الأربعاء ١٤ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم نمر سعدي

مصابٌ بلعنةِ فراعنتها

أقيمت في مسرح الميدان الموجود في مدينة حيفا قبل مدةٍ وجيزة إحتفالية بتدشين نشر رواية الشاعر والروائي الفلسطيني المعروف والمقيم في عمَّان إبراهيم نصر الله " زمن الخيول البيضاء " والتي قامت بتبنيّها واحتضانها مكتبة كل شيء في حيفا وهي من كبريات دور النشر هنا في الداخل الفلسطيني , ولكن حلقةً ضائعةً لا زلتُ أبحثُ عنها في تبلوِّر هذه العلاقة المفاجئة بين دور النشر عندنا والأدباءِ المقيمين خارج الوطن , لا أريد أن أقول الأغيار أو الأجانب حتى لا أُتهَّم بالتطرَّف الثقافي أو بالعنصريَّة , مع أنَّ الشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله من لحم هذا الوطن مقتطعٌ ,
وليس من باب التقليل من قيمة شاعر وكاتب بحجم إبراهيم نصر الله بالتجائه القسريِّ إلينا بعدما كانت كبرى دور النشر في عالمنا العربي" المؤسسة العربية للدراسات والنشر" تحتضنهُ كأبنها وتتبنَّى كتبه. فأنني أعترف بأنه من أنشط الكتاب والشعراء الفلسطينيين في الوقت الراهن ويمتاز برأيي بغنى ثقافي وحضور أدبي آسر وشاعرية إنسانية رقيقة ومسحة غنائية صافية الجرس وعميقة الحسِّ , قرأت ربمّا كلَّ دواوينه الشعرية الأمر الذي لم أفعله حتى هذه اللحظة مع رواياته اللاتي يبدو لي أنها من الأهمية الأدبية والتاريخية بمكان.

ولا زلت أذكرُ ديوانيه " مرايا الملائكة " وحجرة الناي" وما تركاه في ذهني من عبق وتحت لساني من طعم طيِّب فأقفُ مذهولاً أمام عبقرية شعرية تستحقُ الإلتفات والمتابعة ولا أريد أن أرّددْ ما قاله كبار النقاد العرب عن شاعر مثل إبراهيم نصر الله ومنهم عبد العزيز المقالح واحسان عباس وغيرهم كثرٌ. ولكني أريد فقط وضع بضعة نقاط على حروف مبعثرة. وأريد أن أسأل نفسي هذا السؤال الحائر,من ينشرُ لنا نحنُ الجيلُ الشابْ؟ ألهذا الحدِّ الرخيص وصلت قيمة الكاتب أو الشاعر عندنا؟
إلى مشارف كلام ٍ جارحٍ كهذا " عزيزي أنشر لوحدك وعلى نفقتكَ ولا علاقة لنا بك" حتى أنه بات وقد أضاع بوصلة روحه وأصبح حاله أو كونهُ كاتبا على حدِّ تعبير الروائي الكولومبي الفذ غارسيا ماركيز مأساة كبرى لا تعدلها مأساة في العصر الحديث. بعد تخلِّي دور النشر عنه وبعد حصاره من جهاته الستِّ على يدِ الشلّلية "الأدبية" البغيضة التي تتشدقُّ بدفاعها عن الأدب والثقافة حيناً وتارة تتنافحُ بمساعدة الشعراء الجدد وتقديم يد العون المعنويِّ والماديِّ لهم. وهم في وهمهم يشطُّونَ ويعمهون. فأنهم لا يجيدون الاَّ وطئ هام الجيل الذي يصغرهم , وتعمية وتدليسَ بل إنكارَ إنجازِ غيرهم خصوصاً اذا كان أفضلَ ممَّا قدَّموا هم.

ويقفز الى ذهني في سياق حديثي هذا كلام لصاحب دار نشر لها أسمها عن شاعر كبير عندنا بأنه أصبح يطبعُ دواوينه على نفقته الخاصة طباعة ً رقمية باهظة الثمن وبنسخ قليلة بعدما سئمَ مماطلات وأكاذيب دور النشر الواهية التي رفعت شعاراً يقولُ بأنَّ الشعر والرواية قد اُلغيا منذ زمن ٍ بعيد ٍمن قائمة المواضيع التي تسعى هي في سبيل طباعتها ونشرها والترويج لها ودعم كاتبها , وبات البحث الأكاديمي والدراسة العلمية سيَّدا الموقف , "مع الإحترام لمقولة الدكتور الناقد جابر عصفور بأننا نعيش في زمن الرواية" , هذا حسب كلام مسؤول كبير في دار نشر فلسطينية عريقة, بينما دور نشر عندنا تقوم بإستيراد الأسماء والفرسان من الخارج والميدان ملئ هنا ويضيق بهم.

كنت في الماضي قد سألت صاحبَ دار نشر إذا كان في وسعه أن يصدرَ لي ديوانا شعرياً فأجاب بأنَّه لا يرفض طباعة أيَّ كتاب على نفقة مؤلفّهِ هذا عدا أنهُ إذا نشره سيحتفظُ بالمطبوع لديه كما أكدَّ لي قائلاً أنه سيسوَّقهُ في معارض عربية خارج البلادْ. وهذا هو المتداول لدى دور النشر العربية في الخارج. يأخذون الكتاب المطبوع وربمَّا يبيعونه لصاحبه بعدما يكون هذا المسكين قد دفع نفقات طباعتهِ , أي يقبضون الثمن مرتينْ , تخيَّل أن دور نشر كثيرة تأخذ سعرَ الطباعة والكتاب نفسهُ أيضاً , هكذا شرحَ لي صاحب دار نشر مرموقة في رام الله وهكذا فهمتُ منه الاَّ اذا قصرَ فهمي. مع أنَّ سعر طباعة أي كتاب في الخارج قد تضاعف أيضاً كما هو الحال هنا "في الداخل الفلسطيني" , وعادة ما تتكرَّم دور النشر على المؤلَّف"إذا كانوا كرماءَ معهُ" بأعداد قليلة من النسخ يهديها لأصدقائه أو يحتفظُ بها لنفسه في زمن ثقافة الفضائياتْ ,وهنا أسأل نفسي "ترى هل جرى هذا الأمر مع الكاتب إبراهيم نصر الله أيضاً"؟ هل رضي بنسخٍ قليلةٍ كما رضيَ غيرهُ مجبراً.

دائماً أقول أن أزمة النشر آخذة ٌ لدينا نحنُ خصوصاً بتفاقمٍ مُحزن. فقبل سنين معدودة كان بإمكان من يملكُ ألف دولار من الكتاب والشعراء أن يطبعَ كتاباً متوسِّط الحجم "ديوان شعري مثلاً يحوي مئة صفحة أو أكثر بقليل بغلاف أنيق". أماَّ اليوم فالأمر مختلفٌ ويدعو إلى الأسف في ظلِّ غلاء الطباعة والورق, فسعر طباعة كتاب كهذا تضاعف الى حوالي ثلاثة أضعاف أو أكثر. ولا يوجد من يموَّل هذا المشروع الاَّ " دائرة الثقافة العربية " التي دخلت في تناحر مرير ومشاحنة مع الوزير الجديدْ الذي قيَّد يديها وأرجلها ولن يطلقهما الاَّ أن يشاء الله. وكنتُ قد منيَّتُ نفسي بها وبمساعدتها زمناً. فقد برأتُ نفسي من هذا الرجاءِ خصوصاً بعدما تيقنتُ أنَّ إسمي مصابٌ بلعنةِ فراعنتها أو ربمَّا مكتوبٌ في سجّلاتها السوداءِ أو قوائمها المنسية وأنني ضمن من لا تنفعهم شفاعة الشافعين لديها.

ماذا يصنعُ مثلي إذن؟

لا أنكرُ أنَّ الشعر في حالة إنحسار كما يذهبُ الى هذا بعضُ الأصدقاءْ. وأنه يُطبعُ ويُباع بنسخٍ قليلةٍ ومحدودةٍ وبطبعات زهيدة تدعو الى الإشفاقْ المُرِّ الحقيقي , وبتنكرٍّ صريحٍ كضوء الشمس من دور النشر الكبيرة أو الصغيرة أو من دوائر "القرصنة الثقافية الرخيصة" على حدٍّ سواءْ.

لكن من هو المسؤول الرئيسي والأوَّل عن هذا الوضع المزري؟ هل هو صاحب دار النشر المستورد للشعراء والكتاب الأغيارْ والوافدين؟ أم المؤسسة البيروقراطية ودوائرها المذكورة آنفاً؟ أم هو الهبوط الحادُّ في مستوى الذائقة العامة للقرّاء بسبب هذا الكمَّ الهائل من الكتابة الرديئة والركيكة والساذجة التي تملأُ صحفنا الورقية والرقمية وأغلب مواقعنا الالكترونية؟

أعرفُ أنهُ لا توجد إجابة مقنعة وشافية على مثل هذه الأسئلة البريئة. وأعرفُ أيضاً أن الحال ربمَّا تزدادُ سوءاً في المستقبل على ما هي عليه الآنْ. ولا يسعُ طموحي الاَّ أن يقفَ مشدوهاً أمام الآخرين عاجزاً حتى عن مناغاة حلمه الطفل. وأتساءلُ هل كان بإمكان كاتبٍ مثل باولو كويلو أو جوزيه ساراماغو أو كاتب كماركيز مثلاً أن يصل الى ما وصلَ اليه لو لم يكن يملك الكثير من الإمكانيات التي يفتقرُ اليها الكثير منَّا؟ لكن لماذا أذهب بعيداً , هل كان بمقدور شاعر كمحمود درويش مثلا أن يصل الى ما وصل اليه من دون المساعدة الكبيرة له من أحزاب ومؤسسات وعلاقات توفرت له ولم تتوفر لغيره , وهذا ينطبق أيضاً على شاعر بحجم أدونيس أو حتى على شاعرنا العزيز ابراهيم نصر الله , هل كان بإمكان كاتب عملاق وضخم الإنتاج مثل ابراهيم الكوني أن يكتب أكثر من ستينَ مؤلفاً ترجمت الى جميع اللغات الحيَّة حتى كأنهُ آلة بشريةُ ثقافية موسوعية مثيرة للجدل والدهشة ومسكونة بعذابات وتجليَّات الصحراء في تنوِّع ثقافي إنساني يدعو الى الإطمئنان على ثقافتنا العربية وبأنَّ هناك من لم يزل قادراً على حمل المشعل ذاته الذي حمله الجاحظ وأبن رشد وأبن سينا والفارابي وغيرهم , هل كان على ما هو عليه الآن من إقترابٍ ودود لجائزةِ نوبل من دون الدعم الهائل الذي لقيَه من دور النشر الغربية قبل العربية والتي كفلت له نجاحهُ ككاتب يعدلُّ ربمَّا مارسيل بروست أو فرانتز كافكا في نظرهم؟ ولكن لا ينسلُّ من نفسي في نهاية هذه المكاشفة/ المساءلة المريرة الاَّ طيفٌ قزحيٌ واحدٌ يسائلُ وما من مجيب , هل هناكَ أزمة نشر أم وعي؟!! أم أزمة أدب؟؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى