الأحد ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٣
بقلم فتحي العابد

مرّ الأيام

بدأت معاناتي وآلامي عندما كنت طفلا لا أعي شيئا من أمور الحياة، بعد حكم على والدي الأستاذ باثني عشر سنة سجنا لإنتمائه الفكري الإسلامي.. عشت أنا وأمي وأختي التي تصغرني سنا الحرمان المادي والعاطفي، قضيت أحلى فترات طفولتي شبه يتيم.. لم أستطع إتمام دراستي وغادرت مضطرا السنة الخامسة ثانوي لأعيل شقيقتي وأمي التي حنا الدهر ظهرها رغم صغر سنها، فاشتغلت حارسا ليليا بأحدى النزل، وماإن عرف ذلك "البوليس السياسي"، حتى بدأ في مضايقتي وحاول إجبار صاحب النزل طردي الذي تمنع في الثلاث سنوات الأولى وفي الأخير أذعن.. لم أقدر على التأقلم وعجزت عن إيجاد عمل يناسب مؤهلاتي.. فاضطررت إلى الإشتغال بحضائر البناء والدهينة لأوفر الحد الأدنى من المال الذي يغنيني، ويغني عائلتي سؤال الناس..

ورغم إدراكي أن أبي ضحية ظلم لم ألتمس له عذرا، وكنت طوال تلك السنين أفكر وأردد بأنه كان بإمكانه تفادي ذلك، لو كان يعمل لعائلته حساب، كان بإمكانه تغيير المنكر بأضعف الأيمان.. ولم أكن يوما مقتنعا بتلك المقولة التي طالما رددها علي كثير: هم يحملون أرواحهم على أكفهم من أجلنا ومن أجل ديننا، هم المناضلون، هم الذين نذروا أنفسهم للوطن.
وعلى الرغم من أننا نعيش عصر الفضائيات والإنترنات، وتبادل المعلومات عبر الفضاء والأثير وكل وسائل الإتصال المعروفة، إلا أنه كلما زدت خطوة في الزمن نما في إحساس بأن العالم الخارجي لا يرى ما أرى.. وعاينت ذلك لسبعة أعوام قبل الثورة أشدها قسوة علي هي: نظرات الناس وتحاشيهم الإقتراب مني خوفا من أجهزة الرئيس..

أخيرا جاء الفرج أو بعض منه كما خيل لي.. خرج والدي من السجن، لكن تلك السنين خلفت في داخلي برود تجاهه، ولم أفرح كما يفرح الناس عند لقاء عزيز عليهم.. استبشرنا بقانون العفو العام، ولكون والدي قد بلغ سن التقاعد داخل السجن نصّ القانون على تشغيل أحد أفراد عائلته (ابنه)، وجاءت الموافقة على تشغيلي بالمعهد الذي طردت منه قبل سنين.. فرحت العائلة لتعييني في خطة قيّم بالمعهد.. لكن فرحتنا اصطدمت بوقفة احتجاجية لنقابة التعليم الثانوي التي رفعت "ديقاج" في وجهي، بدعوى أن توظيفي محاباة.. فعاودني الحزن وكأن قدر أفراد عائلتي الحرمان، سلبوا قبل الثورة من حقوقهم المواطنية بسبب مقاومتهم للإستبداد، ثم يكونوا ضحايا عنصرية مقيتة في التعامل مع ملفاتهم بعد الثورة في وطن ضاع فيه الحق والباطل. وزاد إحساسي تصحرا تجاه الحياة.. وسكنت عيناي دموع لا أجد لها منبع، وفؤاد زرعوا في حقوله النار، وفي جداوله الحنظل، وصار الوطن أخرس، وساكنوه أشباه هياكل تتنقل بخوف، وأن علقم الأيام وجراحاتها لن يتوانوا في ملاحقتي رغم محاولة إخفائهم إلا عن نفسي!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى