الخميس ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
المغامرة
بقلم رانية عقلة حداد

مغامرتنا في اكتشاف أعماق إنسان العصر الحديث

هناك أفلام شكلت علامات مميزه في تاريخ السينما العالمية؛ للتجديد الذي أحدثته على مستوى اللغة السينمائية، أو بالطريقة التي تقدم فيها الشخصيات، او معالجة الموضوع ...، منها فيلم "المغامرة" للمخرج الايطالي مايكل انجلو انطونيوني الذي رحل عن عالمنا قبل أشهر قليلة.

نشأ أنطونيوني في حضن الواقعية الجديدة الايطالية التي كان روسلليني ودي سيكا من أهم روادها في منتصف الاربعينات، والتي شكلت نقطة انعطاف وثورة سينمائية على مستوى الشكل والمضمون؛ فخرجت الكاميرا الى الشارع بعيدا عن الاستوديوهات لتلامس نبض العامة والحقيقة، استعانت بممثلين غير محترفين، واغلب شخصياتها من الفلاحين، او الصيادين، او العمال ثيماتها السائدة؛ الفاشية، والحرب، والاحتلال الالماني، والفقر، والبطالة. ليأتي جيل الموجة الثانية - وانطونيوني كاحد روادها - حيث ساهم افرادها في النهضة السينمائية في مطلع الستينات، لم يبتكروا صيغة جديدة -كما يقول جى آنبال - التزموا بالواقعية ولكن بروح نقدية أكثر خشونة فسميت ب (الواقعية الجديدة النقدية)؛ فرصدت كاميرا بعضهم الطبقة البرجوازية، وسجلت انتقادها لكن باسلوب مختلف، عارضة سخافة وضحالة تلك الطبقة، حيث الفراغ، والسأم بعض الثيمات السائدة التي تطغى على افرادها، الذين اما هم رجال اعمال، او سيدات المجتمع الراقي، او مدعي الفن والثقافة، فتعرض لحياتهم وما يشغل اهتمامهم من رحلاتهم او حفلاتهم الصاخبة ... كما في فيلم فيلليني "الحياة حلوة" انتاج 1960، وفيلم "المغامرة" لانطونيوني انتاج 1960

(المغامرة) لم يكن الفيلم الاول لانطونيوني، لكنه الفيلم الذي منحه شهرة عالمية، وشكل علامة فارقة سواء في تاريخ السينما، او في مسيرته الفنية، رغم الرفض والسخرية التي استُقبل بهما جماهيريا في عرضه الاول في مهرجان (كان)، الا ان لجنة تحكيم المهرجان قرأت فيه ما يمكن تسميته بالحداثة السينمائية، فمنحته جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وفيما بعد استعاد الفيلم مكانته جماهيريا على مستوى شباك التذاكر، تبعه في ذلك باقي اجزاء هذه الثلاثية (الليلة)1961، و(الكسوف)1962.

يتناول الفيلم مجموعة اصدقاء من اثرياء ايطاليا يذهبون في رحلة بحرية الى جزيرة بركانية في البحر المتوسط، أحدهم آنا(ليا ماساري) الشخصية الرئيسية كما تبدو، اذ يفتتح الفيلم على لحظة خروجها من المنزل استعدادا للذهاب الى الرحلة، ترافقها صديقتها كلوديا (مونيكا فيتي)، ثم تمر آنا بحبيبها ساندرو (جابريل فيرزيتي)، لينضموا جميعا الى باقي الاصدقاء
المترفين على متن اليخت. قبل مغادرتهم الجزيرة يكتشفوا اختفاء آنا، فيبدأ الجميع بالبحث، ثم شيء ما يحدث اثناء البحث عنها؛ ساندرو حبيب آنا يبادر كلوديا صديقة آنا بقبلة، وما تلبث ان تتطور العلاقة بينهما الى حب، في ذات الوقت الذي يواصلان فيه البحث عن آنا بعد مغادرتهما الجزيرة لكن دون جدوى، لتتحول ابصارنا عن اختفاء آنا الى هذه العلاقة التي تنتهي بخيانة ساندرو لها كما خان آنا معها.

توحي الاحداث منذ بداية الفيلم بانها ستذهب باتجاه البحث عن آنا وازالة غموض اختفائها، ربما هذه هي المغامرة، لكن ما ان تتطور العلاقة بين ساندرو وكلوديا حتى يدعنا انطونيوني نتابع سيرها، وننسى آنا ويبقى سر اختفائها مجهولا.

إذن اين تكمن المغامرة إذا لم تكن في اكتشاف الجزيرة وخوض تجارب مثيرة هناك، او في كشف سر اختفاء البطلة ؟
إنها مغامرة انطونيوني ومغامرتنا معه في اكتشاف اعماق النفس البشرية، والمشاعر الداخلية الخفية؛ فشخصيات الفيلم تجتمع لتشكل معا ملامح صورة انسان العالم الحديث، انسان تلك الطبقة البرجوازية المترفة الغني ماديا، ولكنه الخاوي روحيا، وعاطفيا، وثقافيا، الذي تغيب عنه القيم العليا فتتوه بوصلته الاخلاقية.

وهذا الانسان لا يستطيع ان يدخل في علاقات انسانية عميقة ومنها الحب، فتغدو كل علاقاته عابرة وجل اهتمامه ينصب في ملء الفراغ الذي يعيشه، فهو غير مكترث لما يحدث حوله ليست هناك اهداف نبيلة يدافع عنها، فالكل غارق في عالمه وفي ملذاته، وحينها تصبح الخيانة حدثا عاديا وطبيعيا، ويصبح السأم، الوحدة، والفراغ، وصعوبة التواصل هي ثيمات هذا الانسان، وتجد معادلها البصري عند انطونيوني من خلال الايقاع البطيء، وعدم الاحساس بالزمن؛ كم يمرور من الوقت بين مشهد وآخر، بالاضافة الى اللقطات البعيدة جدا التي يظهر فيها الاشخاص غارقين في محيطهم في الطبيعة او بين البنايات، كذلك في الاستعارة المعنوية للجزيرة البركانية الخامدة بما توحي من عزلة وجدب، بالاضافة لقسوة وخشونة الصخور التي شكلت مع الامواج المتلاطمة خلفية الشخصيات معادل بصري آخر يعكس ذواتهم.

كاميرا انطونيوني تروي

من هي تلك الشخصيات ؟ نحن لا نسمع مونولوجها الداخلي حتى نعرف كيف تفكر، اذ انها مضاءة من الخارج فقط من خلال افعالها، والتي حتى هذه تكاد لا تكون مفهومة، ولكن يمكن التنبوء بها احيانا، بخلاف ما يعتقد البعض في قراءتهم للفيلم.

نعم نحن لا نعرف ماذا كان يدور في رأس آنا عندما اختفت، هل كان اختفاؤها طوعيا؟ هل قررت نبذ تلك الحياة المترفة الخاوية، لذا غادرت فجأة؛ لتبحث عن حياة اخرى فيها معنى وهدف؟ ولكن يمكن التنبوء ببعض الاحداث. في عالم الرواية تظهر احيانا شخصية الراوي الذي يتوارى خلف الكلمات لكن صوته يُسمع بوضوح، ويعلن عن وجوده بشكل جلي، انه الراوي العالم بكل شي بما يخص الشخصيات والاحداث، والذي انتقل الى السينما كاحد التقنيات التي اكتسبتها السينما من الفنون الاخرى، لكن مع انطونيوني انتقل الراوي من موقعه المألوف كصوت قادم من خارج الكادر الى الصورة- الكاميرا:

في كثير من الاحيان سبقت الكاميرا الشخصيات الى الاماكن؛ كما سبقت كلوديا وجوليا في الممر قبل ان تدخلانه، بمعنى الكاميرا هي الراوي العالم بخطوات الشخصيات مسبقا ويعلمنا بذلك، والمعرفة المسبقة بالاحداث تُقرأ على ان الشخصيات اسيرة قدرها الذي لا يمكن الفرار منه.

كما ان (الكاميرا - الراوي) انبأت منذ الدقائق الاولى للفيلم قبيل المغادره الى الرحلة بان كلوديا ستحتل مكان آنا في العلاقة مع ساندرو - الامر الذي سندركه لاحقا - وذلك في المشهد الذي تقف فيه كلوديا - وهي تتوسط الكادر - على شرفة الطابق اسفل نافذه غرفة ساندرو حيث كان هو وآنا يمارسان الحب، الكاميرا من زاوية منخفضة ترصد كلوديا وهي تنظر الى الاعلى حيث النافذه ( الهدف)، ثم نشاهدها من الزاوية المقابلة في لقطة متوسطة وخلفيتها تحاكي لقطة سابقة بقليل ل آنا وهي تقف عند النافذه؛ حيث في الخلفية نرى الجسر ذو الاقواس والنهر الجاري من اسفله بصوت مسموع بما يوحي بالميل الجنسي الذي سيأخذ كلوديا مكان آنا في العلاقة مع ساندرو. هذه أحدى السمات التي تميز اسلوب انطونيوني علاوة على التكوين في الصورة وبالذات المشهد الختامي، والذي يتعذر علينا الحديث عنه في هذه العجالة.

إرادة الحياة تعلو على المرض

أنطونيوني الذي توفي في 30 تموز 2007 عن عمر يناهز 95 سنة، كان قد بدأ حياته المهنية كصحفي في جريدة محلية، ثم ناقد سينمائي في الجريدة الفاشية الرسمية للافلام، بعدها درس الاخراج السينمائي في المعهد، وبدأ بعمل افلام قصيرة، الى ان اخرج اول افلامه الروائية (تاريخ حب)1950، بعدها عمل مجموعة افلام مميزة منها الثلاثية السالفة الذكر، و(الصحراء الحمراء)1964، مرورا بالاعمال الناطقة بالانجليزية التي انتجتها هوليوود، وتم تصويرها خارج ايطاليا: (انفجار)1966، (نقطة زبراسكي)1970، (المسافر) 1975، وصولا الى اخر افلامه (ايروس) 2004، والذي هو احد مجموعة الافلام التي انجزها انطونيوني وهو على الكرسي المتحرك... حيث ارادة الحياة تعلو على المرض، وقد تم منحه عام 1995جائزة اوسكار عن مجمل اعماله تكريما له.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى