصرف الناس عن شؤونهم الحقيقية وقضاياهم الرئيسية وتزييف وعيهم بالمشاكل والجرائم التي يصنعها من يحكمونهم.
إن الكلام الرسمي عن البيئة تحريف وتخريف، وتدجيل وتمثيل لا يزيدنا إلا وعيا بأن التخلف والتفاهة ما تزال حاكمة إلى حين. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى