الجمعة ٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٥
بقلم مصطفى أدمين

مكان الانفقاد في حقل النعناع

من شقٍّ في ركام الإحباط ، تسلّلتْ إلى روحي جرثومة اليأس.
أنا ما كنتُ الرجلَ الذي ييْأسُ بسبب الغدر والخيانة. غير أنّ جرثومةَ اليأسِ عرفتْ كيف تتسلّلُ إلى روحي.
الإحساسُ مثلُ هذا الوصف: طائرٌ يريدُ أن يطير غير أنّ أوحالَ الحضارة تشدُّه إلى الحضيض. إنّه يُحاول... إنّه يُناضل من أجل المحاولة... من أجل الحياة؛ وفي كلّ مرّة يزيدُ طينٌ على طين.
أمِ اليأسُ كهذا التوصيف: رُتيلاءُ تنسجُ غزْلها لكي تعيش، وفي كلِّ مرّة، تأتي يدٌ شرّيرة لتنقضَ غَزْلها... ألفُ يدٍ ويدٍ نكشتْ نسْجَ العنكبوت الذي يريدُ أن يعيش؛ والآن ما بقيتْ في أطرافه قوّة، وما تبقّى في حلقه خيطُ كلام.
لا أصدقاء بقوا ولا أهل.
لا قيم صادقة بقت ولا وطن.
لا علاقة بقيتْ بين البشر والسماء.
ولا السماءُ بقيـَتْ على علاقتها ببني البشر... ماتت الأخلاق الرفيعة، الأفكارُ الجميلة، فما تبقى من البشر سوى الشر.
لذا قرّرتُ أن أنفقدَ في حقل النعناع.
للانفقاد طقوس:
غسّلتُ أطرافي وجمّعتُ خيوطي، وشهدتُ بأنْ «لا من يُغرينا بالوجود ويُفسّره سوى العِشق»، وشددتُ تفكيري إلى المستحيل؛ إلى الخرق، وقلتُ للوجود «طُزَّ فيك أيُّها العدم!»
فاستحلتُ سائلَ نُسغٍ يجري في عروق نبات النعناع.
ويا الله ما أروعها الرؤية؛ رؤية الوجود باللون الأخضر ! ويا الله ما أعذبه نسيم اليخضور في النبات!
وأنا كنُسغٍ أشعر بالطمأنينة، وبنماء النعناع تسبيحاً لله... أنا في جنّة.
غير أنّي سمعتُ أحبّائي يبحثون عنّي. بحثوا عنّي في بيتي، في مقر عملي، في مقرّات الأدب والاجتماع والسياسة، في مراكز الاعتقال، في المشرحات، في الحانات التي كنتُ أرتادُها، في المساجد التي خالوا أنّي قد ألجأ إليها، عند النصارى أصدقائي، عند اليهود جيراني... فما وجدوني. ولمّا أتعبهم العياء، تجمّعواْ في جماعة، وقالوا لبعضهم:«إيتونا بالشايْ المنعنع!» فجيءَ بالصينية والبرّاد وكؤوس «حياتي» وبالماء الساخن والشاي والسكر والنعناع، وما إن صبّوا على النعناع الماء الحارق حتى صرخت. فقال رئيسهم:«هذا ابننا المنفقد، بحثنا عنه في كلّ مكان، فوجدناه في البرّاد».
فكانتْ ليلة لقاء، هم من لحم ودم، وأنا من ورق وماء. فدوّنتُ على جسدي هذه الكلمات:[لا انفقادَ بَعْدُ ولا يأسَ مع الأحباء].


مشاركة منتدى

  • يا الله ، كيف لكلماتك عبورا مُعبدا لقلبي. بدايةً اجتذبني العنوان ورائحة النعناع العطرة النافحة منه، ثم انكسبت الكلمات الفصحى كالشلال المتفجر من طود جبالك الفصيحة الحكيمة ، ثم إنها أروتني ومن هذه المقالة سأسير نحو كتاباتك ورواياتك .

    شكرا لزخم المشاعر التي غمرتني من نبعك العذب.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى