الاثنين ٢١ آذار (مارس) ٢٠٢٢
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

منابع الإبداع الشِّعري «الذِّهن - العاطفة»

لقد كانت طبيعة الشِّعر ووظيفته وراء تفهُّم الإسلام لتجربة الشِّعر والشُّعراء وتسامحه معهما، وإغضاء الرسول وصحابته- وعلى رأسهم (عُمَر بن الخطَّاب)، بشِدَّته المعهودة- عن الشُّعراء، الذين يقولون ما لا يفعلون، وإنْ تداولوا في قول الشِّعر ما لا يجوز السكوت عنه في غير السياق الشِّعري.

بل أكثر من هذا، كان الإصغاء إلى الشِّعر، والتشجيع عليه، والترحيب به في مجالس الدَّولة الدِّينيَّة، وفي أقدس رحاب شعائرها الدِّينيَّة الجديدة، وامتداح السِّحر فيه والحِكمة، وتوظيفه إعلاميًّا وتَعْبَوِيًّا. هذا على حين كُبِّلت حُريَّات الشُّعراء، أو أريد لها أن تُكبَّل، أو أن يُنفَوا من المجتمع في شرائع أخرى، ليست أُولاها مدينة (أفلاطون) الفاضلة، ولا آخرها الواقعيَّة الاشتراكيَّة، في مدينتها المنهارة.(1)

من هذا المدخل الجدليِّ يمكن للبحث أن يَدْلُف إلى موضوعه؛ لإعادة النظر في مسائل ملتبسةٍ طالما اختصم حولها المبدعون والمتلقُّون والنقَّاد عبر أجيال الثقافة الإنسانيَّة عامَّة، إجابةً عن سؤالٍ محوريٍّ:

ما المسافة الفاصلة بين الذِّهن والعاطفة في الأدب عمومًا، وفي الشِّعر بخاصَّة؟

من حيث إنَّ هذين الجانبَين من البناء النفسيِّ هما ميدان التنازع بين لغة العقل والخير، ولغة العاطفة والهَوَى والشَّرِّ، ولاسيَّما في الشِّعر؛ لأنَّه أَلْصَقُ الأنواع الأدبيَّة بذلك التنازع الحاد.

هل الأدب يَضْعُف في الخير والحِكمة لذات الخير والحِكمة أم لعوامل أخرى؟

وتأتي هذه المحاولة في سياق مشروعٍ للحفر وراء المعادلة الدقيقة لطبيعة الشِّعريَّة. سَبَق أن راودها الكاتب من زوايا أخرى، كالمسافة بين الواقع والخيال، في بحثه: "الصورة البَصَريَّة في شِعر العُميان: دراسةٌ نقديَّةٌ في الخيال والإبداع"(2)، ثمَّ المسافة بين الوعي النقديِّ والموهبة الفنِّـيَّة، في بحثه المُعَنْون: "شِعر النقَّاد:

استقراءٌ وصفيٌّ للنموذج"(3). في مسعًى للاقتراب من وعيٍ عِلميٍّ بالعمليَّة الإبداعيَّة، في الشِّعر خاصَّة.
ولمصطلح (الشِّعريَّة) مفهومان، وَفْقَ ما يذكر (بول فاليري Paul Valéry، -1945): مفهومٌ واسعٌ، يشمل كلَّ ما له صِلة بالإبداع في التأليف اللُّغوي، حيث تكون اللُّغة هي الجوهر والوسيلة في آن- ومن ثَمَّ فهو يتعلَّق بالأدب كلِّه- ومفهومٌ ضيِّقٌ، يشير إلى مجموعة المبادئ الجماليَّة ذات الصِّلة بالشِّعر.(4) وهذا المفهوم الضيِّق هو ما نشير إليه بمصطلح "الشِّعريَّة".

"إنَّ الشُّعراء والروائيِّين، كما يصفهم (سيجموند فرويد)(5)، "أعزُّ حلفائنا، وينبغي أن نقدِّر شهادتهم أحسن تقدير؛ لأنهم يعرفون أشياء.. لم تتمكَّن بَعْدُ حِكمتنا المدرسيَّة من الحُلم بها. فهُم في معرفة النفس علَّمونا، نحن معشر العامَّة؛ لأنهم ينهلون من موارد لم نُفلِح بَعْدُ في تسهيل ورودها على العِلْم."

وهذا يستدعي مناقشةً لاحقةً حول التجربة الشِّعريَّـة بين النفس والفكر.

(1) أمَّا ربط خُبُوِّ الشِّعر في صدر الإسلام عمومًا بدخوله في الخَير، أو دخول الدِّين الجديد عليه بالقيود، فأمرٌ آخَر، فيه إغفالٌ لعوامل كثيرة وراءه. منها: أنَّ تراجُع منزلة الشِّعر والشُّعراء كان قد سَرَى في الواقع الأدبيِّ قُبيل الإسلام؛ لانحراف الشُّعراء إلى التكسُّب، وإثارتهم الفِتَن القَبَليَّة، ما جعل للخطابة قَصَبَ التقدُّم على الشِّعر في أسواق الأدب، للأسباب الاجتماعيَّة والسياسيَّة والقيميَّة المشار إليها. يُضاف إلى هذا أن الأضواء كانت خلال العقود الأربعة في صدر الإسلام مسلطةً على (يثرب) والثورة الدِّينية المنبثقة منها؛ فكان طبيعيًّا أن يضيع خلال ذلك شِعرٌ كثيرٌ أو يُضيَّع. وأمَّا (حسان بن ثابت) تحديدًا، فلم يكن بالشاعر المتقدِّم شِعريًّا أصلًا قبل الإسلام، قياسًا إلى معاصريه، ثمَّ لمَّا أسلمَ، كان قد تقدَّم به العُمر. فليس، إذن، بالمعيار اليُرضَى في ما استشهد به (الأصمعيُّ) عليه- من لِين الشِّعر بسبب الإسلام وتحوُّله من الشَّرِّ إلى الخير- وإنْ كانت فرضيَّة الشَّرِّ والخَير، من حيث هي، تبدو صحيحة، ولا سيما بالنظر إلى حوافز الشِّعر في الثقافة العَرَبيَّة القديمة.

(2) أصله: أطروحة دكتوراه، أُجيزت من (قِسم اللُّغة العربيَّة وآدابها، كليَّة الآداب، جامعة الملك سعود، بالرِّياض): 1993. وصدرَ في طبعته الأولى عن (النادي الأدبي بالرِّياض، 1996).

(3) صدرَ في طبعته الأولى 1998، عن (مركز البحوث، كليَّة الآداب- جامعة الملك سعود، بالرِّياض). ثمَّ في طبعته الثانية 2011، عن (عالم الكتب الحديث، إربد- الأردن).

(4) انظر: تودوروف، تزفيتان، (1990)، الشِّعريَّة، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر)، 23- 24. نقلًا عن:

P. Valéry, De l’enseignement de la poétique au Collège de France, Variété V, Paris, Gallimard, 1945, p. 291.

(5) S Freud, Le délire et les rêves dans la Gradiva de W. Jensen, (Paris: NRF; Gallimard, 1970), p. 127.

انظر: المودن، حسن، (محرَّم 1428هـ= يناير 2007م)، «الأدب والتحليل النفسي»، (مجلَّة «قوافل»، (النادي الأدبي بالرِّياض)، العدد 21، ص20- 24)، ص24.

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)
p.alfaify@gmail.com
https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى