الاثنين ١ آذار (مارس) ٢٠٠٤
بقلم أحمد الخميسي

محمد صدقي .. وداعا

في 23 مارس – بعد شهر تقريبا – كان المفروض أن يحتفل الأديب الكاتب محمد صدقي بعيد ميلاده الثاني والثمانين . لكنه رحل بهدوء ، دون أن يلحق أحد بتوديعه أو بالسير خلفه ، ودون أن يرافقه إلي مثواه الأخيرة أصدقاؤه ومحبوه وهم كثيرون. وقد عاش محمد صدقي سنواته الأخيرة مثل شراع مرتفع من سفينة غارقة - إشارة وسط البحر إلي عالم اختفى ، كان الكتاب فيه مهمومين بقضايا العمال والفلاحين والفئات الاجتماعية المطحونة في المدن .

هذه كلها كلمات اختفت ، واختفى معها عالم محمد صدقي فكتب عليه أن يحيا لسنوات طويلة في زمن ليس له فيه شئ ، ومكان ليس له فيه شئ . كنت ألتقي به كلما دعاني في إحدى مقاهي وسط البلد ، أجلس وأتركه يتكلم كثيرا ، لأنه كان بحاجة إلي الكلام قبل الرحيل . وكان دوري يقتصر على مد حبل الحديث بطرح سؤال أو استفسار من وقت لآخر . كان أحيانا ينسى موعدنا ، فلا أذكره بأنه ينسى ، فقط أتصل به وأسأل عن أحواله ، فيحدد موعدا آخر .

شرفني – لا أدري لم بالضبط – بإهداء آخر الكتب الصادرة عنه فجاء مطبوعا في صفحته الأولى : " إلي أخي .. وابن أخي .. " .. كما عهد إلي بمجموعة من صوره الشخصية في مختلف مراحل العمر . وإذا كان بعض أبناء الجيل الجديد يسأل أحيانا : من هو يوسف إدريس ؟ فمن باب أولى أن لا يدري بوجود ، ثم رحيل محمد صدقي .

ولد محمد صدقي في 23 مارس 1923 بمدينة دمنهور في أسرة فقيرة حتى أنه طرد وهو في السادسة من المدرسة لعدم قدرة والده على دفع المصاريف . و مثل كل الصغار المطرودين من عالم النور إلي وحشية البؤس تقلب بين مهن مختلفة صبيا يتعلم الحرفة ويعلم نفسه القراءة والكتابة .

عام 1939 في خضم تصاعد الفكر والنشاط اليساري في مواجهة الاحتلال والقصر ، قاد محمد صدقي وهو في السادسة عشرة إضرابا عماليا اعتقل بسببه لكنه تمكن من الفرار متجها إلي البحيرة واشتغل هناك في تفتيش الأمير عمر طوسون مع الفلاحين الذين يقاومون الآفات الزراعية .

وعمل بعد ذلك في ورش عمالية صغيرة للخراطة والسباكة واللحام . واتجه محمد صدقي لكتابة القصة القصيرة وهو في العشرين من عمره وبدأ النشر منذ عام 1944 إلي أن انتقل إلي القاهرة عام 1951 وثورة يوليو على الأبواب . عام 1955 عين صحفيا وتنقل بين روز اليوسف، وصباح الخير ، والجمهورية ، وصدرت له في ذات العام أول مجموعاته القصصية " الأنفار " التي جذبت الانتباه إلي اسمه عام 1957 ! نشر على نفقته مجموعة " الأيدي الخشنة " . ثم جرى عليه الاعتقال الذي جرى على كبار المثقفين اليساريين في مصر ما بين 1959 – 1964 فقضى تجربة التعذيب الرهيبة في الواحات والسجن الحربي ، حيث كان الضباط يجبرون د . عبد العظيم أنيس ولويس عوض والشاعر فؤاد حداد وزهدي الرسام وغيرهم على تنقية رمال الصحراء من الحصى والطوب وكنس مياه الأمطار ! عندما خرج محمد صدقي من المعتقل عام 1965 نشر " شرخ في جدار الخوف " ثم " لقاء مع رجل مجهول " عام 1966 .

ولابد أن تجربة السجن قد أثارت لديه شكوكا عميقة في جدوى الكتابة ، ومعناها ، مادامت القوة المسلحة قادرة على البطش بكل شئ في لحظة . أيضا كان العالم الذي عرفه محمد صدقي يختفي ، ومحمد صدقي نفسه يختلف ، بينما يتحقق العالم الذي ناضل من أجله من دون مشاركته . وتوقف صدقي نحو عشرين عاما عن الكتابة ثم عاد إليها عام 1991 حينما بدا أن اللوحة القديمة لسيطرة الاستعمار الإنجليزي ترتفع من جديد بعلم أمريكي ، وأن الأفق مشحون من جديد ببوادر النضال ورغباته . ونشر صدقي عدة أعمال كان آخرها رواية " رغبات وحشية " منذ أربع سنوات ، وفيها تموت بطلتها عنايات ومعها كل المتمسكين " بالفقر والكرامة " دون أن يمد أحد يده إليها إلا برغبة وحشية في افتراسها . كانت تلك صيحة الكاتب الأخيرة للاحتجاج على الواقع الاجتماعي ، وكانت تلك عودة إلي النقطة الأولى التي بدأ منها صدقي منذ نصف قرن حينما كان عالمه كله نوعا من التعاطف مع عمال التراحيل والمصانع والريف . ورغم كل المآخذ التي لاحظها محمود أمين العالم في مقدمته لمجموعة صدقي الأولى " الأنفار " فقد نوه بأن تلك القصص : " من طليعة الأدب الواقعي الجديد " ، وعنها كتب سلامة موسى يقول : " محمد صدقي هو نفسه قصة ، فقد عاش في هذه الفوضى التي نسميها المجتمع المصري واختبر حياة الفقر والعوز ..

وقصصه هي الإصرار على الإنسانية والشرف والكفاح ". واعتبره المستشرق هاملتون جيب : " كاتب أصيل من الطبقة العاملة " ، واعتبرته المستشرقة الروسية " إيرينا فاتييفا " : " أحد أهم كتاب الواقعية في الأدب المصري " . ويقول عنه د . عبد المنعم تليمه إنه : " أحد أهم أعمدة مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية " ممثلا للمرحلة الثالثة من مراحل نشوء فن القصة والرواية . وأن أعماله " كانت ولا تزال وثيقة جمالية تعكس حياة العقود الخمسة الأخيرة في مصر " . يستطيع محمد صدقي أن ينام مطمئنا إلي أن دوره محفوظ ، إن كان دور الأدب مثل كل الظواهر الفكرية والاجتماعية الأخرى مرتبطا بزمان ومكان محددين . البعض يتوهمون أن ثمة أدبا خالدا ، قادرا على تجاوز الزمن، وهذه أكبر خدعة . لأن أحدا الآن لا يقرأ " مقامات عيسى بن هشام " ، لكن ذلك العمل أدى دوره في حينه ، وكان طفرة في تاريخ الرواية . ولا يقرأ أحد الآن المسرحيات الساذجة ليعقوب صنوع وهي التي خلقت المسرح العربي .

كل شئ مرتبط بزمانه ومكانه ، وقد قام محمد صدقي في زمانه ومكانه بدوره كاتبا ومناضلا ومواطنا شريفا وعظيما . وهذا هو المعنى الأول والأخير لحياته الشاقة وأعماله الأدبية وهو معنى كبير. رحلت عنا قامة إنسانية وثقافية من علامات حياتنا . تحية لحياتك وأسفا من القلب على رحيلك أيها العزيز .

*


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى