الاثنين ٢٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم خالدة خليل

مفترق طـرق

أتأبط الصبر مؤونة لسنوات جوع- أمان قادمة.
عجينة لا تختمر أبدا أعدها من دقيق الحلم والدمع، يا لهذه الذاكرة المثقلة بأكداس المخاوف، والمخاوف نحرت فوق محرابها أجنحة نهار لتبذر فوق زجاجها وهم ليل، وهذا الغريب، غير المرئي، لص إلى منازلنا الآمنة يتسلل وإلى ذواتنا الراكعة، تخترق المخاوف بشظاياها خيام هذا النص، وتتركني في عراء الهلوسة وحيدة أحلم بأن يغمض جفن الأمان.

يا غريبا أشم في خطواته انتحار أحلامي؛ تدهس أزهار الفضة النابتة فوق جسد برئ وتنثر فوق الأرصفة قشور جرحه المتيبس، هذا يوم احتجاج علامات السكون أيضا، احتجاج بحكم الغريزة يعلو فيما أدون أنا شكواي على نخلة منعزلة عند ضفاف الحزن، حيث الصمت ينتفض احتجاجا على حماقات العصر.
تتخبط الروح المسكونة بالخوف، والمصابة برعشة مجرتنا ووراثة الكهنوت في فراغ المسافات. وعند صفحات وقت مبتلى بعهر ومرض وجنون، التقط الفرشاة وأسكب الألوان. أمعن النظر فأرى على لوحة رمزية الملامح تتلامس الألوان وتتراقص فوق جسور عشوائية أرفعها فوق انهاري المتيبسة، وأراك أنت واقفا، كما كنت تقف دائما، على ضفة حلم آخر، تفهم حزني واقرأ ابتسامة تسطرها مثل وشم لمستقبل المجرة، أعشق الحلم حين يكون حلماً، وأعشق النور حين يشطف أقبية ذواتنا، أعشق الليل حين أحرر خلال ساعاته الساكنة حرفا محاصرا في قصر الملك.

مرت سنوات ست على رحيلي فوق منطاد غربة نفخته أقدار غريبة بأمل أغرب، فيما يرج الحنين كأسه المعلق والمطمئن إلى شفق الغروب وكلما اخترق مذنب الحاسة السادسة زمنه المتراكم تحول إلى طاقة تتفجر حمم إرادة يسمونها حرة! تذيب أواصر الجماد لتحيله إلى سائل اشتياق يجري في أخاديد رسمها القدر على جبين امرأة قد تكون أنا أو قد أكون أنا هي.

للحظة أنفث دخان سيجارتي المعبأ بنيكوتين النسيان، لكني سرعان ما أستنشقه كله دفعة واحدة. هي اللاإرادة في الشهيق، هي اللاإرادة في الزفير. كم حلمت وأحلم أن يكون أحدهما دون الآخر، هكذا لأشهقك ولا أزفرك أبدا، أو لأزفرك من قبل أن أشهقك ثانية، هذيان محض يلف هذا الصراع الأزلي بين نفسي وبيني، بيني وبينك، بينك بين نفسك، بيننا والعالم، بين العالم والله.

أيها المشدود إلى رمح أزلي، تبحث عني بين طبقات ساكنة في ليل هائج، ربما طمعاً في كأس تروي به تصدعات جدرانك الطينية، منذ آدم وحواء وأنت ترمي بالكأس فوق تقلبات وقت مترب أو تربة وقت تحرثها ثيران غدر تلونها فرشاة طقس خصصه مخطط غريب للبذار والحصاد، وأنا أبحث عنك في وضح النهار دون أن استند إلى مرآة شفرة دافنشي، دون أن انظر إلى تكويرات الحضارة المتدفقة- كما تظن- من صنابير حكمتك المغالية في الاحتفاظ بعذرية الكأس، رغم شروخ الفشل والعجز وتصدعاتهما الشبيهة بقوانين كنيسة غير قابلة لتعديل أو إلغاء.
ربما أسكنك وتسكنني وربما تلعب معي لعبة القط والفأر، أنا اختبئ في مغارة احتشام وعتمة تقاليد فيما تخدش أنت آذان المتلصصين وعيونهم الشاخصة في سفاهة اختلافات ساماري وضعف نسلنا البشري.

أسحبك نحو عتمة نفق مظلم علك تدرك معنى ضياعي في ملكوتك الذي أعايش رهان الهرب فيه، دون وصاية من قلب معتاد على التأرجح، وقد يفضل قيود أسر آمن أحيانا، ولحظة اضطجاع بين أحضان لا أمان فيها ومنها وبها.

كم وددت لو أنني انتبهت وقتها وأغلقت باب النفق بصخرة إرادتي، إذن لكنا الآن معا وحدنا في حلبة صراع، قد تفترسني فيها قد تقبلني قد تبكيني، لكنك ستؤثر بعدها السقوط فوق خرائط أحلامي، ولما فكر أحدنا بأن يرشق ذاكرة الآخر بنداءات مكرورة حول دروس الحقوق والواجبات. أولم تكن من قبل رهينة ملك معظم أو فرعون مد بساط جبروته على أرض بلقع ليزهق أحلام الآلاف في بناء قبر! يسمونه هرما.
أولم ترضعك الميثولوجيا من ثدي السياسة صمت عيون وجرب أفواه، وإلا فلماذا أنت كما أنت تحك ظهر السلالات الجمهورية والملكية الدفينة في جسد تاريخك المريض وقوانينك المصابة بالفالج.

أنت لست أنت، لأنك تسكنني، وأنت لست أنت لأنك أضعت مفاتيح ذكورة وجودك بين جذعي شجرة، نعم تلك الشجرة التي تفطرت حين تنشقت رائحة تراب مبتل بقطرات مطر صيفي، ثم أضعت سنوات أحرجها غياب الضوء عن ورقها المائل لاصفرار الفقر، المتشبث بخيط حياة أخضر.

أيها الكائن الأسطوري، يا من ترحل في حضارات نساء ما زلن يعلقن حزمة شقائق على أبواب نيسان، نيسان مختلف هذه المرة يا صديقي، إنه يأخذ موت كاهن أضاع برمشة عين وإيماءة قدر أعمى جمال نسرين، إنه نيسان غريب اقتطفت عشرات مثل نسرين فيه صبار سيناوية، حين تمزقت بكارة أحلامهن بأصابع خيانة كهنوتية.. الحمل نعم الحمل ذاك البرج السماوي أعلن أن الدوائر تدور، أراد أن ينتصر للتحول على حساب الثبات، يرقص في سماء مجرة حمراء، معلناً عن ولادة وموت، ولكن دون ولادة حقيقية بعد أن تساقطت التماثيل كلها من فردوسها الأرضي المشبع برائحة دم وبارود، ومن شوارعها محقونة بحبر كفاحي.

عبثا كنت أبكي كلما ثكلت الأغصان أوراقها في خريف كان قادما وصار حاضرا، عبثا كنت أحاول كبح ليل هائج بين الضلوع، يا لذلك الشبق وهو يندلق على جدران متعطشة لحرية ألجمت بكوابيس عصية.
ها أنا ذي خلف قضبان الغربة أسيرة، وها أنت قابع خلف انتظارات ووعود قد تأتي، وإن أتت فهل ستكون محملة بالورد أو بالدموع؟

واحريتاه
افطمي أنوثتي من صمتها
امتطي صهوة نهار وضوء
وأمطريني في الغروب
باقة أحلام لا تذبل،
خطيني شهادة ميلاد
فوق جبين قدر جديد
أو احفريني وشما لقصائد امرأة
أضاعها عشق
وركّع عند ركبتيها الشمس
التمس يا قمر العذر
من بين ساقيّ
كاهنة أرضعتك الضوء

فيما أضاعت تعبدها في انتظار رداء اودسيوس المبحر في عيون بوسيدون غاضبة خمسة عشرعاما.

نيساني أنت، رحلة نسرين الأخيرة ورحلة بؤبئها القزحي.
كلانا جالس إلى مأدبة غربة واغتراب، كلانا مغيب فوق سحابة وقت قد تمطر فوق بحر يقلب شجوني، أو فوق أمواج إصرار، فيما تغويني دعواتك كطُعم نحو محراب عشق سينحر فوقه ما تبقى من حنيني إليك وحلمي بأن ترحل بنا عن السواد إلى البياض وسادة واحدة.
اصرخ ثم اصرخ مثل كازانتاكس أنا لا أطمع في شيء، لا أريد شيئا، أنا لا أخاف من شيء، أنا حر، حررررر.....
حر من الذكرى، من العشق، من الألم المتصلب في شراييني، من الدمع المتخثر فوق وسادة أحلامي.

ربما ستتناول قرصا من فياغرا الدهشة حين تختزل في ذاكرتك عصورا من الفراغ، حين يسكن وجودنا زنازين قدر محكم.
وحدها الدموع قادرة على الفرار دون عودة. فأفق وانظر إلي كما أنا هنا: أقف على مفترق طرق النص، حيث يمكن لخطواتي البطيئة أن تتدافع يمينا أو شمالا، لكنها لا تفكر أبدا بالعودة إلى الخلف. الخلف موت والأمام انتظار ملك ضليل أو رشفة من كأس ملوثة بسم ضياع. سنبقى في احتمال التأرجح يمينا وشمالا لأننا لن نضيع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى