السبت ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

مصر.. أكواخ وقصور

يقال عادة إن دور المثقفين هو نقل الوعي إلي الناس، لكن يتبين يوما بعد يوم أن على المثقفين أن يتلقوا الوعي من الناس ليتعرفوا إلي أحوالهم. وقد نشرت " أخبار الحوادث " في 8 مايو الحالي في باب الشكاوي الخطاب التالي: " إلي الدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة، أنا شاب صغير السن من أسرة فقيرة تسكن الصعيد والدي متوفي، برجاء علاجي فأنا لا أتذوق طعم النوم من الآلام التي في صدري ولم تنجح جلسات الاشعاع في وقف نشاط الورم و الآن وصلت حالتي إلي العلاج الكيماوي.. فمن يقف بجواري؟ ".

المعذب أحمد على أحمد عبد الواحد. مركز المراغة عزبة بني هلال سوهاج. ولا أظن أن الكثيرين منا في مصر قد سمعوا بعزبة بني هلال التابعة لمركز المراغة الذي لم يسمع به أحد! وبوسع من زار الصعيد ولو مرة أن يتخيل حال تلك العزبة وحال شاب في مطلع العمر لا يتذوق طعم النوم، منقطع الصلة بأضواء المدن، هناك بعيدا، يجد بصعوبة من يكتب له شكواه، وينتظر ردا، ومعجزة. مشكلة الشاب الذي لا يتذوق طعم النوم أنه لا يحتكم على نقود، لأن النقود تتخذ مجرى آخر، وتصب في أياد تدفع – لا تدري من أين – الملايين لمحتال في مدينة نصر، والأرقام التي وردت عند حديث الصحف عن " ريان أبناء الوزراء " أرقام مذهلة. فقد دفع ابن أحد المسئولين للمحتال إسلام رضا ثلاثة ملايين من الجنيهات ليستثمرها له، ويقول أحمد كمال صاحب شركة نقل إنه أعطى إسلام 12 مليون جنيه لتوظيفها، كما شاركت سيدة محترمة بمائة وعشرين مليون جنيه! أما تامر وجيه وأشقاؤه فأودعوا لدي المحتال مائتي مليون جنيه! حجم الثروة التي تلاعب بها المحتال بلغ خمسة مليارات جنيه أي أكثر بكثير من كل ما رصدته الحكومة لمجالات الخدمات المختلفة. المحتال نفسه إسلام رضا خريج معهد متوسط، تمكن من إقناع أبناء كبار المسئولين ورجال أعمال وأساتذة جامعات بتوظيف أموالهم في صفقات شراء أجهزة المحمول من الخليج مع عائد شهري، ولما كف عن دفع العائد وحضر نفسه للهروب إلي الخارج انهالت البلاغات على الشرطة لتصل إلي خمسمائة وخمسين بلاغا بما يتجاوز ملياري جنيه! وأموال بهذه الأرقام الخرافية لا تخرج من جيوب أصحابها بسهولة أبدا، إلا لأنها جاءت بسهولة، فإذا كانت محكمة الشئون المالية والإدارية تحقق في القضية، فلماذا لا تحقق في مصدر تلك الأموال؟ وإذا كانت جريمة إسلام رضا أنه احتال على كل أولئك المتعلمين ورجال الأعمال وأبناء كبار المسئولين، فلماذا لا تبين لنا المحكمة كيف احتال كل أولئك على غيرهم ووضعوا أياديهم على كل تلك الثروات؟. وإذا كان ذلك المحتال قد تمكن من جمع خمسة مليارات جنيه، أفلا يعني ذلك أن قنوات الاستثمار في مجالات الإنتاج الحقيقية مسدودة؟ وما معنى أن تقع النخبة المصرية من أساتذة جامعات، وأبناء وزراء، ورجال أعمال في قبضة محتال لم يحصل إلا على شهادة متوسطة؟ ألا يوضح لنا هذا ما هي " النخبة " التي تدير شئون مصر؟ النخبة التي تروج لثقافة الربح السريع، غير المكلف، الذي لا يمر بأية دورة إنتاج؟

عندما بدأ إسلام رضا عملية الاحتيال لم يكن يمتلك مليما، أي أنه لم يكن قد أصبح متهما بعد، لكن الآخرين بدءوا بإعطائه أموالا مجهولة المصدر، أي أنهم بدءوا بكونهم متهمين بالفعل، أما عملية الاحتيال التي قام بها إسلام رضا فلم تكن أكثر من شعاع الضوء بالمصادفة فوق أرض المحتالين، فكشفها وكشف المجتمع. ولقد فر إسلام رضا خارج مصر، وأصدر المستشار عبد المجيد محمود النائب العام قرارا بالتحفظ علي أمواله، وإدراج اسمه علي قوائم الممنوعين من السفر والترقب، لكن المشكلة ليست فيمن غادر مصر سرا، المشكلة في أولئك الباقين فيها، في الثروات المهولة التي تتحكم فيها قلة قليلة، تتحكم في غالبية معذبة التي لا تعرف طعم الراحة أو النوم في الكفور والنجوع والأزقة، غالبية ليست من أبناء كبار المسئولين، ولا تعرف الاحتيال، ولا تتقن شيئا سوى العمل المرهق طيلة النهار، والصراع على الرغيف في طوابير الخبز، وحذف كل المتع من حياتها، فإذا سقط أحدهم مريضا في مركز مراغة كان أقصى جهده أن يكتب شكواه ولا يسمعها أحد.

رحم الله الشاعر فؤاد قاعود الذي قال: " المجتمع زي الرصيف الوسخ لازم يتكنس.. فيه ناس بتعرق ع الرغيف.. وناس بتعرق م التنس "!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى