السبت ٢٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم عبد السلام العطاري

"معجمٌ بكِ" للشاعر محمد حلمي الريشة

فلسفةٌ لسَاربٍ آخَـر

أدرك أن اللوحة بمضامينها وأبعادها واستشراف الرؤية، أو كما ترد العين على بئر بعد مسير كاد العطش يرمي بها قبل أن تدرك ما سوف ترد عليه من عذب أجاج.. هكذا إذاً، أو ربما، أو هو شعور المستدرِك لوعي المعجم بالرؤى وبالشهوة اللغوية والإعجام تفيد المتفرّع من الأصل لتردّه إلى نصل الأصل ليغمد النص بالنصل، ويتواءم تركيباً وانسجاماً، ويبعد عن خاطرك أن لا تناص ولا أخذاً بغير المسبَّب نتاجاً للمسبِّب، لذلك كل ما مرّ به الشاعر محمد حلمي الريشة (الرائي) هو إعجام الإعجاب و(قومسته)، كي تكتمل الرواية الشعرية ليعالج جملة مريضة آيلة إلى عادية البسط ويخشع الذاهب إلى ما مضى، حتى يدرك أن غده هو التنفس بخياشيم وردة الليل:

سَتَذْهَبُ
[ ذَاتَ يَوْمٍ مَضَى غَدُهُ ]
إِلَى جُمْلَتِكَ المَرِيْضَةِ؛
تِلْكَ
الآيِلَةِ
إِلَى
عَادِيَّةِ البَسْطِ تَحْتَهُ،
كَخُشُوْعِ شَمْعَةٍ مُشْرَئِبَّةِ الذُّبَالَةِ،
وَالْتَتَنَفَّسُ بِخَيَاشِيْمِ وَرْدَةِ العَتْمِ الضَّئِيْلَةِ،
.....
.....
.....
سَتَرَى كَمْ كُنْتَ شَقِيًّا وَصَالِحًا لِلتَّوَهُّمِ،
مِثْلَ زُجَاجِ حَدَقَةٍ أَعْمَى..
أَيُّهَا الشُّعُوْرُ بِهَا !

هذا شعور (الرائي) القابع في ركنه الخاص ليستدرج الحياة من نبض وردة، ويعيد المعتل الذاهب إلى ما مضى، ولا يدرك غيره أن الغد وحده يصاب بشهوة ارتعاش العشق والتواء غنج المعاني.

إذا كانت اللغة الدارجة طواعية أو رغبة في الأوساط الشعرية الفلسطينية تزدحم بالمعاني الباحثة عن الحرية والمنتشرة كسحابة يعشقها فلاح، فإن (حبس المعنى الحرّ الطليق) وظيفة لشاعر مختلف بكل فروض الاختلاف؛ من حيث الإعجام والإعجاز والرؤى الشعرية، ولعل حرفة الحرف ليست بمهمة سهلة كما يُجمع الراؤون، ولعل رسم الصورة الشعرية ليست مجرد ضرب فرشاة على مساحة متاحة من فضاء الشعر، فبقدر ما هو الإعجاز يكون في إعجام الشاعر محمد حلمي الريشة لمعانيه ومفرداته التي ينفرد بهاً، ويلبسها التورية ثوباً فضياً يسطع في عين المتصفح لجزيئات أنثى قصيدته التي لا تعير انتباهاً للمنتظرين على أرصفة العشق، وتتجه صوبه وهو يجالس مقعده الخشبي ولفافات التبغ والقهوة المتكاثرة التي تفصل كضباب بين اهتزازات فضائحها، وبين انقشاع تلك المعالم عن وجه أصبح ينفرد لها.. هكذا يجذبنا الشوق إلى نصوص الريشة العالية الباذخة في مشتى العشق، وفي دفء الشوق للانتظار على شرفة سوف تمر من تحتها عمّا قليل قصائد عاشقة:

حِيْنَ، فُجْأَةً، بِالبَابِ أَنْتِ
لَمْ يَسْتَطِعْ
سِوَى
أَنْ يُسَلِّمَ إِطَارَهُ لِيَدَيْكِ الجَانِحَتَيْنِ
وَيَمْضِي بِزَوَايَاهُ يَغْبِطُنِي !
*
كَمْ كُنْتِ عَلَى صَوَابِ القَلْبِ
حِيْنَ خَطَّأْتِ سَاعَةَ الشُّرْفَةِ العَاشِرَة
سَبَقْتِ عِنَاقَ عَقَارِبِهَا لِعِنَاقِنَا
بِسَاعَةِ رُوْحِكِ الرَّشِيْقَةِ
مِثْلَ أَيْلٍ يَ تَ وَ اثَ بُ فَوْقَ
طَمْيِ انْتِظَارِيَ
دُوْنَ
أَنْ يَتْرُكَ أَثَرًا !
*
 
لَيْسَ شَهْدًا،
فَقَطْ،
مَا يُضِيءُ شَفَتَيْكِ ؛
إِنَّهُ ذَوَبَانُ كَوْكَبِ الشَّوْق !

وهكذا ينشغل الشاعر الريشة في تأليب وتثوير لحظات الانتظار ليحمي به القلق والخوف، ولتذيب حروفه الجميلة المستدركة بكل ما أوتيتْ من حسّ شاعر عاشق كل المعاني التي يريد أن يمسكهما- القلق والخوف- أول طرف خيط لتصل إلى قلب القارئ، فيجد المختلف فيه الذي لا يبتعد عن إنسانيته وعن أحاسيسه، وأن الشعور والروح يسبقان إدراك الألم.. وهكذا نستشعر الحب قبل أن نلمسه بريقاً، حيث غيمة الشوق تتكون من رحم العشق المتجهة نحو سهول حنطة الوجد والتلاقي بقلب مفعم بالرغبة، والابتعاد عن مواطن القلق، ولعله محمد حلمي الريشة يوظف، كشاعر فلسطيني، مواطن استراحةٍ للفلسطيني الذي يئن تحت وطأة القهر والظلم والحرمان حتى من أبسط مقومات الحياة، والتي لا يقدر الظلم والطغيان على احتلالها.. هو الحب والعشق والتماهي بهما حد الجنون.. الحب هو حب الإنسان لكل شيء؛ الإنسان بذكوريته وأنثويته، تبادلية كانت أو نحو طبيعة تحترق أمامهما، يحاولان، قدر الإمكان، إنقاذها بذوبان كوكب الشوق أو كوكب العشق:

مَا بِكِ أَيَّتُهَا اللُّغَةُ
لاَ تَسْتَطِيْعِيْنَ بَرِّيَّةَ حِبْرِي ؟
لَمْ أَزَلْ أُحَاوِلُكِ إِلَيْهَا
رَاعِيَ أَسْمَاكِ بَحْرٍ !

وهذه اللغة التي يداعبها محمد حلمي الريشة تارة كمدينة تغط بالنعاس وبالغبار، وتارة كطفلة تتثاءب نعاساً تأهباً للنوم، وتارة أخرى كأنثى تنزع ما تبقى من قلبه أو ما تبقى من عشقه المضرج بطعنات جعلت منه أكثر اتقاناً للغة، وأكثر اتقاناً للحرف، وأكثر وعياً لما يريده الشاعر الجميل محمد حلمي الريشة.

لربما جئتُ من جيل يلي جيلَك، ولا يليك إلا محبة، فكنتُ مدركاً عن مقربة لما يريده هذا الشاعر (اللاتيني) في فلسطين، والذي ألبس الشعر في وطن غلبت عليه لغة المباشرة الصارخة، وطُبعتْ في صورةٍ بمخيلة من يقرأ جهة المكان، أن اللغة هنا دائماً تحمل مضامين مناضلة، وهنا كان بمقدور شاعرنا المبدع أن يجعل لنا لغة أخرى تحكي القصيدة العاشقة، وأن الفلسطيني القادر على بناء تراكيب لغوية ثائرة هو ذاته المحب العاشق الباحث عن السلم الضامن لأمنه وحقه ووعده..
لقد كان بمقدور شاعرنا محمد حلمي الريشة أن يكون هو مَن يتفرد بهذا النسق من اللغة الجميلة التي نحتاجها، وما أحوجنا من غيرنا للغة تتقن صورة المحب الحابس للمعنى ليشير في النص أن هناك مضامين فلسفية يحتملها النص، وهذا ما أشار إليه من خلال ما اقتبسه عن شيخنا جلال الدين الرومي ليؤكد للمرة الثانية أن عمق الفلسفة وعبقها هو ما أراده وما يريده ليفهم الآخر:

لَقَدْ حَبَسْتُ المَعْنَى الحُرَّ الطَّلِيْقَ،
وَبِذلِكَ جَعَلْتُ الهَوَاءَ أَسِيْرًا لِلحُرُوف
.....
إِنَّ الدَّمَ لَيَتَفَجَّرُ مِنْ فَمِي مَعَ الكَلِمَات
وأن استدراك القارئ للمعنى المعلن كبياض وجه الشمس ربيعاً في كلمة الختام للشاعر مراد السوادني، الذي أجمل إعجام المعجب به وبها.. هي الأنثى والقصيدة الحياة التي هجست وتهجس كبداية في تجلياتها ومراوغتها ولألأة البياض الكاوي.. كل ذلك كما يرى السوادني أن شاعرنا الريشة يختزل الدمع المنفرط والرجا المتفصّد من جمرة الجسد الناهب/ المنهوب رغوة الروح عالياً:
خَضْرَاءُ أَمْ صَفْرَاءُ أَمْ حَمْرَاءُ ..
مَا هَمَّنِي لَوْنُ الإِشَارَةِ
حِيْنَ عَبَرْتُكِ إِلَى رَصِيْفِكِ الأَبْيَضِ
رُغْمَ ازْدِحَامِ حَذَرِك !
فلسفةٌ لسَاربٍ آخَـر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى