الجمعة ١٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

مــــن أجـل جامـعة عربية رقميـة

إن الموضوع الذي أود طرحه يتعلق بجامعة المستقبل التي ستصبح جامعة رقمية قوامها التواصل والتفاعل الإعلامي والمساهمة في إثراء الثقافة الإنسانية ضمن نظام العولمة وحوار الثقافات والحضارات. وهذه الجامعة ستكون بديلا للجامعة الورقية التي أصبحت مؤسسة تقليدية أوشكت على الإفلاس والتقادم والتجاوز. إذاً، ماهي المراحل الفكرية التي مر بها الإنسان؟ وما هي مميزات الثورة المعلوماتية؟ وماهي خصائص الجامعة الرقمية؟ تلكم هي الأسئلة التي أعرضها للتحليل والمناقشة من أجل إيجاد أرضية صالحة للحوار البناء حول مستقبل الجامعة العربية ذات الطابع المؤسساتي البيداغوجي و الأكاديمي .

أ‌-مراحـــل تطــــور الفكـــر البشـــري:

من المعلوم أن الإنسان مر في تطوره الفكري بأربع مراحل أساسية وهي:

1-المرحلة الأسطورية حينما كان الإنسان يفسر الأشياء ومظاهر الطبيعة تفسيرا خرافيا وميتولوجيا؛

2-المرحلة اللاهوتية تتعلق بهيمنة الدين والتفكير اللاهوتي على الإنسان وخاصة في العصور الوسطى؛

3-المرحلة الوضعية أو العلمية - كما يسميها أوگست كونت -التي تنقسم بدورها إلى المرحلة العلمية اليقينية كما عند نيوتن وديكارت وسبينوزا وليبنز ورواد العقلانية الكلاسيكية، والمرحلة العلمية الاحتمالية واللايقين كما عند إنشتين وماكس بلانك وهيزنبرگ ، وتسمى هذه المرحلة العلمية أيضا بالعقلانية المعاصرة التي ظهرت في منتصف القرن التاسع عشر؛

4-مرحلة ثورة المعلومات التي رافقت اختراع الحاسوب أوالكومبيوتر الذي أحدث ثورة كوبيرنكية على مستوى تنظيم المعلومات وتحصيلها وتخزينها رقميا، وقد حققت هذه الثورة قطيعة إبستمولوجية مع الثقافة الورقية ووسائلها التقليدية منذ منتصف الخمسينيات.

ب‌-عصر الثـــورة المعلوماتية:

يعد العصر الذي نعيش فيه عصر ثورة المعلومات أو الثورة الرقمية التي استوجبها اختراع الحاسوب الذي ارتقى بالإنسان من الثقافة الورقية نحو الثقافة الرقمية ذات الطابع الإعلامي العولمي مع تفعيل المعلومات عبر شبكات الإنترنت وقنواتها التفاعلية التي استطاعت أن تحقق تواصلا بين جميع الأطراف البينية بسرعة فائقة. وقد تمكن المتصفح الرقمي والإنسان الباحث في المواقع الخاصة والشخصية والعامة أن ينفتح على عالم يثير الاندهاش والاستغراب بما يمتاز به من تراكم معلوماتي هائل كما وكيفا. واستطاع أيضا أن يتفاعل مع الآخر المماثل والأجنبي لسانيا وسيميائيا وتقنيا. وصارت الثقافة باعتبارها قاسما مشتركا بين جميع الشعوب والأجناس مبنية على الانفتاح والمثاقفة والتواصل والمساهمة في إثراء العولمة وإغناء الشراكة الإنسانية والاقتصادية والعلمية وإشباع حاجيات الإنسان ورغباته الواعية واللاواعية.

وعليه، فلم تعد الثقافة الرقمية ثقافة رسمية أو شبه رسمية يتحكم فيها الأقوياء وذوو النفوذ، بل أصبحت ثقافة تواصلية شعبية يستفيد منها الجميع وغير مقتصرة على فئة دون أخرى. ويعني هذا أن الثقافة الرقمية تتسم بالحرية والعمومية والعدالة و مساواة الأفراد المحظوظين مع الجماهير الشعبية في الاستفادة من كل المعلومات الرقمية المخزنة والمتفاعلة والمتجددة بشرط أن يتوفر الإنسان على الحاسوب أو شبكة الإنترنت. وغير مقبول إطلاقا في عصرنا هذا أن نجد الإنسان العربي مازال يعاني من الأمية الإعلامية والأمية البيداغوجية والأمية الوظيفية. وعلينا أن نتجاوز في بلداننا المتخلفة والبلدان العربية هذه الأميات و مركب الجهل و عقدة النقص الحضارية ونقلص من الفجوة الرقمية والإعلامية لنلتحق بالدول المتقدمة والنامية التي سارت أشواطا هائلة في مجال الإعلام الرقمي والتقدم الاقتصادي و تكنولوجيا الاتصالات.

هذا، ويمتاز عصرنا هذا بتعقد العلوم وتعدد المعلومات وتداخل المعارف وظهور المعارف البينية والجمع بين الأضداد على المستوى الرقمي كالجمع بين ما هو مادي وماهو روحي وما هو عقلي مع ما هو وجداني... كما نجح الحاسوب والمواقع الرقمية المتنوعة والمتعددة والمختلفة من حيث اللغات والثقافات والمقصديات من جمع المعلومات وتحصيلها وتنظيمها وتصنيفها وتخزينها وتقديمها للمتصفحين الرقميين علاوة على خلق حوار تفاعلي بين الكتاب الرقمين والمتصفحين للشبكات الإلكترونية.

و لم يعد الفكر التخصصي صالحا في هذا العصر المتشابك على المستوى المعلوماتي والمنهجي والمعرفي، بل يفترض من المبدع والمثقف والقارئ المتصفح أن يكون على اطلاع كبير على كل التخصصات والثقافات والمعارف. ويعني هذا أن يكون العالم مطلعا على الآداب والفنون والتكنولوجيا، والأديب عليه أن يطلع على كل المستجدات التقنية والفنية والعلمية، ونفس الشيء يقال عن الفنان والتقني. و يوضح هذا مدى تداخل المعارف والتخصصات التي لا يمكن التغافل عنها لمواكبة كل ما يوجد في الساحة العالمية وما تلفظه المطابع والمواقع الرقمية.

و في المستقبل ستنحصر الثقافة الورقية، وستحل محلها الثقافة الرقمية، وسينتشر الكتاب الرقمي وسيعوض الكتاب المطبعي أو الورقي الذي تنتج عنه آثار بيئية وإيكولوجية خطيرة كاجتثاث الأشجار وقطعها من أجل صناعة الكتاب. ولكن لا يعني هذا أن الكتاب الورقي سيندثر إطلاقا ، فالكتاب سيبقى دائما حاضرا لقدسيته وطبيعته المتميزة عند كل قارئ معين.

ت‌-الجامعـــــة الرقميــــة:

أصبحت الثقافة الرقمية ثقافة مستقبلية وأداة لتطوير منظومتنا التعليمية والتربوية والجامعية. وأضحت الحاجة ملحة ليكون الأستاذ والطالب على علم بتكنولوجيا الإعلام وتقنيات الحاسوب ومستلزمات الشبكة الإلكترونية وما تفرضه من دراية ومعرفة وانفتاح على كل المعارف والمناهج.

وإذا كان الطالب في الجامعة الورقية العربية لا يعتمد إلا على الأستاذ الذي يلقنه المعارف ، و على المراجع والمصادر المحدودة في رفوف المكتبات الشخصية و الخاصة والعامة ، أو التي يأخذها من المؤلفات الجامعية والمطبوعات الأكاديمية والتي تمتاز بأحادية الفكر ومحدودية المعلومات، فإن الجامعة الرقمية التي تقدمها شبكة الإنترنت غنية ودسمة بالمعلومات والمعارف والتي يسهل التوصل إليها بسرعة فائقة وبلغات متعددة وعلى ضوء رؤى وتصورات مختلفة.

وإذا كان الطالب العربي يجد أيضا صعوبات مادية ومالية في الوصول إلى مصادر المعرفة للحصول عليها واستيعابها والتفاعل معها، فإن الإنترنت من خلال المواقع الرسمية والشخصية والخاصة يسعف الطالب والأستاذ على حد سواء أن يحصلا بسرعة فائقة على المعلومات في مظانها وأن يستخرجاها ليبوباها كما يشاءان تنظيما وتصنيفا. وبالتالي، يستطيعان أن يتفاعلا مع العلماء والمثقفين والمبدعين عن طريق التراسل الهاتفي الداخلي أو عبر البريد الإلكتروني أو عبر التفاعل النقدي المباشر الذي يوضع أسفل المقال. كما يتم التواصل بين العناصر المتفاعلة داخل النظام التواصلي الرقمي بطريقة لفظية وسمعية وبصرية وفي كل الأوقات الممكنة التي لا يتيحها التعليم الجامعي الذي يفصل بفواصل الاستراحة اليومية والأسبوعية و العطل البينية والسنوية خاصة بعد الانتهاء من المجزوءات البيداغوجية والتي تساهم في عرقلة التواصل أوإلغائه بين الطالب وأستاذه.

ويمكن الآن للأستاذ الجامعي أن يكتب مقالاته ومحاضراته في الحاسوب ويرسلها إلى مجموعة من المواقع الرقمية ليطلع عليها كل المتصفحين من بينهم طلبته في الجامعة. ويمكن أن يتجاوز الأستاذ فكرة المطبوع الذي يكلف الطلبة إمكانيات مالية كثيرة، وكثرة المصادر والمراجع التي تستنفذ من الطالب الباحث كثيرا من الجهد والوقت، وذلك بالاحتكام إلى الوسائط الرقمية والإعلامية. ويمكن الآن التخفيف على الطالب الجامعي من خلال نشر الدروس والندوات والمحاضرات والحلقات العلمية رقميا ليطلع عليها الجميع لتكون المعرفة شعبية وجماهيرية مقدمة للجميع كما يتم ذلك في كثير من المواقع العربية كالمجلة الدولية للغويين والمترجمين العرب والمثقف ودروب وموقع الورشة الثقافي وموقع المغرب- بوابة المغرب، والتجديد العربي، وكتابات، والحوار المتمدن، وديوان العرب، والصحيفة، والمناهل، وواحة الشعر، والندوة العربية، وأقلام الثقافية، وموقع اتحاد كتاب الإنترنت العرب، والفوانيس الأدبية، ومنتدى مسرحيون، ومواقع أخرى عديدة يصعب حصرها وتعدادها. وهنا يمكن القول: إن شبكات الإنترنت جامعات شعبية بامتياز تقدم معلوماتها ومعارفها ونصوصها بكل مجانية وحرية وطواعية وتسهل التواصل الجماهيري والتفاعل البناء و الحوار النقدي المفيد.

خاتمة تركيبية:

من أجل تطوير المنظومة الجامعية وتفعيلها بيداغوجيا وديداكتيكيا وتنظيمها لابد من خلق ثقافة رقمية بين أوساط الأساتذة والطلبة، والانتقال بشكل متدرج وبإيقاع مدروس من الثقافة الورقية إلى ثقافة رقمية، وذلك من خلال توسيع شبكة الإنترنت داخل الجامعات والاعتماد على الوسائل الرقمية الجديدة في تقديم المعلومات وتنظيمها وتصنيفها وتخزينها. وهنا أهيب بالمسؤولين والإعلاميين والمثقفين للتفكير في تأسيس شبكة رقمية عربية على غرار الشبكة الرقمية الأمريكية للحفاظ على هويتنا وأصالتنا مع المساهمة في إغناء الفكر العالمي الذي يخدم مصلحة الإنسان والبشرية. ومن أجل خلق تواصل تفاعلي حميمي ومعرفي وحركي لابد من إشراك كل الفاعلين التربويين و الإداريين الجامعيين داخل المنظومة الإعلامية الإلكترونية و النسق الرقمي قصد تحقيق قفزة نوعية للحاق بمصاف الدول النامية والمتقدمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى