الأربعاء ٥ أيار (مايو) ٢٠٢١

مساء ذلك اليوم

سماهر أسد

كانوا يلعبون بمرح في ساحة المدرسة، أحبَّ لو يلهو معهم ويقضي بعض الأوقات الممتعة. أطرق وبدأ يفكر بحثا عن جملات فارسية ليعبر بها عن اشتياقه للعب معهم.

كان يضرب بحذائه على الأرض متأملا تلك الجملات. خطرت بباله عبارات بسيطة فوجدها مناسبة وأخذ يرتبها في مخيلته، كررها كثيرا ثم مضى خطوتين. مكث فجأة، أطرق مجددا، ضرب كفاً بكف:

_أووف، تبا... نسيتها...

رفع رأسه، فوضع يده تحت ذقنه مفكرا عما وجد من جملات قبل قليل، غيّر بعض المفردات، رتب بعض الآخر وكرّرها كثيرا حتى حفظها.

مضى مطرقا ومتمتما بتلك الجملات حيث وجد نفسه أمامهم. التقت نظرته بنظراتهم. توتر لثوان فلملم نفسه وبدأ يتكلم معهم باللغة الفارسية. تكلم قليلا فتلعثم في الكلام، فكّر ثم رفع رأسه نحوهم وحدق في وجوههم، لم تسعفه الذاكرة قال نصفها ونسى النصف الآخر وبدأ يفكر مجددا. خانته ذاكرته، هكذا يبدو ولكن كيف تخونه الذاكرة وهو ذكي جدا ولقد حفظ تلك العبارات عن ظهر قلب؟! ورتّب وغيّر وبدّل المفردات في نفسه مرارا وتكراراً، غريب هو أمر الذاكرة، تخون صاحبها حسب الزمان والمكان. لقد خانته الذاكرة مساء ذلك اليوم في ساحة المدرسة حينما تلاقت نظرته بنظراتهم الباردة ورأی ابتساماتهم المزيفة فتلعثم في القول، لم تخرج من فمه إلا بعض المفردات الرطنة التي نطقها باللهجة العربية فارتسمت ابتسامات خبيثة على شفتيهم بعدما استمعوا إليه، واتسعت الابتسامات فانفجرت ضحكا. دوت ضحكتهم في الساحة. كانوا يقهقهون ويشيرون إليه بسباباتهم، ارتبك كثير، بان في ملامح وجهه، الإضطراب والخجل، قد احمرت وجنتاه، التفت إلى اليمين ثم إلى اليسار ثم ابتعد عنهم حتى اختفى.

دق جرس المدرسة وخرج التلاميذ مثنى مثنى إلا هو وحيدا، وحده، متوحدا متأبطا حزنه اتجه نحو البيت. كان يسحل رجليه على الأرض ويخطو خطوات بطئية، تجاوز الشارع واقترب إلى حارّتهم، كلما كان يقترب إلى زقاقهم العتيق، كان يخف شعوره بالوحدة. لمح أمه عند باب بيتهم فتهللت أسارير وجهه واختفى كل ما يعانيه من مشاعر الأسی، سلم عليها ودخل البيت. نسى كل ما حدث له اليوم في المدرسة وعادت روحه التي قد هجرته منذ تلك الساعة واستقرت في مكانها في أحضان لغة أمه الدافئة التي تنبض بالأمان.

أصوات صاخبة تطن في الفضاء، ضوضاء منسقة، تعلو تارة وتهبط تارة أخرى. هناك على رصيف شارعهم،صدى اللغة الأم يعكس السرور والبهجة. هرول نحو الباب وفتحه، وجد أولاد الحارة يلعبون بحماس، ضحكاتهم تردد في كل أنحاء الحارة. الفرح يتطاير من ذلک الرکن الذي اجتمع فيه الأولاد. ناداهم بصوت عال وهو يلوح لهم بيديه:

_هيااااا يا رفاق انتظروني قليلا، جئت لألعب معكم.

طار إليهم وراح يملأ الفضاء بضحكاته المفعمة بالسعادة. أخذوا يركضون وهو يركض ورائهم ويضحك من كل قلبه، تعالت أصواتهم وارتفعت ضحكاتهم فانتشرت عبارات بلغتهم الأم بشكل منظوم في أنحاء الزقاق، كأنها فقرة من النشيد تردده فرقة موسيقية،قام بعضهم بالرقص على إيقاع تلك الأهازيج، كانوا يضربون الأرض بكعوب أرجلهم، رقص مثلهم، كان يدور ويضرب الأرض برجله ويميل على شدة موسيقى الأهازيج وحدتها. موج من فرح صاخب، غطى ساحل قلبه فانزوى ذلك الحزن الأليم الذي كان يلذع قلبه.

كان الوقت لايزال نهارا عندما حضر إلى رصيف الشارع ولكن سرعان ما داهمتهم ظلمة الليل وأضيئت أنوار المصابيح الضئيلة فتفرق شملهم المفعم بالحيوية وذهب كل واحد في طريقه.

في صباح يوم الغد فقد رغبته في الذهاب إلى المدرسة ولو لا إلحاح أمه لبقى في البيت.

_لم أذهب اليوم.

أدار رأسه نحو أمه:

_لا خير في المدرسة لو لم تمنحني الأمان والحماية. لا أذهب اليوم..

قالها رافعا سبابته نحوها احتجاجا.

نهرته أمه ورفضت بشدة فكرة عدم ذهابه إلى المدرسة. ووجدته مهموما متضايقا فنظرت إليه نظرة حنان وهدأته وأقنعته بصعوبة. استسلم لأمرها، وكيف لا يستسلم؟! لم يجد حلا آخرا غير الاستسلام، فخضع لها، كما خضع لمعلمته عندما كانت تجبره أن يتكلم بلغة غير لغته الأم عنوة وإجبارا.

لقد ذهب إلى المدرسة حزينا وغير راض عن نفسه. انتابه شعور غامض وهو جالس على الكرسي في نهاية الصف، شعور كان يضايقه طوال الوقت.

دخلت المعلمة في الصف، قاموا فوجه لها بعض الطلاب جملات ترحيبية منسقة، قام معهم وكرر نفس العبارات ثم جلسوا برهن إشارتها. اتسعت على وجهها ابتسامة مرحبة َو رحبت بهم ثم انطلقت من فمها عبارات غيرمألوفة له بطريقة يغلب عليها الطابع الرسمي. بانت علامات الانزعاج على وجهه،، شعر ببعض التوتر فنظر إلى خارج النافذة. وضعت المعلمة نظارتها على عينيها ثم بدأت تقرأ الأسماء من دفتر الحضور والغياب. شعور غامض كان يضايقه طوال الوقت، سعى أن يطرد ذلك الشعور من نفسه فالتجأ إلى خياله فكر بنهاية الحصص الدراسية، دق الجرس فخرج من المدرسة في خياله، خطر بباله طريق المدرسة إلى البيت ودخل في تفاصيل الطريق، كل المشاهد تماثلت أمامه، كأنه تذكر فيلما سينمائيا شاهده سابقا، هاهو الآن يعبر الشارع الرئيس ويقترب إلى زقاقهم فوجد هناك على ركن الرصيف أولاد الحارة ولمع في عينه برق الفرح وراح ليتكلم معهم في مخيلته. بينما كان غارقا في أفكاره، و واضعا يده تحت ذقنه وإذا بصوت ناعم يناديه:

_ميسم. ميسم. ميسم، ميسم كيه؟

كانت عيناه مسمّرتان نحو النافذة، متجولا في عالم خياله. ذلك المكان الوحید الذي كان ينتمي إلیه ویشعر بالأمان فيه.

_ميسم؟ "١"

قالتها المعلمة مجددا

ارتفعت همسات التلاميذ فارتفع صوت المعلمة:

_ساكت، ساكت باشين ميسم هست؟ "٢"

انتشله من أفكاره صوتها المرتفع فرفع رأسه وحدق إليها في دهشة بالغة، ثم رفع يده فجأة:

أنا.. ها... لا... منم خانم، من."٣"

عمّت الصف ضحكة عارمة.

_ساكت.

قالت المعلمة وأنزلت النظارة إلى حافة أنفها وتطلعت عليه من فوق إطارها:

_كجایی پسر؟ چندبار صدات زدم! هنوز كلاس شروع نشده، رفتى تو عالم خيال كه! حالا كجا سير مي كردی؟ به ما هم بگو" ٤"

دوت ضحكات التلاميذ في الصف مجددا. ارتبک، فنظر إليهم بخجل، قد إزداد احمرار وجنتيه، ارتفعت الضحکات فأطرق واغرورقت عيناه. لم يستطع منع دموعه عن التساقط، فتزاحمت الدموع أطراف رموشه. وتدحرجت إلى الأسفل، فأمسك الكتاب وفتحه، دس رأسه فيه وشرع يمسح الدموع السائلة على خديه ولكن سرعان ما حلت دموع جديدة مكان تلك التي مسحها فتساقطت الدموع واحدة تلو الأخرى.

١) ميثم، ميثم، من هو ميثم؟

٢) السكوت، التزموا بالسكوت، أين هو ميثم؟

٣)أنا ميثم، أنا، يا ست.

٤) أينك أنت، لقد ناديتك أكثر من مرة، لم يبدأ الصف بعد، ولقد رحلت إلى عالم الخيال، إلى أين كنت تجول في خيالك؟أين كنت، قل لنا.

سماهر أسد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى