الأحد ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم حسن عبد الله

مليحة مسلماني تدخل رحاب الرواية من بوابة الشعر او تخرج الشعر من رحم الرواية

الرواية الأولى في تجربة الكاتب، هي لعبة ابداعية تحمل وجهين متناقضين، وجه الخوف والتردد، ووجه المغامرة والروح الاقتحامية، وتشكل الرواية الأولى مفتاح عبور إلى فضاء مثير، مسكون بمتعة الاستكشاف، او ربما توصد المحاولة الباب في وجه الكاتب، تدفعه الى الخلف، ليكون بمنأى عن اعادة اللعب بنار الكتابة الروائية.

قليلون هم الذين تمردوا على عدم قبول المحاولة الاولى من قبل النقاد والقراء، واصروا ونجحوا في المحاولة الثانية أو الثالثة، اما القسم الاكبر من المحاولين فقد اختفوا اثر فتور استقبال المحاولات الروائية الاولى، لأن الكاتب بعد صدور باكورة اعماله، يهتم كثيرا باستطلاع الاراء، حيث يستشف من العيون والاقلام دعوة مفادها: "واصل انطلاقتك" او "ارجع قلمك الى غمده، وعد الى ممارسة دور القارئ المتلقي، لا الكاتب المبدع.

الكاتبة الفلسطينية مليحة مسلماني، حملت روايتها الاولى "نيار" من مطبعة ابو غوش، وطافت بها طرقات وشو! راع رام الله، قدمتها للمؤسسات والمكتبات، واهدت بعض النسخ للاصدقاء، وراحت تنتظر الرد، واحسب انها تنتظر بقلق واضطراب.

فأي رد استطيع ان اقدمه لهذه الكاتبة؟

استوقفني في تجربة مليحة الروائية، النفس الروائي التجريبي، والتكثيف، واللغة الشاعرية التي حملت على راحتيها المخمليتين احساسا رهيفا بنبض وجع طفلة وبحلمها الغض الطري وبألم صبية، اصطلت بنار الانتظار.

رواية مليحة عبارة عن مونولوج تحدى داخل الروائية – البطلة بعد ان ضاق به ذرعا هذا الداخل، فاندفع فجأة، الى الورق، او هي خربشات طفلة ضغط وحش الحزن على قلبها وصدرها، لكنه لم يتمكن من خنقها، او هي مذكرات شابة نضجت قبل الاوان، سرعت سنوات عمرها، اختزلت المسافة الزمينة بين عمرها وعمر ابيها، اوسعت الى تقريب عمره من عمرها، لحمايته من غدر استلاب المعاناة لفصول العمر في الغياهب المظلمة.

كان الحزن هو كلمة السر في الرواية، فقد لازم الكاتبة بطلة الرواية منذ الطفولة واستمر معها، ادمى القلب وانهك الجسد، لكنه لم ينتصر عليها بالضربة الفنية القاضية ولا حتى بالنقاط، لان البطلة وفي مواقع كثيرة من الرواية وصولا الى النهاية، استطاع! ت ان تضمد جراحها وتفتح باب الامل على مصراعيه، تخرج من دائرة الحزن، تعيش القادم وتتنسمه، تتنشق رائحة الغد، فتنتشي شوقا للحياة.

بالطبع لا استطيع ان اتناول جميع الجوانب المتعلقة بهذه الرواية التي صدرت حديثا في 125 صفحة من القطع المتوسط عن دار الماجد للطباعة النشر، فذلك يحتاج الى مساحة اوسع من من تلك المخصصة لمقال في صحيفة، لكنني سأحاول تتبع علاقة الطفلة بالاب المعتقل، ثم علاقة الشابة بالاب وهو يرسف في الاغلال، يقبع خلف القضبان، وفي هذه العلاقة يتجلى الحضور المكثف للاب في الغياب، ويتجلى الغياب الطويل الثقيل في الحضور القوي ـ أب مزيج ما بين الاسطورة والرمز، مزيج بين الانسان المتماسك والانسان المقهور المظلوم.

لحظات استرقها الاب والابنة من عمر الزمن، فالاعتقال كان لهما بالمرصاد، اجبره على مغادرتها وهي طفلة، ثم تحرر عشرة شور، واعيد الى الاعتقال، ليسلخ من عمره عشرين عاما. وطيلة هذه السنوات ظلت مليحة منهمكة في العودة الى الماضي البعيد، لتغرف من مخزن الذاكرة صورا تحبها، تشعرها بحنان الاب، تستعيد ايقاعه السريع في المشي، وحركة يدها الصغيرة وهي تسقر في حضن يده كا جاء في صفحتي "86 –! 89". اما ليلة اعتقال الاب، فقد شكلت كابوسا لافراد الاسرة، لا سيما بطلة الرواية، التي اعتصر فؤادها القهر، وهي ترى الجنود يقتادون اباها مكبلا وسط غاية من البنادق.

ان من علامات نجاح هذا العمل الروائي، قدرة الكاتبة على جعل القارئ يقترب من عالم اسرتها، وان يعيش هموم الاسرة وآمالها في ذات الآن، لا لان الكاتبة سعت الى استدرار العطف، وانما من خلال طرح قصة الاسرة، في سياق انساني، حوي تفاصيل صغيرة، تداخلت وتمازجت مكونة عالمها الخاص، اسرة هي نموذج لأسر فلسطينية كثيرة، دفعت بسخاء من راحتها ومستقبلها استحقاق الوفاء للوطن.

طال اعتقال الاب، طال اعتقال الاسرة، طال اعتقال مليحة، التي ما انفكت تركض العام تلو الآخر، لعلها تتمكن من الامساك بطرف خيط، الى ان تسنى لها ذلك في احتفالية توجت بقذف الحزن ايضا وصرعه، حينما دعت نفسها، دعت الطفلة ـ الشابة، لأن تحطم كل قيد وتركض نحو اللاحد، وترقص فرحا لحتمية قدوم الاب، الذي تناديه مع كل اطلالة فجر، وتنثر حول الصباح.

واخيرا آمل ان اتوقف في مقال آخر عند جوانب فنية في الرواية، ما لها وما عليها، لكن لا بأس من القول هنا ان كفة ما لها رجحت على بع! ض الثغرات الفنية، اما الرواية بشكل عام، فهي في رأيي أجمل واثمن هدية يمكن ان تقدمها ابنة منتظرة لأب زرع داليته في ارضه، وانتزعوه وذهبوا به بعيدا عنها، وها هي اليوم تطرح ثمارها، تخترق الاسوار والاسلاك الشائكة، ترطب قساوة الواقع، تخفف من ضغط القيد على المعصم، من خلال نص جمع ما بين جزالة وقوة الاسلوب النثري وجمالية وانسيابية الشعر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى