الأحد ٧ آب (أغسطس) ٢٠١١
الجزء الأول
بقلم حوا بطواش

مذكرات عاملة في سوبر ماركت

الحاجة تبرّر العمل

معظم العاملات في السوبر ماركت الذي تعمل فيه سلمى هن من البنات الصغيرات اللاتي أتممن مؤخّرا دراستهن الثانوية وانطلقن في رحلة الحياة الحقيقية. يعملن بهذا الأجر الزهيد، الذي لا يتعدى الألفَي شيكل، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى للأجر الذي يصل إلى حوالي ثلاثة آلاف وثمان مئة شيكل حسب قوانين دولة إسرائيل التي يعشن فيها. ولكن هذا الأجر سيكفيهن كبنات في مثل عمرهن لشراء ما يحببن من حاجاتهن الصغيرة في كنف عائلاتهن، وربما استطعن توفير بعض الشواكل لإتمام تعليمهن في كلية او جامعة كما تخطط البعض منهن، وسيتركن العمل قريبا لإكمال تعليمهن او للزواج.

كلهن صغيرات ومقبلات على الحياة... ما عدا تلك المحتاجة التي اضطرت إلى العمل تحت هذه الشروط لكسب بعض ما تحتاجه عائلتها من أكل وشرب، الى أن تجد عملا آخر يناسبها ويحترمها ويحترم عائلتها ويحترم القانون.

سلمى ليست صغيرة مثلهن، فقد قاربت على الثلاثين من العمر، متزوجة وأم لأربعة أولاد، زوجها يكاد لا يعمل منذ سنوات، لأسباب لا حاجة لذكرها هنا، والألفا شيكل التي ستتقاضاها في آخر الشهر هو ذلك المبلغ تقريبا الذي تحتاجه عائلتها لحاجاتها الأساسية من أكل وشرب خلال شهر. تنقص من ذلك طبعا تكاليف السفر التي قد تصل إلى خمس مئة شيكل أو أكثر، رغم أن السوبر ماركت موجود في قرية لا تبعد عن قريتها كثيرا.

في يومها الأول قالت لها بنت بلدها سامية، التي تعمل هناك كمديرة حسابات، مشجّعة: "هؤلاء (قصدت أصحاب العمل والعاملون في المحل الذين كانوا من العرب) مسلمون مثلنا (وكانوا هم مسلمين من غير العرب)، والعمل معهم مريح." والمعنى من وراء كلامها أن ذلك أفضل من العمل مع اليهود.

وبالفعل، أحبّت سلمى عملها في السوبر ماركت وارتاحت في التعامل مع زميلاتها الصغيرات ومع مديريها الذين كانوا جميعا يعاملونها بكل احترام وأدب ولطافة، وتمنّت لو كان بإمكانها البقاء في عملها لفترة طويلة، لو أن شروط عملها كانت أفضل.
كل البنات في السوبر ماركت يعلمن جيدا أن شروط عملهن تظلمهن قانونيا، وأن السوبر ماركت اليهودي الذي لا يبعد كثيرا عن السوبر ماركت العربي الذي يعملن فيه، يعطي أجرا أعلى بكثير لعاملاته وشروطا ممتازة كما يتطلب القانون الإسرائيلي، من تأمين صحي واجتماعي. ولكن، ولاعتباراتهن الخاصة، يعملن في السوبر ماركت الذي في قريتهن، ويستغربن من سلمى، كما يستغرب كل أقربائها، لماذا هي تعمل فيه؟!

"ماذا تستفيدين؟" يسألونها بتعجّب بالغ. "ماذا ينفعك هذا الأجر المضحك؟"

فتقول لهم: "إنه عمل مؤقّت إلى أن أجد عملا مناسبا."

ولا أحد منهم يفهم كم هي محتاجة إلى هذه الألفي شيكل، حتى ولو نقصت خمس مئة او أكثر! لا أحد منهم جرّب العيش كأم لأربعة أولاد دون أن ترى شيكلا واحدا يدخل بيتها خلال أشهر!

ولكن سلمى تستطيع أن تفهمهم.

إنها ليست ظاهرة مألوفة لديهم في القرية، ويكاد الجميع يصدق أن لا أحد منهم فعلا محتاج، على الأقل ليس إلى هذه الدرجة.

إنها منهم، تسكن معهم في نفس القرية، تسكن مثلهم في بيت يكاد يشبه بيوتهم، تلبس مثلهم ملابس تشبه ملابسهم، تأكل وتشرب مثلهم وتسوق سيارة مثل سياراتهم... ولكنها ليست مثلهم. ليس لأنهم هم أغنياء، بل لأن لكل عائلة من عائلاتهم هناك من يعمل ويعيل العائلة، أو له دخل من مصدر ما.

كيف تكون مثلهم وزوجها يكاد لا يعمل منذ سنوات؟ ولا هي تعمل؟ وليس لهما دخل من أي مصدر؟

2

الشيخ اللطيف

الشيخ ماجد شيخ ليس مثل باقي الشيوخ الذين نعرفهم. بل هو شاب في أواخر العشرينيات من عمره، أو أوائل الثلاثينيات على أكثر تقدير، طويل، رفيع، ذو لحية خفيفة، أسمر بعض السمار وشعره خفيف، ويتميّز بالتواضع والظرافة وروح الفكاهة. وباختصار، يمكن القول بأنه شيخ من طراز خاص! شيخ شاب، لطيف، ظريف وجذّاب. والبنات في السوبر ماركت يحببنه جدا، رغم أنه يصبّ عليهن أوامره الكثيرة والمرهقة بلطافته وظرافته وبروحه الفكاهية التي تخفّف من وطأة الأوامر.

أول مرة رأته فيها سلمى لم تدرك من هو. كانت جالسة لدى الصندوق، فقال لها المدير مشيرا اليه: "روحي ساوي اللي بيقولك عليه".

قامت من مكانها دون أن تعرف ماذا ستفعل. ظنّت أنه زبون من الزبائن أو ما شابه. ذهبت وراءه.

إلتفت اليها بعد حين وقال: "اهه، إنت اللي بعتك لعندي؟"

ثم أخذ يأمرها ما تفعل، وانضمت اليها بنتان أخريان. وبعد مدة بعثها للعمل مع إحدى البنات في زاوية أخرى.

ثم جاء إليهما بعد حين ليتفقّد أمرهما وسأل: "في تقدّم؟"

فقالت له البنت التي معها: "آه طبعا في تقدّم..."

فقال الشيخ: "طيب، بس لازم يكون في تقدم أسرع من هيك." وأنهى أقواله بأن قال بظرافته: "يلا اشتغلوا."

وبعد أن ذهب قالت البنت التي معها بصوت خفيض بشيء من السخرية: "ما احنا منشتغل، شو منساوي يعني؟"

فقالت سلمى: "هدا جاي يعمل مدير علينا."

"آه، ما هو صاحب المحل، هو وأخوه."

"عن جد؟؟"

وهكذا فهمت من هو.

لاحظت سلمى خلال العمل كيف يمازح البنات اللاتي يعملن معه، وكان الجميع ينادونه "شيخ"، والبنات قلن لها بأنه فعلا شيخ، ولكنه شيخ لطيف!

في اليوم التالي، جاء الشيخ ماجد مرة أخرى ومعه أخوه الأصغر، الذي يشغل منصب المدير العام لشركتهم الكبيرة، وأخذا يعملان ترتيبات لا نهائية في المحل. ولكن سلمى لم تعمل كثيرا مع أي منهما. عملت لوقت قصير فقط مع الشيخ ماجد سألها خلاله عن اسمها، فقالت له كذا، فسأل :"أُم ايش؟"

فقالت سلمى إنها لا تحب أن يناديها أحد بأم أحد... ودار حديث قصير عن الموضوع، ولكنه بعد ذلك أمرها أن تعمل عملا ما أبعدها عنه.

لم تحب سلمى العمل مع الشيخ ماجد. صحيح أنه شيخ لطيف وظريف ويكثر من الفكاهة والمزح كما تحبّ البنات، ولكنها كانت تستحي منه وتشعر بعدم الإرتياح وبالتوتر أمامه، ورغم تواضعه الشديد والنادر، إلا أنها كانت تشعر بأنه كبير وممنوع أن ترتكب غلطة أمامه!

ولكن الشيخ ماجد لم يدعها تعمل معه كثيرا خلال أكثر من أسبوع الذي جاء فيه إلى المحل. حتى بدأت سلمى تحسّ بأنه يتقصّد عدم تشغيلها معه، وشعرت بشيء غريب. بدأت تتساءل بينها وبين نفسها: لماذا؟؟ ألأنها سيئة؟ بطيئة؟ مملة؟ جديدة؟ متزوجة؟؟
ما هو السبب من وراء ذلك؟؟؟

فافترضت بعد طول تفكير أنه يفعل ذلك لكونها متزوجة وأم لأولاد، وهو لا يحب صبّ أوامره على التي مثلها.

أليوم، قبل نهاية الدوام في العمل بنصف ساعة، جاء إلى المحل يتفقّد الأوضاع. وبعد حين، عندما كانت سلمى تعمل مع إحدى البنات، جاء وقال لهما: "وحدة منكن تيجي لهون."
فطلبت سلمى من البنت التي معها أن تذهب اليه، ففعلت.

أكملت سلمى عملها وهي تسمع صوته العالي الجميل، وهو يثني على البنات بأوامره بطريقته المألوفة المحبوبة، وهي تعمل في زاوية من المحل.

بعد حين أطلّ عليها الشيخ بصحبة بنت من البنات وعربة أغراض. وحين رآها قال: "آهه، إنت هون؟ طيب منيح. كتير منيح. إسمعي يا ستي شو بدي قلّك، واحفظي منيح. أول إشي، هدول بتنزليهن لهون. تاني إشي، هدول بتحطيهن هون...." وهلم جر...

لم يتبقّ على نهاية الدوام أكثر من خمس دقائق. فعلت بعض ما قال لها... إلى أن انتهى الدوام.

وفي طريقها لترك المحل صادفته، فقالت له مودّعة: "يلا باي شيخ."

فرد: "مع السلامة."

وعادت إلى البيت.

يتبع...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى