الجمعة ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم أحمد زياد محبك

مدينة الثلج

القطار يسير، سحج عجلاته الحديدية على القضيبين الحديديين المتوازيين إيقاع رتيب هادئ، وأنا في مؤخرة العربة الأخيرة، وتمتد أمامي المقاعد في خطين متوازيين، مقاعد خالية إلا من راكبين، انفرد كل منهما بمقعد، كأن القطار كله لهما وحدهما، يجيء المفتش مع بدء الرحلة، ينظر في البطاقات، ثم يمضي ولا يعود، الضوء أبيض شاحب، الحركة هادئة رتيبة، العتمة في الخارج مطبقة، لا ترى على الزجاج إلا انعكاس الصورة في الداخل، المقاعد الخالية والأضواء البيضاء والهدوء الصامت صورة مكرورة كأنها هي نفسها في الخارج، وهي نفسها في الداخل، البرودة الناعمة تنثال من فوق، تملأ العربة، كأنك تغوص في كأس حليب مجمد،

امتداد العربة مع الصفين المتوازيين من المقاعد هو مثل امتداد الخطين الحديديين، لا يكاد ينتهي، أرى الصفين يمتدان حتى باب العربة الزجاجي، وهو يشف عن العربة التالية، والمقاعد في العربة التالية تمتد أمامي في صفين متوازيين، وتمتد المقاعد وتمتد وتمتد، كأنها لا تلتقي، بل هي حقاً لا تلتقي، وأنا أرقبها، أتابع امتدادها، والبرودة والصمت والهدوء والاهتزاز الناعم للقطار تتعانق كلها وتتجاوب وتتناغم، أرى المقاعد على الصفين تنتهي هناك، حيث تلتقي في مدينة هادئة، الشوارع لا غبار فيها ولا دخان ولا سخام، السيارات كلها تسير بوقود صاف أنيق، الجسور تعلو، والأنفاق تمتد، لا إشارت للمرور ولا مطبات، والسيارات تسبح مثل سمكات ملونة في حوض ماء نقي، الإيقاع هادئ، على الأرصفة يسير الناس، هم شفافون مثل قناديل البحر، الحركة ناعسة، مثل شريط يعرض ببطء، شرطي المرور يحيي السائقين والمشاة، وهو يشير بعصاه، مثل قائد فرقة موسيقية تعزف لحناً هادئاً، لا بوق لسيارة ولا سحج لعجلة ولا نقيق لضفدع ولا نأمة لسحلية، هل هو الخواء؟ بل ثمة أناس كثير، وأمطار غزيرة تنثال كالشلال، والمياه تتدفق، ولكن لا رامات في الشوارع، كيف تمضي السيول هكذا في مجاريها سريعة كالخيال؟ النوافذ مفتوحة وقد زينت بالزهور، والشرفات مزروعة بالأشجار، مثل حدائق بابل المعلقة،

حمامات بيض ترف في الجواء، تحط على الأسطحة، تهبط بأمان واطمئنان إلى الساحات، الناس يبيعون ويشرون بالحلال، لا غش ولا مساومة ولا خداع، الخضار والفواكه كأنما نمت معلقة في الهواء، لا تربة ولا غبار، أراجع هذا الموظف، ينهض لاستقبالي، يرحب بي، يشكر لي زيارتي له، ويضع التوقيع والخاتم، يصافحني مودعاً، لا طوابع ولا أوراق أخرى ولا صورة ولا وثيقة ولا صعود على أدراج ولا هبوط، قلت له فصدق كل ما قلت، لا ضرورة للوثائق والأوراق، كل شيء هنا متوافر من غير أن تفكر فيه، كل ما تحلم به يأتيك في الحال، مثل فراشات تسبح في النور، أي مدينة هذه؟ أطل من نافذة غرفتي، وأنا لا أعرف كيف صرت فيها، لأرى حديقة قصري، غدا للتو قصري، وهذا محامي الخاص يحضر لي كتاب التملك لأوقع عليه، أكتب اسمي فقط، بحروف رخية لينة، نسيت هنا توقيعي القديم، توقيعي المعقد الملتف المتشابك الحروف والرموز المتداخل الخطوط والإشارات، ولكن ثمة برد شديد، لم هذا البرد؟ الآن اكتشفت، مللت، مللت، أنا هنا غريب، هذه ليست مدينتي، أشعر بالضيق، أنا هنا مجمد لا أتحرك، اشتقت إلى الزحام، إلى ضجيج الشارع، إلى صخب الرصيف، اشتقت إلى عوادم السيارات والسخام، كل ما أريده يتحقق هنا من غير شقاء، ما عدت أجد متعة في الحصول على الأشياء

لا بد من أن أدور في الأسواق، أبحث في المحلات عن فرشاة أسنان أو شفرة حلاقة، كل شيء هنا متوافر مبذول، متحقق بالمجان، لم أتعب، لم أشعر بالعناء، أريد أن أتحرك، ما لي أحس هكذا بالتقلص، بالجمود، أحس بالبرد الشديد، أود أن أزحم هذا بالأكتاف، أن أدوس على قدم ذاك، أن أجتاز الشارع وأنا أخشى سيارة مندفعة، ما بالي لا أكاد أتحرك، سأتحرك، أمد ساقي، أشدها، أدفعها، وتهتز بي العربة، ترجني رجاً، يتوقف القطار، ويدخل العربة بضعة رجال، يهرولون بين الصفوف راكضين، ومن غير أن أسألهم يقول لي أحدهم:

ـ أولاد أشقياء قذفوا العربات الأولى بحجارة وحطموا النوافذ، سنمسك بهم.

أرتعش، ينتفض جسمي كله، الهواء البارد في عربة القطار جعلني أتجمد.

الأولاد الأشقياء أعادوني إلى الواقع، أعادوني إلى مدينتي المزدحمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى