الأحد ١ أيار (مايو) ٢٠٠٥
رحلة الدكتور التونسي منصف المرزوقي

مذكرات غريب

قراءة فوزي سعد الله ـ الجزائر
د. منصف المرزوقى

عندما تطوي آخر صفحات الجزء الرابع من كتاب منصف المرزوقي "الرحلة"، أول ما ينتابك من شعور هو الإشفاق على أمّه ثم على أبيه ثم على "سيدي" الشيخ الذي كان يعلمه القرآن والحروف العربية في الكتّاب وربما على كل الذين عرفهم وعرفوه عن قرب لأنه متعب ومرهق بأسئلته الكثيرة والكبيرة التي لا تتوقف عن التدفق إلاّ عندما يخلد إلى النوم. لكن أكبر الإشفاق الذي يعتريك هو إشفاق عليه هو بالدرجة الأولى لأنه أكبر المعذبين بعذاب التساؤلات التي تنخر ذاته الآدمية منذ بداية تشكل وعيه إلى الحد الذي يدفع إلى التساؤل كيف يستطيع مواصلة العيش بعدما فهم كل الذي فهمه حول الوجود الآدمي والطبيعة الإلهية وعالم ما قبل الحياة وبعدها وحول أعمق أسرار الوجود.. وهي أشياء ليست سارة في الكثير من الأحيان حتى لا نقول رهيبة.

لكن سُنة الحياة تقتضي أن لا يتحقق أي تطور أو تقدم في كينونة الإنسان إلا من خلال التساؤل ثم التساؤل ثم التساؤل إلى ما لا نهاية كي يأتي الجواب تلو الجواب تلو الجواب ليفتح لهذا المخلوق العجيب أبواب التقدم والرقي وتحسين ظروف عيشه لتراجيديا وجوده في هذا العالم.

من هذ الزاوية لا يمكن لـ "رحلة" منصف المرزوقي إلا أن تثير في نفس قارئها التقدير والإحترام وكذلك الإعجاب. الإعجاب بطبيب يرفض أن يسجن نفسه في حدود تقنوقراطية الكثير من زملائه الأطباء ويتجاوزها إلى أبعد الحدود بالكتابة والتأليف، بالتأمل والتفكير و"الأدب المتفلسف"، على حد تعبيره، ليفهم "عالم الإنسان" وليبحث في جوف هذا الأخير ليفهم حياته الشخصية، و"إن استعصى الفهم"، كما يتوقع، فهو يطمح إلى، على الأقل، "تنظيم هذه الفوضى الرهيبة التي بداخلي" وبداخل كل إنسان سواء طغت على سطح الوعي أم بقيت حبيسة أغوار اللاوعي.

منصف المرزوقي طبيب وكاتب متفلسف، كما قلنا، لكنه مناضل سياسي أيضاًَ من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في تونس وفي الوطن العربي وأديب سوف يوظف كل هذه الكفاءات والمميزات ليقدم "رحلة" هامة مشخصة من شتى الزوايا وبنظرات متعددة تعدّد تخصصاته وكفاءاته. هذه "الرّحلة"ـ الاستراحة (؟) الآدمية تضعه في مصاف الأدباء والشعراء التأمليين العرب المعاصرين... وعندما نجول في صفحات كتبها الأربعة لا يسعنا إلا أن نتذكر أنيس منصور، محمود عوض، إيليا أبو ماضي بطلاسمه وجبران خليل جبران بنبيّه وحديقة نبيّه. ولا شك أن افتتاحه لرباعيته هذه بشعر أبي ماضي ثم مرافقة أشعار هذا الأخير لها في معظم فصولها وتدبيج آخر كتاب من "الرحلة" بحديث جبران خليل جبران عن شعوره بالغربة في هذا العالم وهو يجوب "مشارق الأرض ومغاربها، كما قال، دون أن أجد مسقط رأسي، ولا وجدت من يعرفني.. ولا يسمع بي، وسأبقى غريباً... كل هذا ليس من باب الصدفة.

"الرحلة" تذكر بعالم خيال "رسالة الغفران" وأجوائه وهي أيضاً بشكل أو بآخر رحلة "حي بن يقظان" على لسان إبن طفيل، لكن بصورة أعمق وبأفق أوسع وأرحب وبأدوات تفكير وتحليل أغزر وأثرى وبأسلوب أحدث... وهي كذلك إلى حد ما رحلة "روبينسون كروسو" (Robinson Cruso) بأبعاد أكثر ميتافيزيقية وتأملية وأكثر تعقيدا لأنها تقتحم بلا حدود أعمق وأخطر ما في الكون وما في الإنسان وما في الوجود من بقع سوداء غامضة... بلا حدود مثلما هي بلا حدود الحدود التي يتطور ضمنها الآدمي منذ ما قبل الخلق إلى ما بعد الحياة الدنيا. كل ذلك بتجريبية الطبيب وتأمل الفيلسوف وجرأة المناضل ورقة الأديب وجمالية الشاعر ومرارة الواعي وسخرية الذي فهم وخفتت في روحه شعلة الحلم وحيرة الذي كلما فهم بأنه فهم تفطن إلى أنه لم يفهم، لذلك قنع بتنظيم الفوضى الرهيبة التي بداخله كحد أدنى في انتظار أيام أفضل.

"رحلة" المرزوقي ليست كرحلات ماركو بولو أو الإدريسي أو ابن بطوطة لأنها حتى وإن التقت معها في كونها رحلة تهتم هي الأخرى بالإنسان فإنها تختلف عنها جذريا في كونها أساسا غير حسية، رغم توظيفها للفضاء الحسي كأداة ووسيلة، تستكشف أعماق الذاكرة والخيال والفكر والحلم والرؤيا لمعرفة "من نحن بالضبط؟"، "ما هذا العالم؟ ولماذ حكم عليّ وعليك بكل هذه المشقة لاكتشافه؟ وهل يوجد وراء هذه المحنة اللذيذة هدف أم هل الأمر بمثابة تخبط في حلم ـ كابوس سينتهي عندما يعتقنا منه الموت؟"... لهذا فهي سليلة التساؤلات الوجودية المحيرة التي صاغها إيليا أبو ماضي في طلاسمه وطرحها الحلاج وابن عربي وأبو العتاهية بأشكال متفاوتة وهي في آخر المطاف سليلة كل التراث التأملي ـ الفلسفي البشري الذي ينقب منذ غابر الأزمان عن تفسير لضياعه وغربته التراجيدية في هذا العالم. لذلك تتخذ "الرحلة" لنفسها موقعا بين الأدب والفلسفة وهي كما يقول كاتبها "بضخامة "البحث" فيه السرد وفيه الوصف والتأمل، يقص إفاقتي للوجود واستكشافي البطيء المتعثر للعالم (..) وتطور أفكاري بخصوصي هذه الآدمية التعسة التائهة في دروبه. ويكون سيرة ذات (...) وسيرة كل ذات عبر ثوابت تجربة كل واحد منا".
قام المرزوقي برحلته عبر أربع محطات كبرى ابتدأها بـ: "الإحرام والوصول" ثم تلاها بـ "إستكشاف العالم" ثم "استكشاف الذات" ليختمها بـ: "إستكشاف الآدمي" وكل محطة من هذه المحطات هي في الحقيقة عنوان من عناوين كتبه الأربعة التي صدرت بين نهاية 2002 وبداية 3002 عند منشورات أوراب (Eurabe) بباريس ودار الأهالي للنشر والتوزيع بدمشق، وسوف يليها كتاب خامس عنوانه "الآدمية " والذي قد يلتحق بالقافلة بعد أشهر.

في "الإحرام والوصول" يستهل رباعيته على لسان راوِ بين يدي طبيب هو المرزوقي نفسه ويعود إلى الوراء ملايين السنين وحتى إلى ما قبل الفضاء ـ الزمن من أجل متابعة وفحص مشروع "كاتب كل السيناريوهات" "الواحد المتعدد" لإعداد الآدمي "للحجّة المقدسة" واستعداده الوجل "للخروج من راحة العدم" ثم "مغامرة عبور النفق الرابط بين العوالم" لتنتهي هذه الملحمة الكبرى الأولى في عيادة الولادات وبـ "أولى صرخات الرعب والانبهار" والخطوات الأولى الساذجة على طريق "الرحلة".

تتواصل هذه الأخيرة عبر الكتاب الثاني لمتابعة عملية "إستكشاف العالم" بمختلف فضاءاته تقودها في ذلك قاطرة مركبة من السائح ـ التائه الجديد الذي ألقت به "وكالة الأسفار الكونية" في هذا العالم ومن "ذاكرة الخيال" و"خيال الذاكرة" اللذين تراكما كل هذه السنين في ذات المؤلف نفسها.. وهكذا جعل من سيرته الذاتية ومن تجربته الطبية مخبراً إضافياَ مكملاً و جوهريا في نفس الوقت لإنجاز تحقيقه التأملي عن العالم وعن الوجود. فيستكشف فضاءاته المختلفة: فضاء الحواس، الخيال، الحلم، الفضاء الرمزي والفضاء الذي يخلقه بنو آدم من حاجياتهم "الذي يقال أنه ينتظرنا في آخر الطريق وراء الباب المهيب".

لكن حتى تكتمل "الرحلة" لا بد من "استكشاف الذات" التي يستكشف بها العالم وذلك في كتاب ثالث حيث يظهر أن ذات الآدمي "ذاكرة متعددة الطبقات" حيوية لوجودها نمضي وقتنا في إعادة صياغتها بشكل متواصل "لنخلق الجديد من القديم" ونحن نثمن أغوارها السحيقة، ويظهر أيضاَ أنها ذات هي "أنا" وفي نفس الوقت ليست "أنا" تسبب باستمرار صراعا مع نفسها ومع العالم المحيط بها، ذات جعلت الحلاج يقول يوماً: "رأيت ربي بعين قلبي... فقلت من أنت قال أنت" ودفع حياته ثمنا لذلك... وجعلت منصف المرزوقي يتساءل بأكثر من صيغة "هل أنا واحد أم إثنان؟" ليكتشف بأنها دوما "واحد وواحد ـ إثنان وواحد ـ جحافل" لأن لا مفر للإنسان وهو يبحث عن ذاته أن يغوص حتى الذقن في ذوات الآخرين وأن لأناه إمتداد عميق في أناءات الآخرين وبأن هذا الأنا الآدمي يتشكل من جبل من الطبقات الجيولوجية المترسبة، جبل "صنعته تجربة فريدة وتحته "أنا صنعته قصص التاريخ الآدمي وتحته "أنا" صنعته قصص تاريخ الحياة وتحته "أنا" فارغ لا شكل له ولا مضمون". من خلال هذا الاستكشاف للذات ينتقل الكاتب المتأمل بين مختلف تفاصيل تركيبتها طبيعتها وخصائصها من ألمها ومعاناتها إلى أحلامها ورؤاها وفضائلها ورذائلها يفحصها مثلما اعتاد العمل مع مرضاه ليقترب أكثر ما أمكن من كنهها ولفك رموز غرابتها، غير أنه كلما فكّ لغز أحد هذه الرموز كلما تبلورت أمامه أخرى وأخرى لا نهاية لها.
المحطة الرابعة لرحلة منصف المزروقي هي "استشكاف الآدمي" الذي يتسع لكل الأشكال دون أن يكون له شكلاً محدداً وصاحب كل الطباع وهو بلا طبع ومتقمص كل الأدوار مع بقائه فوقها وخارجها.. وهو جزء في كل وكلّ في جزء أو هكذا يراه الكاتب حيث يستعرض قوته وضعفه وجبروته وحِلمه وكرمه ولؤمه... مستخلصاً بأن "الأدمي لا يفهم الآدمي لأنه لا يفهم ذاته التي تبحث دون كلل عن الشيء ونقيضه" ومن يدري، لعلنا لسنا أكثر من "كائنات تجريبية بمختلف أبعاد الكلمة: يٌجرب علينا ونجرب على أنفسنا (...) وكم من نماذج أخرى ستخلق على مر عصور قبل أن يضع الفنان الأعظم، تنزه عن الإسم والصفة والصورة، فرشاته وقد علت على محيّاه إبتسامة النصر".

"الرحلة" بمختلف مستوياتها هي في آخر المطاف مذكرات شاهد على الحياة تسرد سيرة ذاتية وسيرة كلّ الذوات تصف وتتأمل وتتساءل وتستفز وتسخر وتتألم، لكنها تطمح وتحلم وتأمل حتى وإن بدا التشاؤم غالباً عليها... تشاؤم بحجم تعاسة الإنسان وتيهه وضياعه في هذه الرحلة الدنيوية، وأمل بحجم الحاجة الرهيبة إليه حتى لا نموت، وهذا ما يصفه المرزوقي بـ: التشاؤل: شعلة الحياة هذه التي تدب فيها رغم تجريدية أغلب المواضيع التي تناولها المؤلف تُضفي على الكتب الأربعة متعة خاصة إذا استثنينا نوعا ما الكتاب الأول، لأن الكتب الثلاثة الباقية مزج فيها المؤلف كل الأنواع الأدبية: السرد، الشعر، الرواية، السيرة الذاتية، الفلسفة، المسرح سواء على مستوى الأسلوب أو على مستوى تمرير رسائله من خلال هذه الأنواع أو بعض مستوياتها. كما ساهم قالبها الروائي وصيغة الحوار التي برزت أكثر في الكتب الثلاثة الأخيرة في التخفيف من وطأة التجريد التي تتسم بها عادة مثل هذه المواضيع والإشكاليات التي شغلت "رحلة" الدكتور منصف المرزوقي وأضفت على أسلوبه سلاسة كبيرة تأخذ بيد القارىء من إشكالية إلى أخرى ومن مشهد إلى آخر ومن الفضاء ـ الزمن إلى الفضاء الذي ينعدم فيه الزمن دون شعور بهذه الحركة أو بأي قطيعة أو فراغ بين ما فات وما يأتي.

أما ما قد يثير انتباه أكثر من قاريء فهو أسلوب المرزوقي الكلاسيكي جداً مع مسحة من الرومانسية ـ الوجدانية في نفس الوقت. وتبرز هذه الكلاسيكية في لغته العربية القوية التي تعود بعض مفرداتها وصيغها وبلاغتها وخيالها إلى الأدب الجاهلي والتعابير القرآنية أحياناً وقد يستعصي فهم بعضها على الذين تعودوا على بساطة العبارات المتداولة في اللغة العربية المعاصرة. وربما أول ما يشدّ الانتباه على مستوى كلاسيكية الأسلوب هو صيغة "رأيت بدر الدجُّى..." و"رأيتُ ما لا يحصى من الكائنات.." و"رأيت الأرض رحماً"... التي ترافق القاريء حتى آخر "الرحلة، التي تحيل بصورة آلية إلى "رأيت المنايا خبط عشواء.." لزهير ابن أبي سلمى. ويمكن إضافة أمثلة كثيرة من هذا القبيل مثل: "حدث ولا تسل"، "السيل العرمرم"، أو "الذين يدعون في العلم معرفة" التي تحيلنا على أبي نواس، أو الليل الذي "أناخ بكلكله.."، أو "امتطاء ظهر المخيلة".. إلخ. لكن هناك أيضاًَ بصمة قوية في أسلوب المرزوقي تحمل نكهة أدب النهضة وأدب المهجر، فهو عندما يقول: "رأيته جدولاً رقراقاً.." لا يسعنا إلا أن نرى خلفها قصيدة إيليا أبي ماضي "أيها المشتكي وما بك".. والأمثلة على ذلك عديدة.

منهجية "الرحلة" يطغى عليها الطابع التجريبي ربما لأن الكاتب قبل كل شيء طبيب. فهو يستعرض أفكاره منطلقاً من التجربة والملاحظة الذاتية ـ سواء حملت طابعاً ذاتياً شخصياً أو اجتماعياً كلياً ـ إلى النظرية، من الجزء إلى الكل ومن الملموس إلى المجرد، بحيث لا يمكن أن يستعصي فهمها إلا على الذي لا يريد أن يفهم. وقد كشفت "الرحلة" عن قدرات بيداغوجية هائلة عند الكاتب..، لكنها ليست سوى إحدى المزايا الكثيرة التي تمتلئ بها رحلته. فشهادة الدكتور المرزوقي على الحياة والتجربة الآدمية للكائن الذي يقيم في أجسادنا منذ "الإحرام والوصول" تتوقد بالإنسانية والسماحة وشساعة الأفق والمشاعر الإنسانية النبيلة والحكمة والعمق الثقافي والنضج الفكري ورقة الروح والجمال، فضلاً عن أنها على مدى أكثر من 800 صفحة لا تترك القاريء وحيداً مع الكاتب بل تعرض عليه رفاق "رحلة" من خيرة وأبرز ما أنجبه التراث الثقافي البشري من الخنساء وأخيها صخر والمتنبي وأبي العتاهية والحلاّج إلى جبران وأبي ماضي، ومن آدم وهنيبعل إلى شكسبيروداروين وهتلر، ومن الإدريسي وابن بطوطة وماركو بولو إلى الكوماندان كوستو، ومن جميل بثية إلى روميو وجولييت، ومن لاوتسو إلى الشاعر الياباني إيسا.
وتوفر "الرحلة" المرزوقية للقاريء فرصة كبيرة للقاء السندباد البحري من جديد وبنظرة نقدية وأبطال أساطير خرافات الطفولة البشرية، كما تفتح له إمكانية الحديث مع الموت ومع الحياة والخصام مع عزرائيل والاحتجاج على فظاعته وحتى التعبير عن غيظه من "كاتب كل السيناريوهات" عندما تبلغ تطورات "الرحلة" في بعض محطاتها أقصى درجات الألم واليأس. ويلتقي القاريء أيضاً حتى مع العفاريت والشياطين والجان وهو يسبح في "ماضي الخيال" والروبوهات (R.B.TS) عند يزور "مستقبل الخيال"، ويتعرف كذلك على قرية
المرزوقي بالصحراء التونسية وعلى أهله وأجواء طفولته وشبابه منذ أن كان "يحب جده حبه للحلوى وربما أكثر ولا يريد له الموت قبل أن يكبر ويصبح طبيباً يعالجه من كل مرض" ومنذ أن رفض لبس السروال الأسود اللعين رغم تهديد ووعيد أبيه ليدشّن تاريخه الطويل مع التمرد.

"رحلة" المرزوقي هي كل هذه المغامرات الآدمية النابضة بالحياة بنبلها ولؤمها، وبفرحها وقرحها، وبسعادتها وتعاستها، بحكمتها وغبائها..، تنتهي ولا ينتهي معها السؤوال: "من أنت أيها الآدمي..؟" أيها الذات التائهة "التي تقود كائنات تائهة وتداوي ضياعها بحيل تبلور ما فيها من فراغ لا يمتلئ أبداً".
تنتهي "الرحلة" وتبقى أسئلة صاحبها الكثيرة التي أتعبت أباه وأمه وشيخ كتّابه والتي قد توجع رؤوس ونفوس الكثير من قرائه قائمة وقوية الصدى، ولا من يرد عليها بحسم... وخلفها يتردد صدى إيليا أبي ماضي "جئت لا أدري كيف أتيت، ولكني أبصرت أمامي طريقاً فمشيت.."! تنتهي "الرحلة" دون أن تزول غربة كاتبها وبطلها في هذا العالم وسيبقى دون شك مثل جبران يجوب مشارق الأرض ومغاربها بحثاً عن مسقط رأسه دون أن يجد من يعرفه ولا يسمع به، وسيبقى غريباً حتى تخطفه المنايا وتحملها إلى وطنه الذي هو وطننا جميعاً.

قراءة في الجزء الخامس : الآدمية
الدكتور منصف المرزوقي في آخر أعماله: سفر في أعماق الآدمية "وفي أول يوم من الزمان وجد آدم وحواء نفسيهما فجأة وسط العالم". تقاطعه إحدى صبيتيه وهي تغالب النوم: "نعم كان ذلك بعد أن طردا من الجنة؟" تصرخ الأخرى: "لأن الثعبان الخبيث زين لحواء أكل التفاحة (..) والله لا يحب، مثل عمي، من يقطف أشجاره بدون إذن منه". ينفجر الدكتور منصف المرزوقي غضبا في ابنتيه: "من قال لكما هذا الكلام السخيف؟ إنها دوما نفس الأكاذيب التي تروجها السلطات العليا لتبرر خياراتها غير المسؤولة وماينتج عنها من كوارث.."

أشعر بالاستفزاز وأنا هنا في هذه الفقرة من الصفحة 12: "إنك تتطاول على ما تتفق حوله الكتب السماوية كلّها وتؤمن به كل البشرية.. إنك ترتكب مخاطر كبيرة لست في حاجة إليها تضيفها إلى الأخطار التي تلاحقك من "الزين" ومصالح أمنه.. ثم أنك تضر بابنتيك". الصبيتان حائرتان، أما هو فلا يكترث، كالعادة، بل يدفع بجرأته إلى أقصى حد، يعود آلاف السنين إلى الوراء، ونحن نتابع جنونه، ليحط أمام آدم وحواء وهما في خصومة عنيفة روتينية كما تجري العادة مع ذريته منذ الأزل.. وآدم يصرخ بعنجهية في وجه حواء بأنها " سبب كل مصائبه وأنه لولاها لواصل حياته السعيدة في الجنة" وأن ما وقع له هو جزاء من يصغي لكلام النساء.. وحواء كاظمة غيظها "فليس هناك من رجل آخر لتخون آدم معه ولا يمكنها أن تحزم حقائبها لتعود إلى أمها لأن هذا الرجل هو أمها". تتوتر الأجواء ويرتفع الضغط.. هنا يخرج المرزوقي عن صمته لينافس إبليس في دسائسه، فيستغل تكهرب الجو بين آدم وحواء لتشجيع هذه الأخيرة على قتل آدم تارة وأخرى لدفع هذا الأخير إلى قتلها مزينا لكل منهما أقوى المبررات كالخيانة الزوجية والحكم بالمؤبد في البيت على حواء من طرف آدم وذريته في المطبخ... الغاية؟ "إجهاض الآدمية، علّ مسلسل الفظاعة يقف قبل أن يبدأ". الغاية نبيلة، لكن تبعاتها أخطر من تبعات الحربين العالميتين.. وجهنم متخمة بذوي النوايا الطيبة... بعد جهود مضنية في التحريض وبعد أن كاد آدم يقع في الفخ عند ذكر المرزوقي لإمكانية خيانة حواء له، حسمت هذه الأخيرة في الأمر بقبلة وعناق وبما بعد العناق.. وعاد الإبليس الآدمي مهزوما مكسوراً يتخبط في خيالاته إلى ما لا نهاية حتى غلب النوم على ابنتيه.. واقتنع، ربما، بشكل أو بآخر بالقصة "الرسمية" لأول يوم من الزمان.

انسحبتُ من النص على بنان قدميّ حتى لا أوقظ الصبيتين مطمئناً إلى إجهاض محاولة أبيهما تشويه وتزوير تاريخ أول يوم من الزمان من طرف حّواء ذاتها التي راهن على استعمالها في اغتيال جدّنا آدم. لكن الذي يظن أن المرزوقي يقنع بالبقاء مكتوف اليدين ساذج.. وربما أبوه وجدّه وأمه وشيخ كتّابه ثم زين العابدين بن علي أدرى الناس بهذا السر العظيم.. ييأس من آدم وحواء، ينتقل إلى هابيل وقابيل يسمم علاقاتهما التي كانت على أهبة الانفجار في مناورة إبليسية وإن لم يكن بحاجة كبيرة إليها ما دامت علاقة ولدي آدم انتهت إلى التراجيديا المعروفة. يتركهما وسط الدماء، ليقتحم عالم الطبيعة مشاكساً ومتفلسفاً غارقاً في أسئلة ما زال يرددها منذ الجزء الأول من هذه "الرحلة" التي بلغت الآن جزءها الخامس الخاص بسبر أغوار "الآدمية" وطبائعها.

لكن فجأة أجد نفسي تائهاً في أجواء سريالية وكأنني في حلم.. يمر أمامي وأنا أتسكع بين سطور الصفحة 25 جندي روماني مخضب بدم آخر معركة، ثم يظهر أمامي ابن بطوطة في غرفته يدبج "آخر أكاذيب رحلته"..

"حنبعل في طريقه إلى منفاه السوري".. قطيع من الآدميين "يلقي القبض على الخيل" ويستعمر "أمم الإبل والبقر" ويضع "شعوب الكلاب والقطط تحت الوصاية" و"يسحق سحقا أمم الأسود والنمور" لرفضها الخضوع حتى أن الشياطين فرّت خائفة من الترويض والاستعمال من طرف الآدميين. إننا الآن في مشهد "صراعها (أي الآدمية) لامتلاك ما لا يمُتلك".. في قلب معارك وحروب هوجاء لا مخرج منها يتعمد المرزوقي التفنن بسادية في إبراز أفظع ما فيها بدون تحفظ.. "ها هو عويل الجنود، بكل اللغات في كل الأزمان يختلط بصهيل الخيل وقعقعة السيوف ودوي الدبابات وزمجرة الطائرات وانفجار القنابل والصواريخ.. يصرخ رجل كان يريد نفسه هو لا غير أكبر غزاة التاريخ إلي يا شجعاني إليّ، فيخرج من الميترو مشاة البحرية للجيش الصيني وعلى رأسهم جنكيز خان لتمطر فرق الكوماندوس من الحوامات المعلقة في الفضاء الجماهير المتدافعة بالسهام بينما يراقب هولاكو خصمه جنكيز خان من الخلف(..) لقلب نظام الحكم. يركض الآدميون على شواطيء أسبانيا هلعا أمام غزاة خرجوا من وراء البحر الكبير، يخرون على وجوههم ركعاً وسجوداً (...) تصرخ الكاهنة في طياريها: جحافل العرب على ثلاث ساعات شرقا. أعدّوا صواريخ اللّيزر. يلوّح عقبه بسيفه من على صهوة جواده: هذا غش.. تعالي للمبارزة بالسيف أو الرمح، إن كنت رجلاً (..)".. كان الاقتتال يتم بشراسة وبشكل فظيع وما كان على صبيتي الكاتب غير الإنصات للأب الذي غرق في هلوساته..الحكيمة رغم كل شيء..، حكيمة لأنها تفضح جنون الآدمية وغباءها منذ اليوم الأول من الزمان وما يتسبب فيه من فظائع وكوارث من أجل تملّك ما لا تشعر باستحالة تملكه إلاّ وهي تغادر الحياة الدنيا. والمرزوقي لا يجامل أحداً في فضحه لهذا الجنون الغبي ولا يرحم براءة صبيتيه ولا صبر قرائه، ولا يقبل أن نقطع هوسه واسترسال خياله... "ها هم كبار القتلة يتقاسمون أشلاء ما يسمونه النصر.

يجلس على ضفة بحر الدماء نابليون بونابرت إلى طاولته ومعه ضيوفه. يصيح في الخدم والحشم: عجلوا أنا جائع وضيوفي أكثر مني جوعا وأخاف أن يأكلوني حيا.

ـ يا صاحب الجلالة إن اللحم الروسي بحاجة لشيء من الوقت للطبخ من طول تعرضه للبرد. تتكدس تلال وجبال اللحم القادم لتوه من المجزرة. يقدمه الطباخون مشويا ومقليا وبالبخار وبالبهارات مشيرين بابتسام متكلف إلى أفخاذ الرضّع ونهود النساء (...) يصرخ خالد في نابليون:

ـ لا تنس
البهارات. فنحن العرب لا نحب طبخكم فلا طعم له (...) يغضب نابليون لشرف الطبخ
الفرنسي.

ـ ماذا تقول أيها العربي الجلف؟

ـ تشتم سيدك يا قزم.. أيها الكورسيكي المافيوزي المخنث.
يتدخل "إسكندر المقدوني" و"أتيلا" و"جنيكيز خان و"سيتينج بول" و"أشوكا" ليضعوا حداً للخصومة!!" لكن سبق السيف العذل ولم يعد أحد يتحكم في الأمور بما في ذلك المرزوقي نفسه لتتحول المأدبة إلى مجزرة بين كبار "الجزارين" عبر التاريخ..، مشهد فظيع حتى أن إبليس صرخ من قمة جبل الأجساد المتراكمة منذ فجر التاريخ وهو في "قمة التهكم والشماتة: أرادني أن أسجد لهؤلاء الوحوش الذين خرّبوا حديقته". ثم لا يبقى إلا الصمت وصفير الرياح بعد انتهاء المعارك و.. الانطباع الأكيد بأن "الآدمي بطبعه وبسليقته وتركيبته وإلى الأبد ملاك شيطان".

نحن الآن تجاوزنا منتصف طريق "الآدمية"... المرزوقي انتهى من تصفية حساباته مع آدم وذريته التي صنعت من مآسيها البطولات الهمجية، لكن طاقته ورغبته في النبش والمشاكسة والفضح لم تخف حتى أني.. أتصور بأنه لو كان حاضرا أمام آدم وحواء في اللحظة التي طُردا فيها من الجنة لسارع "بالسليقة" إلى تجريدهما من ورقتي التوت. فتح إذن جبهة مع عالم الرموز وبالضبط مع اللغة ومع ملايين الأطنان من الكتب التي يحملها في أحشائه منذ ميلاد الكتابة في وادي الرافدين، ولا شك أنه لم يزد بذلك سوى في إثارة الأحقاد عليه هو المغضوب عليه من طرف الأنظمة السياسية في العالم الحسي ليزيد في توسيع الحُفر المنصوبة له. ويُرسي المرزوقي وابنتاه في "المكتبة العظمى" أين يتقاطع فضاء الرموز مع فضاء الخيال منذ أجيال حيث "تولد (..) القصص وتنشأ وتتطور وتتزوج وتتشاجر وتحفظ وتموت (..) منذ ولادة آدم وحواء إلى اليوم". قصص ولادة الآدمية و"جلجامش" و"زاردوز" وفرعون والأنبياء وشهرزاد "التي كانت تشتري حياتها بالقصص" وشهريار "الذي كان يداوي ملله من القصة التي يعيش بالقصص التي لم يعش"، وعلاء الدين وعلي بابا وأرخميدس.. التي هي غالبا صدى أحداث الآدمية في الذاكرة.

أَقتَحِمَُ راحة كلمات وسطور "الآدمية" في جزئها الثاني هذا "التجربة" حتى أتمكن من متابعة إحدى هذه القصص على المباشر، كما يحدث في الـ: Tv. reality، وأجد نفسي وجها لوجه مع وزير يهمس في أذن فرعون:

"ـ يا مولاي لا بدّ من القضاء على زعيم حركة التمرد (..) إنها الفرصة الوحيدة للتخلص منه ومن ذريته إلى أبد الآبدين.

ـ ..
ماذا فعل هذا العبد (...)؟

ـ (...) إنه يشيع في الشباب أفكارا هدامة من نوع
كل الآدميين إخوة ولهم نفس الحقوق ونفس الواجبات (...)
وفي الزاوية المقابلة يهمس أنصار الثورة في أذن موسى:

ـ الرب معك وسننتصر بإذنه (...)."

عندما يرفع فرعون سيفه عاليا، كان المرزوقي قد اختار صف موسى كالعادة. وبما أنه صاحِب الكتاب وكاتب كل سطوره، تَدخَّل في سير القصة انتقاما من جميع فراعنة التاريخ والحاضر والمستقبل، دون شك بمن فيهم فراعنة بلاده. ما الذي جرى بعدها؟ يضرب فرعون رأس موسى شاجا رأسه، لكن النبي بقي واقفا هادئا مبتسما ابتسامة عريضة كشفت عن أسنان جميلة ناصعة البياض، بفضل المرزوقي، يُسدد له طعنة إلى الصدر دون جدوى.. يندهش الجميع..(..) يهمس أحدهم في أذن زميله: (..) بكم تعتقد أننا نستطيع شراء خدماته لحملة إشهارية جديدة لمعجون الأسنان الثوري الذي تعدّه مخابرنا؟"!! وتنتهي القصة بغلبة موسى بمجرد كتاب من كتب "المكتبة العظمى" أمام عنجهية سيف فرعون، والمرزوقي منتفخ الصدررافع الهامة اعتزازا بإنجازه أمام صبيتيه المندهشتين..

هذا الكتاب ليس سوى واحد ضمن كتب لا تحصى تتظاهر بالصمت والانضباط والوقار على رفوف المكتبة، يقول المرزوقي الذي يقتحم كواليسها منغصا عليها راحتها وفاضحا ما خفي من نفاقها وزيف تحضرها، حيث تفتعل الوداعة في الجهر وهي دائما متطاحنة "تقفز على بعضها البعض كما يفعل الأطفال" في سرها وتتراشق وتنتقد وتسب بعضها البعض كجميع الكائنات الحية... فلكل كتاب رأي ومناظرات واشتباكات وحتى حروب مع الكتب الأخرى تُعبأ الآدميين وقودا لمعاركها. في هذه اللحظات كانت "الكتب الدينية والكتب المناهضة للدين قد (خرجت) من وقارها ومن الرفوف لتشتبك في معركة حامية الوطيس". ترتطم المجلدات بالمجلدات، تصرخ الكتب الصغيرة، تهب أخرى لمساندة هذه أو تلك.. يتناطح في الهواء "صحيح البخاري" مع "الإعلان الشيوعي" (...) تأخذ المادية بخناق المثالية وترتمي المثالية على الجدلية (...)" ولا تنفع لاستعادة الأمن والنظام العام لا قوات التدخل السريع ولا اختراق المخابرات ولا دهاليز التعذيب ولا الرشوة، ما دامت بقيت جميعها عاجزة منذ ميلاد أول كتاب على وضع حد لهذا التناحر المقنع بالوقار والوداعة. هل تعتقدون أن الدكتور المرزوقي سيتوقف عند هذا الحّد عن ممارسة هوايته بـ: "السليقة" في المشاكسة والفضح "والتشويش"؟ من يحلم بذلك كأنه يأمل رؤية إبليس يطوف بالكعبة ويصلي مع الحجّاج.. بالعكس، سوف يواصل استكشافه للآدمية وتناقضاتها وطبائعها مُمَْسرِحاً إيّاها بـأسلوب شيق وممتع بلغ ذروة نضجه وتكامله في هذه المرحلة من "الرحلة"، أي في جزئها الخامس "الآدمية"، التي يمكن اعتبارها أجمل كتب هذا السّفر الذاتي في الذاكرة والخيال والوجدان والتاريخ والفلسفة...

لكن تبقى السخرية والهزل، المرّ في الكثير من الأحيان، الخاصية الأساسية التي طغت على "الآدمية" وأعطتها خفّة في الروح كاريكاتورية وسلاسة ومتعة إلى حدّ مثير، متعة كتلك التي يشعر بها الأطفال وهم يتابعون بنهم مغامرات السندباد البحري، أو معارك غريندايزر، متعة عجائبية عالم والت ديزني، جول فيرن أو علاءالدين وعلي بابا بلمسة نقدية تأملية قوية تذكّر بعمل الكاتب اليوناني نيكوس كازانزاكيس "آخر غوايات المسيح"، وبروح نكتة لم نعهدها في ما تعودنا على قراءته في مقالات وتحاليل منصف المرزوقي، وهي عناصر تُسّهل عملية تفكيك الأفكار والتصورات الجاهزة والتابوهات وحتى المقدّسات وإعادة التركيب بعد إعادة التفكير فيها وصياغتها من جديد بمنطق تحليلي ـ نقدي. روح نكتة فيها شحنة إبداعية ـ تخيلية قوية، فيها السريالية وفيها الدادائية قلّصت من كلاسيكية الأسلوب التي طبعت الجزئين الأوّلين ومن طريقته المباشرة في السرد. لكن في هذا الكتاب، كسابقيه، شعور دائم الحضور بالانكسار والإحباط والمرارة، وأحيانا الإشفاق، من حالة الآدمي إلى الحدّ الذي تبدو فيه البشرية وكأنها يهود الكون ما بين بقية الكائنات الحية وغير الحية. غير أن المرزوقي حتى في أحلك مشاهده مع "الآدمية" يحافظ على شعلة قوية من الأمل في الأفق، جعلت "آدميته" قصة أو قصصا تشبه اللعبة، لعبة مبكية ومضحكة في نفس الوقت، لعبة هي في الأصل شكوى وصرخة أحد أحفاد آدم وحواء أتعبته كثيراً تجربة الحياة.

قراءة فوزي سعد الله ـ الجزائر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى