الأربعاء ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم أبو الفضل عبد الرحيم أنكيس

مملكة الطاعون

وفقا للروايات الأخيرة الواردة عن مصادر مجهولة، يبدو أن هذه المدينة تعيش حالة من الاضطراب والقلق، فبالفعل وقعت ظاهرة غير متوقعة تماما جديدة كلية، وتختلف اختلافا جذريا عن الأحداث المزعجة والتي تمر بها أحيانا مرورا مألوفا.

في هذا العام اجتمعت الناس –على عادتها- لأهداف لم تذكر بدقة في ساحة "هان" في مدينة "شو" العظيمة، كان يوما دافئا - عادة ما يكون هكذا حتى هذا الوقت من الموسم-، بالكاد تتحرك نسمة في الهواء، ولم يكد الحشد يفارق المكان حتى بدأت قطرات، ثم كتل بيضاء ننزل بغزارة من السحب الموزعة في قبة السماء الزرقاء، في الحقيقة لم يكن مطرا! تعجب الناس وتطايروا مما يقع! قد يكون ذلك إنذارا بعذاب قادم! في الظهيرة ثار هياج خفيف لكنه غير عادي في الجمهرة، تتابعت الجلبة عشرة آلاف لسان... سرعان ما اتضح مصدر هذا الهرج والمرج تماما.

في تلك الليلة أحس حاكم المدينة بشعور غريب لم يعهده من قبل، دب في عروقه الخوف والهلع، أطرق حيران مفزوعا في الشرفة المطلة على المدينة! لم يلم به مثل هذا منذ أن رأى تلك الرؤيا المشؤومة قبيل أيام، يتمشى في الممر الداخل من القصر، يتمتم! يستعيذ! إنها حقا الرؤيا التي رأيتها! ذلك الكابوس المزعج! الفئران والجرذان تهجم على قصري، تحفر في أساس القصر، تقضم أخشاب الجدران، وأفاعي برؤوس خمسة تطل من السقوف والشقوق، تمتم واستعاذ مرة أخرى لعله يدفع الهلع الجاثم على صدره.

ربّاه ماذا حل بمملكتي؟ ما هذه الحرب القذرة النفاثة والمهلكة؟ تأخذ أرواح البشر الضعاف وحتى الأقوياء بالآلاف؟ ربما هي حرب معلنة من الأرواح اللامرئية! أو من العالم السفلي الشرير في الكون الذي يتربص كل الشرور بالبشرية! سأرى إذن حلا عاجلا وقويا للرد على هذا العدو الخفي مع مستشاري وأركاني الحربية في المملكة.

في صبيحة تلك الليلة المرعبة أصبحت المدينة مضطربة على أخبار الهجوم والقتل والعدوى، سقطت الجثث في كل مكان، نُقلت أكوام أخرى من البشر إلى المشافي للعلاج. اضطربت أحوال الناس بين مكذب ومصدق ومتشكك مما يرى أو يسمع، الكل ينتظر قرار حاكم المدينة وولاته.

كانت كل اللحظات والدقائق محسوبة وحاسمة في اجتماع السلطان الحاكم مع المصالح والهيئات، كان فيه الضباط والقادة والأطباء والعلماء والولاة. تقرر في أمر الحرب المعلنة اتخاذ خطوات للمواجهة والحرب بلا هوادة.
الغريب في أمر العدو أنه يظهر فجأة ثم يختفي، بعد أن يأخذ مزيدا من الأرواح. انتشرت في المدينة وفي كل أرجائها أخبار وإشاعات عن شكله ولونه وضخامته وحتى ارتفاعه في السماء، قال ممن رآه خلسة من الناس إنه يشبه جسد رجل عريض عرضا لا يتناسب مع طوله، في هيئته استدارة سخيفة جدا. وبالطبع لا يمكن رؤية قدميه أبدا، كانت يداه ضخمتين خلقتا للدماء، وشعره رمادي أشعث، أنفه ذو طول استثنائي معقوف وملتهب، بينما كانت عيناه لامعتين حادتين. ينطلق بسرعة كالبرق الخاطف في الهواء والبر والبحر، يكون مع الغبار كالهباء، ومع الأشعة كالذر، ويسيل مع المناخ الرطب أيضا.

ومع كل هذا الشكل المرعب فقد كان يلبس تاجا عريضا وطويلا يشبه تاج الملوك، صدرته ومعطفه مصنوعة من مادة بيضاء لامعة إلى حد ما، تشبه تلك رآها الناس في السماء، ولكي يكمل زينته طوق عنقه منديل حريري بلون الدم، يتدلى بأناقة على صدره، معقود بأنشوطة ضخمة ذات أبعاد بالغة البروز.

حار الأطباء في إيجاد الترياق المحارب لهذه الداء المخيف، بل لم يجدوا حتى صنفه في الأوبئة التي تكون عادة في مثل هذا الموسم. انصب اهتمامهم على التشخيص والوصف للموتى والمرضى من أجل وقاية الأصحاء.
رجع الملك إلى القصر على خوف من أمره، ليجد الحارس العجوز واقفاً على غير عادته. كأنه متجمد في مكانه، ولم يبال بدخول السلطان، اقترب منه وخاطبه: أراك شاردا، أو أنك تشعر بالإرهاق!

ردّ الحارس: نعم مولاي، أكثرَ من ذلك، ألمت بي الحمى القاتلة مع السعال، وشدة التعب!

فقال له الملك: سأدخل القصر، وأبعث أحد خدمي ليعتني بك، ويأتيك بدواء عاجل.

فرح الحارس بوعد الملك واهتمامه، ولكن ما إن دخل الملكُ قصره حتى نسي وعده. وجد الموت في استقباله، تسلل العدو المخيف على حين غرة إلى باحات القصر؛ اختطف العشرات من الحاشية والجنود والخدم، بل وحتى من حريم السلطان وأبنائه.

تعرت المدينة من كل شيء، سقطت أعمدتها وعروشها، استباحها العدو من كل الثغور. الساحات والميادين والأرصفة وحتى الأزقة فارغة، لم يعد هناك دواء ولا علاج ولا جنود ولا حتى غذاء، الأمل الوحيد الذي أوصى به الأطباء هو الاختباء في المنازل حتى لا يصاب الناس بالجراثيم والعدوى القاتلة التي يرسلها العدو في الهواء.
في الليلة الأولى من الحصار بات الناس مذعورين حزينين، بعضهم أصيب بكآبة مزمنة لا يستطيع فراقها، وبعضهم الآخر ظهرت عليه بثور غريبة، مع طفح جلدي أو تغير لون أصابع اليدين أو القدمين؛ أعراض خطيرة تظهر وتتغير مع كل وقت ومصاب بالعدوى. حتى السلطان انقض مضجعه تلك الليلة، قلقله الأساسي متعلق بالكابوس المزعج الذي رآه، يزداد ثقله مع كل لحظة، في أقل من ساعة تسقط مدينتي، ما جعل الدم في جسدي كله يندفع إلى صدغي، أحس بالصداع الشديد والأوجاع والآلام التي لا أدري سببها، سأتحمل رغم كل المصائب والأسقام. في تلك اللحظة لم يفكر حاكم المدينة إلا في الحفاظ على حياته، أعطى تاج ملكه للسلطان الجديد!

أصبح الطاعون هو الحاكم المستبد في المدينة، انتقلت عدواه تتمدد مع الجدران والنوافذ في أرجاء المدينة، يدور بسرعة وصلف، يخلف وراءه آثار الدماء والموتى والجثث، يصول بوجهه المخيف في كل الأحياء والأزقة، يرافقه أرتال من الساسة والفقراء والمخبولين والعرجان والعميان والبرصان والتائهين، وحتى السكارى والقتلة والعتاة.

المدينة أكلها الوباء وأكل معها التراث والملحون، والذين لم يصبهم الداء هم الأكثر عذابا، يخافون على وجوههم أن تمسهم النار، غدا أرى وجهي في المرآة لا يتغير! لا أمسحها باحثا فيها عن وجه آخر!

المدينة دفنت أحياءها قبل أن تبلعهم القبور!

والأطفال يولدون من جديد في مملكة الرماد!

الطوفان قادم ليطهر المدينة من الطاعون!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى