الاثنين ١٩ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم جميل حمداوي

مقومات القصة القصيرة جدا في" أبراج"

لحسن برطال

يعتبر حسن برطال رائد القصة القصيرة جدا في المغرب نظرا لما حققه من تراكم في إثراء هذا الجنس الأدبي الجديد كتابة وإبداعا. ويشاركه في هذا التميز كل من عبد الله المتقي وسعيد منتسب ومصطفى لغتيري وعز الدين الماعزي وفاطمة بوزيان... ويأتي كتاب حسن برطال "أبراج" في وقته المناسب ليدشن هذه التجربة الجديدة ويعطيها المشروعية والنفس الجديد إن شكلا وإن مضمونا.

ويلاحظ أن أي تنظير للقصة القصيرة جدا في المغرب لابد أن يراعي ما كتبه حسن برطال من تلك القصص من أجل تشييد بناء نظري ونسق علمي وتحليل موضوعي يستجيب لكل معايير النقد الأدبي وصفا وتفسيرا. إذا، ماهي مقومات القصة القصيرة جدا في كتاب" أبراج" لحسن برطال ؟

أ‌- المستوى المناصي:

ظهر الجزء الأول من كتاب "أبراج" سنة 2006م عن منشورات وزارة الثقافة المغربية في ثلاث ومائة صفحة من الحجم المتوسط بمقاس( 14سم في 20سم). ويرتب حسن برطال قصصه القصيرة جدا ترتيبا فلكيا ويفهرسها دلاليا ، ويستقرىء دلالات القصص على ضوء الأبراج ومواصفاتها النفسية وطبائعها الأخلاقية على هذا الترتيب: برج الحمل ، وبرج الثور، و برج الجوزاء، و برج السرطان، و برج الأسد، و برج العذراء، و برج الميزان، و برج العقرب، و برج القوس، و برج الجدي، و برج الدلو، وبرج الحوت. ويعقب هذا الترتيب الفلكي ترتيب دلالي تيماتيكي يحدد الموضوعات التي تنظم تلك القصص القصيرة جدا والتي اختارها الكاتب حسن برطال حسب كل برج فلكي على حدة.

وتندرج النصوص التي أثبتها حسن برطال في كتابه الأول وسفره الجديد ضمن القصة القصيرة جدا، ويحضر الحجم هنا ليعين طبيعة المنتج وهويته وجنسه الأدبي ويميزه عن باقي الأجناس والأنواع الأدبية الأخرى وخاصة القصة القصيرة والرواية القصيرة جدا والرواية.

ويؤشر التعيين الجنسي الذي يتربع على الغلاف الخارجي على كون الكتاب يضم السرد الحكائي في شكل أقاصيص قصيرة من حيث الحجم. وهذا الجنس الأدبي جديد في الساحة العربية تفوّق فيه المغاربة والسوريون والعراقيون كثيرا، دون أن ننسى تجارب بعض التونسيين والفلسطيين والمصريين.

ويتميز الإهداء بالترميز والإيحاء والانزياح الدلالي الذي يحيل على وضعية الإنسان الضعيف في مجتمع القوة والعنف، إذ يأكل القوي المتجبر الإنسان الضعيف، ويتحول الإنسان في هذا العالم إلى ذئب لأخيه الإنسان. ومن هنا، يرثي الكاتب الإنسان الذي أصبح متوحشا يتلذذ بلحم أخيه المقهور. يقول الإهداء الذي علقه حسن برطال في وسط الصفحة الموالية للصفحة الداخلية الأولى:

" إلى الجسد الذي يقول
لي دائما، لقد أكلني
السبع..........فأجيبه،
هنيئا لك، لقد أصبحت
من المحرمات فلن تؤكل
ثانيا...".

ويحمل الكاتب حسن برطال في هذه المجموعة القصصية الأولى رؤية إنسانية إلى العالم قوامها الثورة على الكائن السائد واستشراف المستقبل الفاضل الذي تتحقق فيه إنسانية الإنسان ويسمو فيه الخير وينحط فيه الشر ويعلو فيه النبل والشهامة وتسفل فيه الأنانية والقيم المبتذلة كالطمع والجشع والحسد وكراهية الآخر.

ب‌- المقومـــات الدلاليــــــة:

يصور حسن برطال في برج الحمل الذي يحمل عنوان: (الاستسلام وقبول الهزيمة ) مصير الإنسان الضائع الذي يقتات بفتات السراب والحلم الخادع ينتظر الذي يأتي ولا يأتي. يكابد المرارة والألم من شدة تجبر الأسياد وتسلطن الأقوياء. ويصبح الهروب والاستسلام والهزيمة خطابا لإثبات الذات والحفاظ على الوجود والبقاء الإنساني في ظل هذا العالم المحنط بالماديات والفراغ والخواء العاطفي وفقدان الحس الإنساني:"طلب منهم الالتحاق بمائدة الأكل...تحركوا...تحلقوا...طلبوا الأكل...قيل لهم:

  لقد دعيتم لمائدة الأكل وليس للأكل"( ص:8).

ويتعمق الكاتب في تصوير الخسارة وهزيمة الإنسان أمام طمعه وجشعه الكبير في تحقيق الأرباح عبر مشاريعه الطموحة على حساب القيم وإنسانية الإنسان: " بين" رحلة شتائه وصيفه" كانت له تجارة وأعمال... لكنه اليوم ليس له سوى السراب بين" ربيع عمره وخريفه""(ص: 10).

وينتقل الكاتب في برج الثور ليصور سذاجة الإنسان وغباوته " حاولت تعليمه طريقة الإنتاج وكيفية الاستهلاك.... فاستهلكت الوقت ولم تنتج شيئا"(ص:15)، كما تجسد قصص هذا البرج ضآلة الإنسان وموقعه الهامشي في التاريخ الذي يسير بسرعة فائقة ولا ينتظر أحدا ولا يرحم كل من تخلف عن ركبه:" رفض المشي في الوراء....ولما جرى في اتجاه المقدمة، وجد نفسه قبل التاريخ"( ص:16).

وتبلغ هذه السذاجة مبلغ السخرية والضحك المميت عندما يستغل الأقوياء غباوة الضعفاء ويمتصون عرق جبينهم ليرموهم شيبا ليأكلهم اليأس والسراب والخداع الإنساني البغيض:" التقيته صدفة...سألته عن أحواله، أجاب:

إني ألعب كرة القدم...تتكرر اللقاءات، يتكرر نفس السؤال
يجيب... إني ألعب كرة القدم..
لكن هذه المرة، وبعد ثلاثين سنة التقيت بصديقي اللاعب
فسألته عن أحواله، أجاب:
- إنهم يلعبون بي كرة القدم../"(ص: 16)

ويفلسف الكاتب في برج الجوزاء ثنائية الخير والشر وثنائية الحياة والموت ليدين انحطاط الإنسان قيمة وأخلاقا بسبب انتشار مجموعة من القيم التي تحط بكرامة الإنسان كالحسد والغل والصراع حول أتفه الأسباب والظلم والانتقام والتشفي من الآخر والفقر والاغتصاب وانتشار الغش والسرقة والذل والعنصرية وتنامي ظاهرة الإرهاب واستغلال المرأة واستعبادها . يثور الكاتب في هذا البرج على ما آل إليه الواقع الإنساني الذي أصبح زيفا وهراء بسبب الخداع والنفاق:" دعته الوكالة البنكية لتصفية حسابها معه.../

حمل ساطورا وصفى حسابه مع المدير....../"( ص: 28).

وتدفع وقاحة الإنسان إلى أن يغتصب الأب ابنته وهذه قمة السفالة وتردي البشرية:" كان الحمل بطريقة غير شرعية... فتعذر عليها أن تتخذه غبنا... فاتهمت أباها واتخذته أخا"(ص:25).

ويجسد الكاتب في برج السرطان عالم البشر الذي يتسم بالهشاشة والتسوس وانبطاح الإنسان وضياعه في عالم لا يعرف سوى التنكيل وتصفية البشر وإذلال الإنسان وقهره وتضييعه في الشوارع ليتسكع في الدروب و"يتبطل" في الأزقة:" تم تكليف الفوج الأول من خريجي المدرسة العليا لتعليم الخياطة والفصالة" بتفصيل الدروب...وخياطة الأزقة...." (ص:35).
ويبالغ الكاتب في التقاط مأساوية التعذيب الإنساني وتأكيد موت العدالة ورجحان كفة الجور وبطش الأسياد:

" اقتلعوا ضرسه وعلموه كيف يأكل بعينيه...
اقتلعوا لسانه وعلموه كيف يكلم الناس رمزا...
لكنهم أبقوا على شفتيه...ليقبل يد الرئيس".(ص:32).

ومن الطبيعي أن يكون برج الأسد هو برج التسلط والجبر والقهر وتذويب الضعفاء في مهاوي الذل والعبودية وتركيع الفقير وتسييد الغني واستغلال الأجير واحتقار المرأة والدس على كرامتها. كما تثور قصص برج الأسد على فقدان حرية التعبير وإسكات الشعراء وإلجام الأدباء بلجام القمع والتعذيب والنفي أو بسوط الانتحار والموت البطيء كما هو الحال في دول الاستبداد والتسلطن المفوض إلهيا أو وراثيا أو أوليغارشيا :" عاد الشاعر من المهجر... فأجبرته شرطة الحدود على جمركة حمولاته من الكلمات..." (ص: ص:39).

ويسخر الكاتب من قيم السمسرة والوساطة والاستغلال وشراء المناصب وسلطة النفوذ:" اشترى حقيبة وزارية...جمع أغراض السفر....حط الرحال بمنتزه صيفي...ليقضي بقية عمره في الاستجمام...".(ص: 42).
ويتهكم الكاتب من برج العذراء الذي لا يحمل إلا الخزي والمكر والخداع والتحايل البشري، وتتحول الشخوص الآدمية في هذا العالم إلى كائنات متلونة وممتسخة ، وينطبق هذا الامتساخ المشوه كذلك على الذين يشترون الأصوات ويتلاعبون بإرادة الشعب، وعلى الذين يزورون العواطف ويزيفون المشاعر:" قال لها: أنت أعز علي من عيني....قالت له: أنت أعز إلي من عيني....

قال إني أملك شقة الأحلام بإحدى العمارات الكائنة بعين الشق...
قالت: وأنا أسكن بعين السبع...أتابع دراساتي بثانوية عين حرودة...
أمنيتي أن أكون طبيبة عيون... يعود نسبي إلى عين قادوس...
نظر في عينيها...نظرت في عينيه...ثم ناما....
تكررت الغفوات بين عين السبع ، عين الشق...,حين استفاقت
وجدت نفسها تجفف عيون السكارى بمراقص عين الذئاب
أما هو... فقد فاز بشقة الأحلام بالمركب السجني:
عين علي مومن..."(ص:52).

وتصبح العبثية الساخرة في برج الميزان ميسما لقصص البرج التي تعبر عن انحطاط الإنسان وغياب الحقيقة وفقدان معنى الحياة وانبطاح الإنسان في عالم لايعرف سوى الأرقام والعد الآلي حيث يدفن فيه الإنسان حيا:"بعد صلاة الجنازة...وضع الميت تحت التراب...الجسد...الحنوط... الكل في القبر... وقبل الانصراف بقليل سمع صراخ ينبعث من القبر، قال الفقيه: استمعوا...هاهو" المسخوط" يعذب الآن...فتحرك الجميع تاركين الحي في قبره..." (ص:56).
وتتضعضع مكانة المبدع والأديب لينخره الفقر والجوع وتضيع معه الحقيقة:" لست في حاجة لمن ينقد كلماتك...أو يوجه لك نقدا...لكن ديوانك يحتاج إلى مشتر يرسل لك ثمنه نقدا..."( ص:61)، كما تختفي الحقيقة حينما يضيع الصغير ويحمى الكبير، وهذا قانون شرعه الأقوياء في دولة الحق والقانون والإرث الطويل:"أقروا بمشروعية الامتحان حينما تحققوا من عدم تسرب أية معلومة عن الذي سرب الأسئلة"(ص:58).

ويندد الكاتب بالغدر والخيانة والخديعة في برج العقرب الذي لايستحيي ولا يخجل من نفسه ولا يخاف على عرضه:" وردة تخون العطر مع رجل...رجل يخون المرأة مع وردة...والمرأة تخون بلدا بقليل من العطر ووردة"( ص:65).
وقد تودي الخديعة بالإنسان إلى الانتقام والتشفي من الأخر:" قتل زوجته وانتقل من القفص الذهبي إلى القفص الحديدي"( ص:65)، كما يضيع الفن الأصيل مع المتطفلين ومدعي الإبداع والأدب:" طلبت القصيدة الطلاق من شاعرها وتزوجت من مغني فاشل..أخرجها من عز الديوان إلى خلل الميزان"( ص:67).

ويحيل القوس على الرماية والجريمة النكراء، ومنذ أن قتل هابيل قابيل والإنسان يقتل أخاه الإنسان إما موتا وإما انتحارا وإما هما وغما:" كشف التشريح الطبي عن طعنة في القلب بواسطة قلم الرصاص...فأدين صاحب المكتبة..."( ص: 73).

هذا، و تصور قصص هذا البرج بشاعة الجور والانتقام، وأن مصير كل داعية للحق هو الموت بلا شك ولا ريبة:" تزوج بالوزارة الأولى... ثم ماطاب له من الوزارات مثنى... وثلاث...ورباع...ولما خاف أن يعدل فرصاصة واحدة أراحته واستراح"(ص:74)، وكل من يرفع صوته للدفاع عن الحق ويقول: اللهم إن هذا منكر يطرد ويلعن شتما وسبا وتعذيبا:
" رفع من قيمة المنتوج، شجعوه....
رفع من سمعة المصنع، شجعوه....
وحينما رفع صوته ويده طردوه..." (ص:76).

ويركز الكاتب في برج الجدي على تدني الإنسان وتحوله إلى كائن حيواني ووحش يفترس أخاه الإنسان استغلالا واستلابا، وفي نفس الوقت يصور جشعه وطمعه وفقره وجوعه إلى لحم الآخرين:" تزوج برائحة الشحمة في الساطور...فسكن الگرنة ولازمته الكلاب" (ص:81). ويتعجب الكاتب من كثرة أخطائنا التي سودت بها الصحف ولطخت بها الجرائد:" منذ أن وقع آدم على خطيئة باسم" أبو البشر"... ونحن نذيل تفاهاتنا على صفحات الجرائد
بأبي فلان...وأم فلانة...(ص:81).
ويتوغل الكاتب عبر برج الدلو إلى عالم الميتافيزيقا لاستكناه أسرار البشر وأعماقهم الدفينة الشعورية واللاشعورية لفهم مركب الشخصية البشرية وعقدها قصد تفسيرها على ضوء السياق المرجعي وخاصة المستويين: السياسي والاقتصادي:" توقف أمام الواجهة الزجاجية..."الفيترينا" تفحص الأحذية المعروضة للبيع...

وقع اختياره على نوع معين لكن الرقم 599 الذي وضع قربه حيره... نظر إلى أخمص حذائه في قدمه قرأ 41...فانسحب في صمت قائلا في نفسه:

إنه أكبر مني...." ( ص: 93).

و يعجز الإنسان عن إخفاء أسراره ومشاعره الدفينة التي تتأرجح بين الشر والخير:" أخفى أسراره في بئر... فأخرجوها بواسطة سطل ماء وحبل..." ( ص: 90). وتصل الوقاحة منتهاها عندما يؤكل عرق الإنسان الضعيف ثم يرمى عظاما لينهشه الأقوياء:" ركب قوارب الموت نجا... وصل حيا....حاول صديقه اللحاق به...ركب قوارب" النجاة" فمات..." (ص:91)
ويدين الكاتب في برج الحوت تلون الإنسان وتحوله إلى شخصية براقشية مخادعة تتقلب زيفا وادعاء لاستغلال الآخرين ومراوغتهم ومخادعتهم ظلما وبطلانا،:" حينما تعرف القراء عليه... وانكشف أمره...أدرك الكاتب بان الاسم المستعار من البنك كان بدون فائدة..."(ص:97).
وتبلغ المرارة مبلغها عندما يحل الفشل محل الظفر:" فكر صديقي يونس في الهجرة السرية، وضعوه داخل علبة سردين...صدروه إلى الخارج
لكنه، رجع في بطن أحد المهاجرين..."(ص:100).

وعليه، ينطلق حسن برطال في مجموعته القصصية من رؤية إنسانية تنعى وجود الإنسان الذي امتسخ وصار كائنا مفطورا على التوحش والكيد للآخرين يتهافت على ماديات الحياة الزائلة، يتلون في ألف صورة من أجل أن يلدغ أخاه الإنسان في زمن "الغولمة" وتشييء الإنسان وتعليبه في الأرقام الإنتاجية وعلب الربح والخسارة. كما يقدم الكاتب عالما تراجيديا حزينا ينخره البؤس والطمع والجشع، ويتحول فيه الضعفاء إلى لحوم بشرية رخيصة يتلذذ بها الأقوياء. وتبلغ المأساة ذروتها عندما تبطش السلطة وتتجبر إرادة الحاكمين ظلما وقهرا وغطرسة فيضيع الإنسان وتتقزم الكائنات السفلى وتنعدم الحريات العامة والخاصة وتنبطح الذات الإنسانية وتفقد حقوق البشر ويسود العنف وحق القوة في عالم الغاب حيث يتحول الإنسان كما قال هوبز إلى ذئب لأخيه الإنسان. ومن هنا، يشيّع حسن برطال الإنسان ويدفن الفقير الضائع، في حين يقبر الشر الخير ليبقى الشيطان يرفرف على مدن البؤساء وقلاع الأقوياء وحانات الأسياد وأطماع سماسرة السراب والأوهام الزائفة.

ت‌- المقومات الفنية والجمالية:

تستند المجموعة القصصية "أبراج" لحسن برطال إلى مجموعة من الخصائص الفنية والمقومات الجمالية التي تحدد معايير القصة القصيرة جدا ومجمل مقوماتها الشكلية:

1- خاصية الإضمار والحذف:

من أهم سمات القصة القصيرة جدا عند حسن برطال وهي أيضا من أهم ركائز هذا الفن الأدبي الجديد اللجوء إلى الحذف والإضمار من خلال الإكثار من علامات الحذف والنقط المتتالية الدالة على حذف المنطوق واختيار لغة الصمت والتلميح بدلا من التوضيح وتفصيح ماهو واضح؛ لأن الواضحات كما يقال من الفاضحات. وتعمل نقط الحذف على إثارة المتلقي ودفعه إلى التخييل وتصور المحتمل والبحث عن الجواب الصحيح وإيجاد الحلول الممكنة للأسئلة المطروحة، لأن الأسئلة كما يقول الفيلسوف كارل ياسبرز أهم من الأجوبة.

ويكثر الكاتب من نقط الحذف ليخلق بلاغة الإضمار والصمت بدلا من بلاغة الاعتراف والبوح التي نجدها كثيرا في الكتابات الكلاسيكية شعرا ونثرا. يقول الكاتب متوكئا على بلاغة الحذف ملمّحا إلى الموت وبشاعة القتل البشري:" قابيل دفن أخاه...الغراب دفن أخاه....والذي قتل بغداد دفن نفسه..."( ص:75).
ويستلزم الفراغ النقطي قارئا ذكيا لما يكتبه حسن برطال، لأن قصصه قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أية لحظة يحتك فيها المتلقي بأسلاك قصصه القصيرة جدا، والتي على الرغم من حجمها الكبسولي تحمل في طياتها أسئلة كثيرة وقضايا إنسانية شائكة.

2- خاصية التنكيت والتلغيز:

تتحول قصص الكاتب إلى أحداث ملغزة من باب التنكيت والإضمار ليترك القارئ دائما يتسلح بالبياض لملء الفراغ. ويعني هذا أن قصص حسن برطال عبارة عن ألغاز معقدة تثير إشكاليات مفتوحة من الصعب بمكان أن نجد لها حلا بسهولة أو نبحث لها عن إجابات نهائية محددة شافية:" هاجر الابن...ثم هاجرت الأم...وتبعهما الأب...
ولما عادت الأسرة من المهجر وجدت البيت قد هاجر"( ص:68). ونلاحظ في هذه القصة الملغزة الموجزة أن النص غير مكتمل يحتاج إلى توضيح وتفسير، لابد أن يملأ المتقبل فراغه بالجواب والتأويل حسب السياق المرجعي الذي يعيشه ذلك المتلقي الضمني.

3- خاصية الإيجاز والتكثيف:

تمتاز قصص حسن برطال بقصر نفسها حيث لاتتعدى سطرين في الغالب الأعم. و بالتالي، يعد من أكثر الكتاب المغاربة في مجال القصة القصيرة جدا ميلا إلى التكثيف وبلاغة الإيجاز والاختصار. ومن ثم، يصبح الإيجاز هو القاعدة بينما التطويل هو الاستثناء. ولا تتجاوز قصصه نصف الصفحة على عكس الكتاب الآخرين كعز الدين الماعزي وعبد الله المتقي الذين يتجاوزون الصفحة إلى الصفحتين في بعض الأحيان .
ويلاحظ أن صفحة واحدة من كتاب " أبراج" تضم مجموعة من القصص القصيرة جدا التي تثير الاستفزاز والإدهاش وتحمل معادلا عنوانيا وموضوعيا.

4- خاصية الفكاهـــة والإدهاش:

وكل من يقرأ قصص حسن برطال إلا وتصدر عنه ابتسامات موحية تدل عن انشراح صدره وانفراج ثغره عن أسنان ضاحكة ، ويستسلم للفكاهة الصارخة والنكتة السياسية الرائعة والنادرة المستملحة الهادفة. ونكتفي بقصة واحدة لنبين الطابع الفكاهي في قصص عالم حسن برطال . وما أكثر القصص الفكاهية في هذا العمل الفني الجميل!" تزوج من امرأة تمتهن الحلاقة...فأدخلته الصالون الذهبي...
أقعدته على الكرسي المتحرك.... مكنته من رؤية وجهه في المرآة... ثم حسنت له بلا ماء"(ص:24). ويقول في نص قصصي آخر:" مات زوجها...طلبها أحدهم للزواج... فأقسمت بأنها لن تكلم بعد اليوم إنسيا...وبعد عامين ، ضبطوها
في دكان الجزار المجاور.... لكنها تضاجع جنيا"(ص: 49).

تحمل هاتان القصتان في طياتهما روح الفكاهة الهادفة وعنصر الإدهاش والحيرة المثيرة والتقزز من العالم المحنط بالماديات الذي أغرق الإنسان في الرذيلة ومهاوي الخطيئة.

5- خاصية السخرية:

تتميز قصص حسن برطال بسمة السخرية من الواقع الإنساني الذي انبطح إلى أسفل سافلين، وتقزم فيه البشر وصاروا كائنات ممسوخة بالشر وزيف القيم . ومن هنا تطفح قصص الكاتب بروح السخرية والانتقاد البشع للواقع المغربي بصفة خاصة والواقع العربي بصفة عامة كما في هذا المقطع القصصي الذي يوحي بالعبثية الساخرة والسياسة الماكرة:" تصدع الجدار ثم انهار...وللوقوف على سبب الحادث حمل الخبراء"حجيرة" وبعض العينات من الركام إلى المختبر لدراسة هذه المواد المستعملة في البناء..." (ص:66) .
وتبلغ السخرية وقعها المأساوي في هذه القصة الموحية:" دعته الوكالة البنكية لتصفية حسابها معه....حمل ساطورا وصفى حسابه مع المدير..."(ص:28)

6- خاصية الامتساخ :

تتحول الكائنات والشخوص البشرية في قصص الكاتب إلى مخلوقات ممتسخة في شكلها وهيئتها ، حيث تنقلب إما إلى حيوانات ممسوخة وإما إلى كائنات جنية مستهجنة في خبثها وتلونها. ويحيل هذا الخطاب الفانطاستيكي على تردي الإنسان في مهاوي الرذيلة وسقوطه في درك الشر و انتقاله من الصفة الآدمية إلى الصفة الحيوانية إذ أصبح إنسانا جامدا بلا روح ولا إنسانية:" العروس بنت فقير... العريس ابن وزير...

سألت عن المهر وضع بين يديها ميزانية وزارة
وكل كنوز البلد..قالت أمها:
  لقد تزوجت بعفريت، فاختاري لزواجك. خاتم سليمان..."(ص:48-49).
وتتحول لعبة السياسة كذلك إلى وحش فانطاستيكي واحتيال حيواني يضيع معه الإنسان والقلب البشري ليتحول إلى حجر إسمنتي من الطمع والجشع اللامتناهي:" ظهرت الساحرة فوق الخشبة...حولت أوراقا عادية إلى أوراق نقدية... صفقت وزارة المالية... لكن ساحر من " الأمن" حول الأساور في عنقها إلى حبل...فصفقت وزارة العدل...وانتهى العرض"(ص:60).

7- سرعة الإيقاع القصصي:

تنبني قصص حسن برطال على السرعة في تشغيل الإيقاع السردي وتوظيف الأحداث الأساسية بحركية مكثفة في تعاقبها أو تسلسلها مع استعمال تقنية الحذف والإيجاز مع الاستغناء عن الوصف والإسهاب التصويري. لذلك تتراكب الجمل والأفعال والأسماء والأحداث في تتابع مستمر قائم على القفز والفراغ والإضمار.

8- الواقعية الرمزية:

تصدر قصص الكاتب عن واقعية انتقادية رمزية تقوم على الإيحاء والتلميح واستخدام الرموز للإحالة على الواقع الذاتي والوطني والقومي. وينتقد حسن برطال كل مظاهر الفساد التي استفحلت في المجتمع المغربي من اغتصاب وخيانة ودعارة وبطالة واستغلال وطرد للعمال وتسريح للأجراء. ويدين الكاتب المؤسسات السياسية التي كانت وراء انحطاط الإنسان المغربي وسقوطه في مهاوي الرذيلة ومدارك الانهيار والتفسخ الحضاري والأخلاقي. ومن هنا أصبحت قصص حسن برطال مرآة صادقة ينعكس فيها الواقع المغربي بكل جلاء ووضوح.

9- شاعرية الإيحاء:

تتسم مجموعة من القصص بخاصية الشاعرية وبلاغة الإيحاء ولغة المجاز والتغريب. وترد القصص في شكل أسطر شعرية موحية ومعبرة تذكرنا بقصيدة النثر:

"اقتلعوا ضرسه وعلموه كيف يأكل بعينيه....
اقتلعوا لسانه وعلموه كيف يكلم الناس رمزا...
لكنهم أبقوا على شفتيه...ليقبل يد الرئيس..."(ص:32)

فهذه الطريقة في الكتابة تشبه القصيدة الشعرية المنثورة ، وما يؤكد ذلك أيضا استعمال خاصية التوازي والتكرار الصوتي والتوازن الجملي. كما يشغل الكاتب الاستعارة والتشبيه والكنايات الإحالية وبلاغة التصوير والمعرفة الخلفية التناصية (ماجلان، ابن بطوطة، مستنسخات القرآن، يونس، الصحاف،...) ليخلق نصا قصصيا متكاملا يجمع بين المتعة والفائدة، وإن كان حسن برطال أقل توظيفا للتناص الثقافي بالمقارنة مع زميله الكاتب القدير مصطفى لغتيري في مجموعته القصصية" مظلة في قبر".

10- التهجيـــن اللغوي:

يستعمل الكاتب في مجموعته القصصية لغة شعبية مهجنة وملقحة بالفصحى والدارجة المغربية والعامية المفرنسة والإسبانية الممغربة(البوكاديوس). ويعبر هذا التداخل اللغوي المختلط عن تعدد الفئات الاجتماعية والتراتبية الطبقية والتهجين الواقعي في المجتمع المغربي . كما يحيل هذا التهجين على الصراع الطبقي والتمايز الاجتماعي الذي يتميز بالتضارب بين مصالح الفقراء والأغنياء. ويجسد التهجين اللغوي السخرية والوضع الطبقي وتجسيد القيم الإنسانية كما في هذه القصة:" تزوج برائحة الشحمة في الساطور...فسكن الـگرنة ولازمته الكلاب"(ص:81).
وتدل اللغة على طبيعة الوضع الاجتماعي وتدني الإنسان في قاع القيم المنحطة:" كان بياض الثلج عاجزا عن تبيض قلبه...وبقع الطلاء الأبيض كذلك...

قلب أسود ووجه أسود كان فأل شؤم على كل من يقابله صباحا
كل الصباغين جاد الله عليهم ب"بريكولات" إلا هو..فرغ
المكان من حوله، التفت يمينا وشمالا حمل سطله المعوج وسلمه الأعرج
ثم غادر" الموقف" ".(ص: 93).

وإذا كان عبد الله المتقي يوظف القاموس الجنسي الشبقي كثيرا في مجموعته القصصية" الكرسي الأزرق"، وإذا كان عز الدين الماعزي يوظف كثيرا القاموس الرومانسي الطفولي في مجموعته القصصية" حب على طريقة الكبار"، وإذا كان مصطفى لغتيري يشغل القاموس الثقافي الذهني كثيرا في علاقة جدلية مع المعرفة الخلفية التناصية في مجموعته القصصية" مظلة في قبر"، فإن حسن برطال يتعامل كثيرا مع القاموس الواقعي الشعبي الذي تستخدمه الطبقة الكادحة والفئات الشعبية.

11- التركيب القصصي:

يكثر الكاتب من الجمل الفعلية البسيطة ذات المحمول الواحد لشحن حبكته السردية بالتوتر الدرامي والحركة الديناميكية الناتجة عن تتابع الأفعال والتي تساهم في خلق المواقف المتأزمة. وقد تنفصل الجمل فيما بينها أو تتصل وصلا وفصلا. وتقترن هذه التراكيب الجملية المضمرة القائمة على الحذف والفراغ بمتعلقات قصصية تتمثل في المؤشرات الزمانية والمكانية ( حينما- كان- ولما- وبعد- ثم.- مع...) والتي تسعف الكاتب في نسج قصصه التي تبقى نصوصا خاضعة لجدلية الفراغ والبياض.

وإليكم مثالا لهذا النوع من التركيب الجملي الذي يتحكم فيه الفصل ظاهريا والوصل باطنيا في خلق الدلالة العميقة والمقصدية المرجعية:" صنعوا من جلده كرة...
فلعبت الخمرة برأسه"(ص:92)
و يعمد هذا التركيب القصصي إلى الانزياح وخرق الرتبة والعمل على تحصيل التخصيص مع تشغيل خاصية التقديم والتأخير.

استنتاج وتركيب:

نستنتج من هذا العرض الوجيز أن حسن برطال هو المؤسس الفعلي لجنس القصة القصيرة جدا بالمغرب بدون منازع. وقد صور الواقع أحسن تصوير بأوجز عبارة وأقصر جملة في حين تقف الرواية الطويلة عاجزة ولو بأجزائها المتسلسلة عن التقاطه في أحسن صورة أو تجسيده بكل صدق فني وصراحة موضوعية .

وقد توفق كاتبنا حسن برطال في هذه المجموعة القصصية أيما توفيق حينما عزف فيها على أنغام السيمفونية التراجيدية التي رثى فيها الإنسان المعاصر الذي فقد آدميته وإنسانيته وارتمى في أحضان الماديات والنفاق الاجتماعي.
هذا، وتدين "أبراج" حسن برطال التفسخ الحضاري والبؤس الاجتماعي بلغة مهجنة تطفح بالروح الشعبية والتوتر الدرامي والسخرية الصاخبة والامتساخ الحيواني. كما تمتاز قصص الكاتب بخاصية الإضمار وبلاغة الانزياح وشاعرية الترميز والتكثيف الموحي والواقعية الانتقادية السوداء.

لحسن برطال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى