الأربعاء ٩ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم آمال عواد رضوان

منتدى الحوار الثّقافيّ و"نقدٌ على نقد"!

بتاريخ 27-1-2011 التأمَ لقاءُ منتدى الحوار الثقافيّ الشّهريّ في مركز تراثِ الباديةِ عسفيا الكرمل، على تحيّةٍ غادرَها الزّؤانُ مِن غربالِ النّقد، وذلكَ لمناقشةِ كتاب النّاقدِ د. محمّد خليل "نقدٌ على نقد"، لِما للكتاب مِن أهمّيّةٍ في نماذجهِ التّطبيقيّةِ في نقدِ النقدِ مِنَ الأدب المَحلّيّ والعربيّ والعالميّ، كخطوةٍ رائدةٍ وجريئةٍ في المشوار الأدبي.

افتتح اللّقاءَ الأستاذ رشدي الماضي بقولِهِ:

د. محمّد خليل حملَ ولمّا يزلْ يحملُ وعيَهُ النّقديُّ الرّائي والفاحص، ليسيرَ ملاّحًا ذا بوصلةٍ هاديةٍ بحثًا عن أفق الكلمات، كيف لا وهو المُفعَمُ بنبضاتِ الكلمةِ والأحاسيس الصّادقةِ الكامنةِ فيها، والمُصِرُّ أن يُصبحَ المرآةَ الشّفّافةَ التي تعكسُ ملامحَها الفكريّةَ والجماليّة بكلِّ مهنيّةٍ وأمانة، لذلكَ تظلُّ الكلمةُ أمّ قلقِهِ الدّائم حتّى يفتحَ مخازنَها المُتخمةَ بالمعرفةِ والجَمال، كي لا تبقى تلفّها حلكةٌ دامسة، بل نافذة تسربلُ حياتنا بالمتعةِ والفائدة، ومنارة ساطعة تغمرُ بنورِها كلّ فصول الإبداع، نعم، ضممتَ ولمّا تزلْ تضمُّ كلماتِ النّصوص إلى صدرِك لتتوهّجَ جذورُها، فتُطيلُ النّظرَ إليها، وتسبرُ أقبيتَها ودهاليزَها، فتكسوها بضمّةِ برْقٍ وكِسرةِ ضوءٍ، وتجعلها تقفُ أمامَك شجرةً عاريةً تقرأ خرائطَ تضاريسِها منطقةً منطقة، وهذا ليسَ بغريب عليك، فأنت النّاقدُ الواقفُ أبدًا أمامَ النّصّ لتتساءلَ وتتساءل، حتّى تستحيلَ عيناك إلى نافذتيْنِ، كلُّ دمعةٍ فيهما مِن حبرٍ وأشرعة، تبحرُ بحثًا عن ربيعِ وطنِ الحقيقة، وعن الأجوبةِ لأكبر عددٍ ممكنٍ من الأسئلةِ الّتي يُثيرُها كلُّ عملٍ إبداعيّ. د. محمّد خليل النّاقد، معكَ لن تبقى الكلمةُ إبداعًا مِن رمادٍ يبحثُ عن بعْثِهِ، بل شلاّلاً زاخرًا لا يتوقّفُ عن التّدفّق!

ثمّ قدّم د. فهد أبو خضرة مداخلةً عامّةً عن أنواعِ وأدوارِ وماهيّةِ النّقد:

تحدّثَ عن أنواع النّقدِ المنهجيّ والمتواجد لدينا بشكلٍ قليل، والنّقدِ التّأثّريَ والموجود لدينا بكثرة، وعن النّقد الصّحفيّ الأكثر والأخطر الّذي لا قيمةَ له، وتابع، لقد قد استقيْنا مناهجَنا مِن مدارسَ غربيّةٍ، وليسَ لدينا منهجٌ نقديٌّ تبنّيناهُ أو لاءمناهُ أو طوّرناهُ لأدبِنا، بل اعتمدْنا على مناهجَ غربيّةٍ ننقدُ على أساسِها كما هي وجعلناها أساسًا لنقدِنا، وأحيانًا هذهِ المناهجُ قد لا تلائمُ أدبَنا، وبالرّغم مِن ذلك نُطبّقُها ونُحلّلُها.

كما تحدّثَ عن العولمةِ وأهمّيّةِ النّقدِ ودوْرِهِ في تطويرِ الحركةِ الأدبيّةِ والإبداعيّةِ عالميًّا، وتحدّثَ عن المدارس النّقديّةِ البُنيويّةِ والأسلوبيّةِ والتّفكيكيّةِ، وتطرّقَ إلى الإبداعِ والحركةِ الحداثيّةِ ونظريّةِ التّلقّي واختيارِ نقّادنا مضامينَ المدارس، لكنّي شخصيًّا لستُ مع التّفكيكيّةِ، لأنّها لا تُناسبُنا، ونحنُ نقبَلُ تعدُّدَ التّفسيراتِ، لكن نرفضُ اعتبارَ المعنى غيرَ نهائيٍّ كما تريدُ، فالتّفكيكيّةُ يمكنُ أن تلائمَ مدرسةَ النّقدِ الجديدِ والبُنيويّة، وعلى النّقادِ اختيار ما يناسبُ أدبَنا من مدارسَ نطوّرُها مع اعتبارِ النّصّ نفسِهِ وما يحتاجُه، فالمدارسُ تضعُ النّصّ في مركزِ البحثِ لا المبدع ولا المُتلقّي وهذا جيّد.

العولمةُ وما تُشكّلُهُ مِن مخاطرَ على أدبِنا وثقافتِنا وتراثِنا نرفضُها، إلاّ إذا اخذناها بشكلٍ مدروسٍ، ويجبُ أن يكونَ الأمرُ اختياريًّا بما يُلائمُنا، وأن نعتمدَ المنهجيّةَ والنّقدَ المنهجيّ.

كما تحدّثَ عن فتراتٍ نقديّةٍ هامّةٍ في الحداثةِ الفكريّة، مثل طه حسين، العقاد، محمّد منظور وسلامة موسى، ومحاولتهم في تطوير التّوجّهِ نحوَ الفِكرِ والعقلانيّةِ والمنهجيّة والبحثِ الجادّ، وأخْذِ الملائم لأدبِنا بانفتاحٍ فكريٍّ عقلانيٍّ، ولكنّ الأمرَ انتهى بسرعةٍ، وانتقلنا إلى ما بعْدِ الحداثةِ الغربيّة والّتي أسميْناها الحداثة، على اعتبار هذا النّوع مِنَ التّجديدِ، والحداثةُ هي الأساسُ ما بعْدَ الحداثة غربيًّا، مع أنّها وصلتنا عام 1956 عندَ العرب، واستعملَها يوسف الخال في أوّلِ محاضرة.

تحدّثَ عن دوْرِ النّقدِ المنهجيِّ للمنقود، والّذي قد يكونُ قاسيًا لا يُحبُّهُ المبدعونَ إذا كانَ في غيرِ صالحِهم، وهناكَ نُقّادٌ مَحلّيّونَ جيّدونَ مثل إبراهيم طه وحسين حمزة، وهناكَ باحثون جامعيّون محليّون تعتبرُ أبحاثُهم الجامعيّة جيّدة، اذ يتناولونَ النّقدَ الثّقافيَّ الجامعيّ شاملاً ومبنيًّا على مجموعةِ مناهج، فيتناولونَ الشّكلَ والمضمونَ وكلَّ نواحي النّصّ مِن تحليلٍ وشرحٍ وتوضيح.

وفي مداخلة د. منير توما حول كتاب "نقدٌ على نقد" قال:

كان قد صدر الكتابُ عامَ 2007، تناولَ فيهِ قضايا النّقد ونقدِ النّقدِ في الأدبِ المّحلّيَ والعربيّ والعالميّ، وقد ورَدَ في الفصلِ الأوّلِ للكتاب ركيزة البحثِ في هذا الموضوع، حيث يُشكّلُ هذا الفصلُ محورَ النّقد ونقدَ النّقد بشكلٍ أساسيٍّ وجوهريّ، باعتبارِهِ مركز ثِقل الكتاب في نظرنا، ويسوقُ لنا د. محمّد خليل رأيًا لجبرا إبراهيم جبرا يقول فيه: "النقدّ عندي عمليّةُ استغوارٍ وكشفٍ، وأنا بالطّبعِ لا أستطيعُ استغوارَ ما لا غورَ له، كما لا يهمُّني أن أكشفَ أرضًا يطرقُها كلُّ غادٍ ورائح، إذن؛ فأنا بمجرّدِ إقبالي على بحثِ عملٍ أدبيّ، أقرُّ ضمنًا بإعجابي بهِ وإحساسي بقيمتِهِ".

ويبغي د. خليل مِن إيرادِ رأي جبرا هنا، إلى بيانِ أهمّيّة التّذوّق في نقدِ العملِ الأدبيّ، ومع أنّهُ لا يُقلّلُ مِن أهمّيّةِ التّذوّقِ فإنّه يقول:

"التّذوّقُ وحده لا يكفي، فقد ينخدعُ بهِ صاحبُهُ تمامًا كما ينخدعُ بالبصرِ صاحبُهُ، ناهيكَ بأنّ التّذوّقَ يختلفُ مِن مُتلقٍّ إلى آخر، فما حسُنَ في ذوقِ هذا قد يقبحُ في ذوق ذاك، فكانتْ إضافةُ المِرانِ أو ما اصطُلِحَ على تسميتِهِ بالدُّربةِ ضرورةً واجبة".

نتّفقُ مع د. خليل في هذه النّقطة، فالنّقد هو "فحصٌ حُرٌّ" كما يُعرّفُهُ كانط، أي أنّ النّقدَ غيرُ مُقيّدٍ بمذهبٍ فلسفيّ، حيثُ يمكنُ الأخذ بتعريفيْن في النّقدِ الأدبيّ:

الأوّلُ هو النّقدُ الحُرُّ القائمُ على التّذوّق، والثّاني هو النّقدُ المنهجيُّ القائمُ على مذهبٍ نقديّ، والواقعُ أنّهُ لا يوجد نقدٌ مِن دونِ أساسٍ مذهبيّ، لأنّهُ لا يوجدُ ناقدٌ لا يعكسُ ثقافةَ عصرِهِ الموروثِ منها أو المُستحدَث، أمّا في الباطن فهو أداةُ المجتمع لمراقبةِ الفِكر، والدّفاع عن القِيم العامّة، ويتميّزُ النّقدُ الأدبيّ بأنّ مادّتَهُ عمومًا الأثرُ الواحد، وأنّ منهجَهُ تطبيقيٌّ، وأنّ غايتَهُ كشْفُ معنى النّصّ، كذلكَ لا قيمةَ لأيّ تفسيرٍ لا يَنهضُ على فحصِ العملِ وتحليلِهِ، ولا يتأتّى هذا للنّاقد إلاّ إذا كانَ صاحبَ خبرةٍ واسعةٍ وثقافةٍ شاملةٍ في مجالِ التّقاليدِ الفنّيّة، ويملكُ نظرةً علميّةً ثاقبةً إلى منهج الفنّانِ وخصائصِ العملِ الّذي يقومُ بتقييمِهِ.

ويتطرّقُ د. خليل إلى دوْرِ النّاقدِ والنّقدِ الأدبيّ فيقولُ: "إنّ هذا الدّوْرَ لم يعُدْ شرحًا أو تفسيرًا ليكونَ وسيطًا بينَ المبدعِ والمُتلقّي، ولا حتّى فتحًا لمغاليقِ النّصّ الأدبيّ فحسب، إنّما هو تشكيلُ نصٍّ إبداعيٍّ جديدٍ، نصّ تتجلّى فيهِ معاييرُ وقِيمٌ ودلالاتٌ ذاتُ أبعادٍ فنّيّةٍ جماليّةٍ ولغويّةٍ، وأخرى إنسانيّة تلامسُ حياةَ الإنسانِ في الصّميمِ ومِن وجوهٍ متعدّدةٍ، فالنّقدُ فعاليّةٌ إبداعيّةٌ لا تقلُّ عن إبداعيّةِ النّصّ الأدبيّ ذاتِه، والنّاقدُ المبدعُ مثلُه مثل الأديب المبدع تمامًا، لأنّ منطلقاتِ كليهما واحدةٌ هي أبعادٌ أربعة: الإنسانُ والمكانُ والزّمان واللّغة كما يقول عبدالرحمن ياغي".

وهنا يتّضحُ لنا أنّ د. خليل قد أصابَ كبدَ الحقيقة، فنحن نعتقدُ معَهُ أيضًا أنّ عمليّةَ النّقدِ الأدبيّ هي بمثابةِ عمليّةِ إبداعٍ على إبداع، ود. طه حسين يرى أنّ العملَ الأدبيّ ذو صلةٍ بأربعةِ جوانب، هي المجتمع والأديبُ والإنسانيّةُ والنّاقد، وهو يعتمدُ على المقياسِ الأدبيّ بالدّرجةِ الأولى، وبخاصّة المقاييس المعتمدة على الذّوق، حيثُ دراسة الأدب أو الشّعر لنفسه وفي نفسِهِ مِن حيث هو ظاهرةٌ مستقلّة، ومهما حاولَ الدّارسُ أن يكونَ موضوعيًّا، إذ يَرجعُ استحسانُ النّصّ إلى ملاءمتِهِ النّفسَ والعاطفةَ والهوى.

ويرى د. محمّد مندور أنّ الأدبّ أرقُّ وأرهفُ وأغنى مِن أن نُخطّطَ لهُ طرُقَهُ، ونجني عليهِ حينَ نضعُ لهُ المعادلاتِ، ليَخلصَ النّقدُ عندَهُ إلى فنِّ دراسةِ النّصوصِ الأدبيّةِ والتّمييزِ بينَ الأساليبِ المختلفة، وهو لا يمكنُ أن يكونَ إلا موضعيًّا بالاعتمادِ على الذّوق، أي المَلكةِ النّابعةِ مِن أصالةِ الطّبعِ والنّاميةِ بالصّقلِ والمِران.

إنّ وجهةَ نظر د. مندور هذهِ الّتي لا تتناقضُ مع ما أوردَهُ د. خليل في هذا السّياق، بل إنّها تتلاقى مع دعوة المدرسةِ التّأثّريّةِ الّتي راجت في النّقد في أوروبّا في أواخرِ القرن التّاسع عشر، وظلّت حتّى حوالي عام 1940، وفي رأي كبارِ نقّاد هذه المدرسةِ، أنّهُ يجبُ أن يتوافرَ للنّاقدِ الحسُّ المُرهفُ بالجَمال، فعلى قدْرِ عُمقِ إحساسِهِ به تكونُ قوّةُ نقدِهِ، فلا قيمةَ لإلمامِهِ بالقواعدِ أو تعريفاتِ الجَمال أو الأسسِ الذّهنيّةِ العامّة، إذ القيمة كلّ القيمةِ لرهفِ المزاجِ الفنّيّ، وإذا كانَ الفنّانُ نفسُهُ هو الأشدُّ حساسيّةً تجاهَ الجَمالِ كي يُنتجَهُ ويُعبّرَ عنه، إذن لا ينقدُ النّاسَ سوى الفنّانِ، ولا ينقدُ الشّاعرَ سوى الشّاعر.

ويخلصُ د. خليل إلى القولِ في مقدّمتِهِ النّظريّةِ مَنَ الكتاب بأنّ: "النّقدُ الأدبيُّ مهمّةٌ صعبةُ المراسِ وصعبةٌ جدًّا، فهو يحتاجُ إلى عِلمٍ كثيرٍ واطّلاعٍ غزيرٍ ومِرانٍ، ناهيكَ بالموهبةِ الأصليّةِ، ولن تتأتّى تلكَ الخاصّيّةُ للنّاقدِ الأدبيّ الحقّ، إلاّ إذا جَمعَ في جعبتِهِ وتمَلّكَ ثقافةً أدبيّة، كي يتسنّى له تكوينُ ملَكةٍ خاصّةٍ نافذةٍ تُعينُهُ على القيامِ بمهمّتِهِ".

إنّ قوْلَ د. خليل بهذا الشّأنِ يُؤدّي بنا إلى الإشارةِ، بأنّهُ تجنّبًا لمخاطرِ التّأثّريّةِ في رؤيةِ النّصّ الإبداعيّ، نرى ناقدًا يهتمُّ بفهْمِ العملِ وتفسيرِهِ في إطارِ التّقاليدِ الأدبيّةِ، وهو قابلٌ للتّحقيقِ في الشّعرِ كما هو في الرّواية، وعلى هذا الأساسِ يجبُ أن نُركّزَ جُهدَنا على استخراجِ التّقاليدِ الأدبيّةِ للفنّ، وذلكَ مِن خلالِ قراءةِ العملِ الأدبيّ بهدفِ فهم وإضاءةِ جوانبِ العملِ الأدبيّ، بحيثُ لا يصحبُ النّاقدُ إلاّ نفسَهُ أي ذوقَهُ الأدبيّ بما في ذلك من معنى واسع، كما تصحبُهُ ثقافتُهُ والتّقاليدُ الأدبيّةُ، ومِن هذا المنطلق؛ فإنّ الأدبَ يحتاجُ إلى الإضاءةِ أكثرَ مِن احتياجِهِ إلى الحُكم ِالماثلِ في النّقدِ التّقنينيّ، مُفرّقًا بينَ قراءةِ العملِ للحُكم عليه وقراءتِهِ لفهْمِهِ وتفسيرِهِ، وهكذا فإنّ النّقدَ الصّحيحَ للأثرِ الأدبيِّ يَشملُ على كثيرٍ مِنَ التّعقيدِ كما ألمحَ د. خليل آنفًا، كما أنّهُ يستحيلُ أحيانًا كثيرةً، إذا لم يكنْ لدى النّاقدِ قدرةً على الولوج إلى الحالاتِ النّفسيّةِ والفنّيّةِ الّتي خلص إليها الشّاعرُ أو الأديبُ في جهدِهِ للتّعبيرِ عن المشاعرِ المظلمة الّتي تعتملُ في أعماقِ وجدانِهِ، ولهذا ينبغي أن يدركَ النّاقدُ أبدًا، أنّ الشّاعرَ أو الأديبَ لا يُفسّرُ تجربتَهُ تفسيرًا، لأنّ التّفسيرَ يُحيلُها إلى أجزاءَ وقطعٍ نثريّةٍ يُفقدُها الحرارةَ والأشعّةَ الشّعوريّة.

وفي حديثِ د. خليل عن النّقدِ الأدبيّ العربيّ، فإنّهُ لا يتّفقُ تمامًا معَ الشّاعرةِ العراقيّة نازك الملائكة بشأن التّأثّر بالنّظريّاتِ النّقديّةِ الغربيّة الوافدة، فهو يعتقدُ بأنّها قد جانبت الصّوابَ بتأكيدِها أنّ النّقدَ الأدبيّ الّذي يَصلحُ لشعرِنا العربيّ، يختلفُ عن النّقدِ الأوروبيّ، فإنّ د. خليل يرى أنّهُ لا ضررَ مِن هذهِ النّظريّاتِ الغربيّةِ، فهذا أمرٌ مرغوبٌ فيهِ ومطلوبٌ إذا أحْسَنّا كيفيّةَ التّعاملِ معها، لا سيّما وقد أصبحَ العالمُ أشبهُ ما يكونُ بقريةٍ كونيّةٍ صغيرة، وليسَ مِنَ الحكمة أن يفرضَ الإنسانُ على نفسِهِ وبإرادتِهِ عزلةً قسريّةً لا طائلَ تحتّها في عصرِ العولمة، لذلك ليسَ مِنَ المبالغةِ القول: "لاعزلةَ عن العالم بعدَ اليوم".

وبهذا نرى بأن د. خليل قد كان صائبًا في مخالفتِهِ لرأي نازك الملائكة في هذا الصّدد، ففي النّقدِ يجبُ أن تتوفّرَ نظرةٌ عميقةٌ للأمر مِن حيث كوْن صلة الكاتب أو النّاقد هي صلةٌ بالتّراثِ الأدبيّ الإنسانيّ، وبضرورة إفادةِ الكاتبِ أو النّاقد منهُ في أصالة، وهذهِ قاعدةٌ هامّةٌ تمَسُّ جوهرَ الدّراساتِ المقارنةِ انطلاقًا مِن مبدأ المعاييرِ الأدبيّةِ العالميّة، والتّواصلِ بينَ الأفكارِ والمواضيعِ الإنسانيّةِ الشّاملة، علاوةً على الاستفادةِ مِنَ المصطلحِ النّقديّ الغربيّ وتطبيقِهِ في عمليّةِ نقدِ الأعمالِ الأدبيّةِ والشّعريّةِ العربيّة، ممّا يُثري عمليّةَ التّقييم ويمنحُها تقنيّةً فنّيّةً مستحدَثةً، تعودُ بالفائدةِ والنّفع على كلِّ الآدابِ القوميّة لدى الشّعوب المختلفة، وتصبغُها بصبغةٍ إنسانيّةٍ كونيّة.
ويُشير د. خليل إلى ظاهرةِ النّقّاد الجُدد في الغرب، تحديدًا الّذين "يرَوْنَ أنّ الأثرَ الأدبيّ أو النّصّ بذاتِهِ يجبُ أن يكونَ بؤرةَ الاهتمام ولا شيء سواه"، ويُنوّهُ إلى مقولةِ النّاقدِ الفرنسيّ رولان بارت "بموت المؤلّف"، وخروجِهِ مِن نصِّهِ بمجرّدِ فراغِهِ مِن تأليفِهِ، وبذلك ينتهي دورُ المؤلّف حتّى لو بقيَ المعنى في بطنِهِ، حيثُ يُؤكّدُ ميشيل فوكو المبدأ قائلا: "مِنَ العبثِ أن ننكرَ وجودَ الكاتب أو المبدع".

وهنا يتّفقُ د. خليل مع هذا المبدأ باعتقادِهِ أنّ "المؤلّفَ هو صاحبُ الفضلِ الأوّل في أثرِهِ الأدبيّ لأنّهُ مُبدِعَهُ، وقد أودعَهُ مِن عصارةِ قلبِهِ وخلاصةِ فكرِهِ، لذلك مِنَ المفيدِ إلقاءِ نظرة أو التفاتة إليه، لأنّ معرفةَ القصديّة تتطلّبُ معرفةَ المؤلّف".

ويبدو في هذه المقولةِ الوسطيّةِ أو الاعتدال في إبداءِ الرّأي بشأن النّصّ والمؤلّف، حيثُ يستطردُ ويُضيف: "يجبُ أن لا يكونَ إعلاءُ شأن المؤلّف إلى مصاف عليا على حساب النّاقد الأدبيّ، فهو بالتّالي المبدعُ الحقيقيّ في جلاء مكنوناتِ النّصّ، وهو صاحبُ الشّأن الأوّل والأخير في تلك العمليّة الإجرائيّة، ولا نقد أدبيّ مِن دون ناقد".

ونحنُ نتّفقُ مع رأي د. خليل هذا، مع الميل أكثر إلى رأي النّاقدِ الغذاميّ برفضِهِ لسلطةِ المؤلّف، لِما فيها مِن تعطيلٍ لدوْرِ النّصّ ولفعل القارئ، حيث يورد د. خليل قولَ الغذاميّ، "بأنّ المعنى أوّلاً وآخِرًا هو شيءٌ في النّصّ بإمكانيّاتٍ دلاليّةٍ تنطوي عليها عناصرُ النّصّ الإدبيّ وتتحفّزُ بها، وهو أيضًا شيءٌ مِن فِعل القارئ يُدركُهُ ويلتقطُهُ مِن داخلِ نسيج النّصّ، وليسَ مِن داخلِ بطنِ الشّاعر".

ومِن المناسبِ في هذا السّياقِ أن نذكر، أنّ ت. س. إليوت كان قد سبق وتناولَ بالبحث هذا الأمرَ بشأنِ أولويّةِ النّصّ أو المؤلّف في عالم النّقدِ الأدبيّ، فكتبَ مؤكِّدًا استقلالَ الأدب عن حياةِ كاتبِهِ نفسِهِ، واسترسلَ قائلاً: "إنّنا لو عرفنا عن حياة شكسبير ما تتّسعُ له مكتبةٌ بأكملِها، لَما ساعدَنا ذلكَ على فهْمِ شعرِهِ وإدراكِ قيمتِهِ، مثلما يساعدُنا على هذا الفهم دراسةُ أسلوبِهِ الفنّيّ وعقلِهِ الخالق، وعندما نقرأ قصيدةً أو قصّة، ننسى كلّ ما هو خارجٌ عنها، أفلا ننسى أيضًا الشّاعرَ أو الكاتبَ الّذي كَتبَها؟ فتصبحُ هي الحقيقة الوحيدة الكائنة الّتي تتضاءلُ إلى جانبها جميعُ الحقائق الأخرى، حتى الأخرى، حتّى حقيقةُ الكاتب الّذي كتبها، فالعملُ الأدبيّ لا يمكنُ أن يكونَ إلاّ صورةً لنفسِهِ فقط، بمعنى أنّهُ لا يمكنُ أن يُزوّدَنا بشيءٍ خارجٍ عن نطاقِ ذاتِه".

رأيُ إليوت في إعلاءِ شأن النّصّ يتماشى تمامًا مع مفهوم النّقد التّفكيكيّ، وهو منهجٌ في نقدِ النّصوصِ الأدبيّة خاصّة، يقومُ على فكرة استحالةِ أن يقدّمَ النّصُّ معنًى ثابتًا مستقرًّا، وأنّ على القارئ أن يُخلّفَ وراءَهُ كلَّ المفاهيم الفلسفيّةِ إلخ..، حينَ يحاولُ فهْمَ نصٍّ معيّنٍ، وهذا المنهجُ في النّقدِ هو الأقربُ والأصلحُ في قناعاتِنا الأدبيّة، مع أن هناك الكثيرين ممّن يتحفّظونَ مِنَ التّعاطي المُطْلق مع هذا المنهج في نقدِ النّصوص الأدبيّة.

وبمتابعةِ د. خليل في تناولِهِ لنقد النّقد يَذكر، بأنّ "ثمّةَ مَن كتبَ في النّقد الأدبيّ المّحلّيّ وليسَ له شانٌ فيه، لأنّهُ لا يملكُ مِن وسائلِهِ أو أدواتِهِ شيئًا، ومنهم مَن كَتبَ فيهِ دونَ أن يفهمَ ظاهرَ النّصّ وتفسيرِهِ كما يجب، فكيفَ لهُ أن يفهمَ باطنَ النّصّ أو تأويلِه"؟

ولا يستبعدُ د. خليل "أن يكونَ أحدُ أسبابِ عدم تطوّر النّقدِ الأدبيّ المَحلّيَ بالشّكل المطلوب، وما يعتريهِ مِن أزمةٍ حقيقيّةٍ تُعيقُ تطوّرَهُ، هو غيابُ نقد النّقد".

ونعتقدُ هنا أنّهُ مصيبٌ في أقوالِهِ وآرائِهِ هذه، حيث أنّ العديدَ ممّن مارسوا ما اعتقدوهُ بأنّهُ نقدٌ أدبيّ، هم أبعدُ ما يكونون عن إتقانِ فنّ ومهارةِ النّقدِ الأدبيّ بمعناهُ الصّحيح ومعاييرِهِ الموضوعيّةِ التّحليليّة، وذلك نابعٌ مِن فقدان البعض منهم لثقافةِ المصطلح النّقديّ وجهْلِهم لتقنيّاتِ الحدس التّعبيريّ، باعتقادِهم أنّ عمليّةَ النّقد الأدبيّ هي مجرّدُ استعراضٍ للعمل الأدبيّ، دونَ الخوض بالنّاحيةِ الابتكاريّةِ التّحليليّة ذاتِ المعاييرِ الجماليّةِ للشّكل والمضمون، بالإضافة إلى عدم إتقان البعض ممّن يتعاطونَ النّقد لغةً أجنبيّةً كالإنجليزيّةِ أو الفرنسيّة، تتيحُ لهم الاطّلاع على المستجدّاتِ في عالم الأدب والنقدِ والمصطلحاتِ اللاّزمةِ لفهْم الأسس الذّهنيّة العامّة للآداب العالميّة، وتواصلها الإنسانيّ مع الآداب القوميّة للشّعوب، رغمَ أنّ ثمّة مَن يزعمُ بأنّ الأعمالَ الأدبيّة المترجَمة، قد تُغني عن القراءةِ بلغةٍ أجنبيّةٍ، وقد يكون هذا التّبريرُ صحيحًا بشكلٍ جزئيّ، إلاّ أنّه لا يفي بالغرض المطلوب بشكلٍ كافٍ، ويبقى منقوصًا في جوانبَ معيّنة.

إنّ هنالكَ العديدَ ممّن يتعاطون نقدَ الأدب المحلّيّ في بلادنا، لا يتقنون بل يجهلونَ في كثيرٍ مِن الأحيان التّكويناتِ أو التّقسيماتِ الاصطلاحيّة النّقديّة المختلفة، كمناهج النّقد التّكوينيّ، والنّقد التّحليليّ النّفسيّ، والنّقد الموضوعاتيّ، والنّقد الاجتماعيّ والنّقد النّصّيّ، ممّا يعكسُ ظاهرةً سلبيّةً غيرَ صحّيّةٍ لدى متعاطي النّقدِ وأهمّيّتِهِ بالنّسبة للإبداع، فالإبداعُ نفسُهُ لا يتحقّقُ وجودُهُ وفاعليّتُهُ إلاّ بمشاركةِ النّقدِ القويم، وهذا يعني أنّ الدّائرةَ الإبداعيّةَ لا تكتملُ إلاّ بالأدبِ والنّقد، أو لِنقلْ بالمؤلّفِ والقارئ، وهنا تبرزُ قضيّةَ "التّقويم في النّقد"، ونعني بالتقويم في خلاصتِهِ- إصدارَ النّاقد حكمًا محدّدًا على العمل الأدبيّ، ولا يعني هذا أنّ جهدَ النّاقد أن يوزّعَ أحكامًا بالقيمة، فيذكر أنّ هذا عملٌ ممتاز وذاكَ جيّدٌ أو دونَ المتوسّط، إلخ..، أو يصفُ عملاً بأنّهُ روحيٌّ وآخرُ مادّيٌّ، أو بأنّهُ أخلاقيٌّ أو ضدّ الأخلاق، أو يدعوهُ إلى الحرّيّةِ أو أنّه يُدافعُ عن الاستبداد، إلخ..، فلو كانَ هذا مِنَ النّقد لَما كانَ النّقّادُ المؤثّرون بهذه النّدرة، وما كانتْ ثقافةُ النّاقد ودُربتُهُ على الممارسةِ التطبيقيّةِ تحتاجُ جهدًا ومكابدةً.

إنّ إصدارَ حكم القيمة لا ينفصل عن "خطواتٍ" منهجيّةٍ يقطعُها البحثُ النقدي لكي يصل إليه، وهذه الخطواتُ تهدفُ إلى تحليلِ النّصّ، فالتّحليلُ لا بدّ أن يسبقَ التّقويمَ الّذي هو حكمٌ بالقيمة، وينبغي أن نعترفَ بأنّ التقويمَ في النّقد، أو النّقد الّذي ينتهي بإصدارِ حكم، يعطي الأهمّيّة لموضوعِ العمل الابداعيّ أكثرَ ممّا يهتمُّ بالشّكل، ولكنّهُ لا يغفلُ الشّكلَ، لأنّ الموضوعَ في أيّ عملٍ إبداعيٍّ؛ (قصيدةً أو قصّةً أو روايةً أو مسرحيّة)، لا يقومُ بنفسِهِ، وإنّما هو ماثلٌ عبْرَ مراحلِ تشكيلِ (تركيبِ وبناءِ) التّجربةِ، وهذا التّشكيلُ بدوْرِهِ بمثابةِ تقويمٍ للتّجربةِ، فالنّقدُ في هذه الحالة تقويمٌ للتقويم.

وفي ختام حديث د. خليل عن موضوع نقد النّقد يقول، بأنّ "الأدبَ والنّقدَ الأدبيّ قد ركّزَ على المضمون أكثرَ بكثيرٍ مِن التّركيزِ على الشّكلِ والجوانبِ الفنّيّةِ الأخرى، وهيَ سمةٌ غالبةٌ وبارزةٌ للعيان تكادُ تلازمُ معظمَ الكتاباتِ في النّقدِ الأدبيّ المَحلّيَ".

ونحنُ نلتقي مع د. خليل في تأكيدِهِ بأنّ "المضمونَ وحدَهُ لا يَخلقُ أدبًا رفيعًا، والفنّانُ المبدعُ هو القادرُ على الجمْع بينَ المضمون والشّكل"، وعندَ هذه المعاني لا بدَّ لنا أن نؤكّدَ انتصارَنا للشّكلِ والمضمونِ معًا في مجالِ النّقدِ الأدبيّ، حيثُ أنّه في اعتقادِنا يعودُ اهتمامُ وتركيزُ النّقدِ الأدبيّ المَحلّيَ على المضمون أكثرَ مِن الشّكل، إلى الصّعوبةِ الفنّيّة عندَ الكثير مِنَ النّقادِ بتحليلِ العمل الأدبيّ وبُنيتِهِ مِن وجهةِ النّظر الجماليّة، نظرًا لكوْن كلّ عملٍ أدبيّ نتاجًا فكريًّا تسيطرُ عليهِ قوانينُهُ الخاصّة به، الّتي يستعصي على بعضِ النّقّاد التّعامل والتّفاعل معها، لافتقادِهم المعرفة بالأهدافِ الفنّيّةِ للأدب، ولهذا؛ فإنّهُ مِن الأسهلِ لهم أن ينتصرَ التّعبيرُ عن المضمونِ على الشّكل، وبالمقابل، ينبغي أن نعرفَ أن النّقدَ الشّكليَّ أو الشّكلانيّ الجَماليّ، وبخاصّةٍ الألسنيّ والبُنيويّ والأسلوبيّ، يتجنّبُ ويرفضُ إصدارَ أحكام القيمة، لأنّهُ يحصرُ اهتمامَهُ في النّصّ وحدَهُ، فيُجرّدُهُ مِن صاحبِهِ تحتَ مقولةِ "موت المؤلف"، ويُجرّدُهُ مِن ظروفِهِ، فلا ينشغلُ بالدّوافع ولا يتوسّعُ إلى أعمالٍ أخرى لهذا المؤلّف، لأنّ عملَ النّقد ينبغي أن ينحصرَ في اللّغةِ دونَ غيرِها، فهذهِ اللّغةُ تمثّلُ الحدودَ والضّفافَ وتنطوي على جميع العناصر، وباستطاعتِها أن تُعطيَ النّقدَ كلَّ ما يبحثُ عنهُ مِن أمورٍ أدبيّة.

وهكذا نكون قد تناولنا بالدّراسة وركّزنا عى الجوانب الأكثر أهمّيّةً وإضاءةً في كتاب د. محمد خليل "نقدٌ على نقد"، نتمنّى له موفورَ الصّحّة ودوام التّوفيق والعطاءِ في عالم الأدب والمعرفة.

وكانت المداخلة التّالية للشّاعر فهيم أبو ركن:

بداية، ننوّهُ أنّنا بحاجة للوصولِ بالنّقد إلى القرّاء العاديّين، ولكي نصلَ بالنّقدِ إلى القرّاء يجبُ أن نبدعَ في النّقد، ولكي نبدعَ في النقدِ يجبُ أن نفهمَ الإبداع.

فالحركةُ الأدبيّةُ العربيّة عامّةً والمَحلّيّةُ خاصّةً تعاني مِن نقصٍ في العمليّةِ النّقديّةِ الجادّة، ففي حين تزخر المنابرُ الأدبيّةُ في المواقع، والمنتدياتُ وبعض الصّحف بالنّتاج الشّعريّ والنّثريّ الغزير، فإنّها تفتقرُ إلى الدّراساتِ التّحليليّة، ونادرًا ما نجدُ مقالاً نقديًّا هنا، أو حتّى استعراضًا هناك، ولكنّنا نجدُ فيضانًا مِن المجاملات في التعقيب على المنشور في المنتديات، وهي عادةً تكونُ ردُّ جميلٍ، من باب (اُكتبْ لي أكتبُ لك!).

ولكي لا نقعَ تحتَ طائلةِ التّعميم نقول، بأنّنا أحيانًا نقرأ مقالاتٍ ودراساتٍ تحليليّة، ورغمَ أهمّيّتَها إلاّ أنّ بعضَها يكونُ جافًّا، وتبقى قليلة لا تستطيعُ أن تغطّي أو تواكبَ جميعَ الإصداراتِ مِن ناحيةِ الكمّ. وإنْ تطرّقنا إلى النّقد في كمِّهِ، فلا مجالَ في هذا المقام للغوصِ في جميع قضايا النّقدِ الكيفيّةِ ومصداقيّتِهِ وجرأتِهِ في تحليلِ النّصوصِ المختلفة.

وإذا كانَ الحالُ كذلك مع النّقد، فكيف سيكونُ مع عمليّةِ نقدِ النّقد نادرةِ الوجود؟ مِن هنا نقفُ على أهمّيّةِ هذا الكتاب الذي أتحفنا به الدكتور محمد خليل، والذي اعترفَ في مقدّمتِهِ أنّهُ يتناول بعضَ النّماذج النّقديّةِ المَحلّيّة الّتي استطاعَ الوصولَ إليها، ولا يدّعي أنّه يتناولُ جميعَ النّماذج.

لقد قسّم المؤلّفُ الكتابَ إلى أربعةِ فصول؛

الأول: في النّقد ونقد النّقد/ الثّاني: النّقد والأدب المحلّيّ/ الثالث: نقد على نقد (في الأدب المَحلّيّ)/ والفصل الرّابع نقد على نقد (في الأدب العربي والعالمي)، وتضمَّنَ كلّ فصلٍ عدّةَ أبوابٍ لا يمكنُ التطرّق إلى جميعها بالتّحليل والتفصيل في هذه العجالة، لأنّها تتناول قضايا الأدب والنّقدِ العربيّ والعالميّ والمَحلّيّ، وعلاقة هذا بذاك، وتأثير الأوّل على الثّاني أو بالعكس، وتاريخ وتطوّر المدارس، وآراء النّقاد في مختلف القضايا، لذلك سأركّزُ حديثي حولَ نقطةٍ واحدة، وهي جرأةُ الكاتب في نقدِ أو مدحِ زملائِهِ في المكان المناسب، حولَ بعض القضايا والنّظريّاتِ أو الأفكار الّتي ورَدَتْ في دراساتِهم، واستشهد بها في فصول وأبواب الكتاب.

فمثلا استحسنتُ جرأةَ المؤلّف في الاعتراض على بعض الأساتذةِ والنّقّاد في عدّة قضايا، واستحسنتُ أكثرَ جرأتَهُ في موافقتِهم أحيانًا على بعض الأفكارِ المطروحةِ في المقالاتِ الّتي تناولَها البحث.

مِنَ الاعتراضات الّتي وردتْ على سبيل المثال لا الحصر، أصابَ المؤلّفُ حين اعترضَ على الدّكتور (البروفيسور) جورج قنازع، لاعتقادِهِ أنّ قنازع في تحليلِهِ لرواية "مذكّرات دجاجة" للدّكتور إسحق موسى الحسيني، اعتمدَ في تحليلِهِ على رأي مؤلّف النّصّ نفسِهِ، إذ يقول ص 90:

"لكنّه مِن الواضح أنّه قد اتّخذ من أقوالِ المؤلف متكأ"، ويعلّلُ اعتراضَهُ ذلك بقوله في نفس الصّفحة – وأنا أوافقُهُ الرّأي في ذلك: "تفسير كاتب ما لإنتاجهِ الأدبيّ لا يجبُ أن يُعتبرَ بالضّرورةِ القولَ الفصْلَ في تحليل أيّ إنتاج وفهمِهِ، إذ كثيرًا ما يهتدي النّقّاد إلى آراءٍ وتفسيراتٍ لم تكن قد خطرتْ للكاتب على بال، ...لأنّ الأديبَ مهما كتب، فليسَ في وُسعِهِ أن ينقدَ ما كَتب".

كذلك ناقشَ د. خليل بروفيسور قنازع في أسلوب دراسة الرّواية متسائلاً صفحة 96:

"هل يحقّ للقارئ أو النّاقد الأدبيّ أن يقرأ نصًّا ما، أو يدرسُهُ بمعزلٍ عن سياقاتِهِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ، حتى السّياسيّة كما فعل الدكتور قنازع"، ثمّ يقرّرُ في نفس الصّفحةِ قائلا:

"إنّ قراءةَ نصٍّ ما لا يمكن أن تستقيم دون فحْصِ تلك الشروط! وعليه فمعرفةُ السّياق إذًا شرطٌ في تلقّي النّصّ تلقّيًا صحيحًا".

هذا بالنّسبةِ للاعتراض، وأعترفُ أنّني لم أقرأ دراسةَ الدّكتور قنازع لأوافقَ أو اعترضَ على مضمون رأي د. خليل بهذا الخصوص، ولكنّي أسمحُ لنفسي أن أضعَ ملاحظةً حولَ تعميمِ د. خليل في هذا الرّأي، وعدم تعريف أو تحديدِ القراءة المقصودة، وأتساءلُ:

إذا كانَ ما رمى إليهِ صحيحًا في حالتِنا هذه، وفي مقامِنا هذا في تحليلِ هذه الرّواية، فهل ثمّة بعض التّعميم في ما تذهب إليه هذه النّظريّة؟ إذ أنّنا في مجال تخصّصِ الدّراسات، والّتي تتناولُ أحيانًا سياقًا واحدًا في تحليلِها للنّصّ، فهل تحليلُنا لقصيدةٍ ما مِن خلال دراسةٍ خاصّةٍ مِن ناحيةِ الوزن والبحور مثلاً، تفرضُ علينا الاهتمامَ بالسّياق السّياسيّ؟ أو إذا أردنا دراسة السّرقات الشّعريّة، كما فعل د. فهد أبو خضرة مثلاً، هل يفرضُ علينا دراسة السّياق البنيويّ للأبياتِ المسروقة؟

أنا أرى الدّقّة في تعريفِ وتحديدِ نوع القراءة أمرًا هامًّا جدّا. ومثالا للدّقّة في استعمال المصطلحات أسوقُ نموذجًا واحدًا بسيطًا، لكنّهُ يُشيرُ إلى هذه الأهمّيّة، فقد جاءَ في كتاب "شرح كافية ابن الحاجب" لبدر الدّين بن جماعة تحقيق د. محمّد محمّد داود صفحة 57:

(قالَ الشّيخ الإمام العالم أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله: "الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد").

لأوّلِ وهلةٍ تظهرُ الجملة صحيحةً، ولكن جاءَ التّصحيحُ مِن المؤلّف المُحقّق بأنّ حقّهُ أن يقول: "الكلمةُ اصطلاحًا..."، لأنّ الكلمة قد تكون لغةَ للكلام والجُمل، كقولِهِ تعالى: تعالَوْا إلى كلمةٍ سَواءٍ بينَنًا وبينَكم ... وكقول الرّسول: "خيرُ كلمةٍ قالها لبيد: "ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل".

هكذا في النقد، لكلّ كلمةٍ معنًى ودلالة يجب الالتفات إليهما.

وما استحسنتُهُ أيضًا جرأته على موافقةِ الكتاب أحيانًا في بعض الأفكار المطروحة في المقالات التي تناولها البحث، فإنّ د. خليل لا يبخلُ على كاتب المقالةِ بالمديح حين يجدُ ما يستدعي ذلك، ومِن ذلك قولُهُ صفحة 93: "حسنًا فعلَ الدكتور قنازع في هذا الاتجاه...".

وقد تعرّض إلى المقالات الّتي تنشر عن بعض الأعمال الأدبيّة بجرأة ومباشرة، فقال مثلا صفحة 130: "وكتب الشّاعرُ شفيق حبيب مقالةً مقتضبة عن رواية "المشوّهون"، أبعدُ ما تكون عن النّقد الأدبيّ، وأقربُ ما تكون إلى العتاب، فقد وقعَ في الخطأ إيّاه كما فعل غيره... الخ".

ممّا يعطينا صورةً عمّا كان سائدًا في المقالات الّتي قالوا عنها "نقديّة"!

ويتطرّقُ الكاتب د. خليل إلى بعض الكلام الإنشائيّ وليس العلميّ، الذي يسيطرُ على العديدِ مِن الأعمال النقديّة والأمثلة كثيرة. (136).

في الحقيقةِ تمتعت جدا في قراءة هذا الكتاب، وأعتقد أنّني أستطيعُ أن أكتب عنه كتابًا آخر، لذلك أكتفي بهذه النقاط، آملاً أن أكون قد أضأتُ زاويةً ولو صغيرة عنه، مع علمي بوجوب بحثِهِ بحثًا أعمق، فهو يستحقُّ ذلك، ومؤلّفُهُ يستحقّ كلّ الثّناء والتّقدير.

وكانت المداخلة الأخيرة للمحتفى به مؤلّف كتاب "نقدٌ على نقد" د. محمّد خليل:

بداية، اسمحوا لي أن أنتهز هذه الفرصةَ لأسجلَ جزيلَ الشّكرِ وخالصَ المودّة وفائقَ الاحترام للأخوة القائمين على هذا المنتدى الثّقافيّ الرّفيع وللمشاركين فيه، وفي لقاء اليوم، على حدّ سواء. إنّه لأمرٌ جميل جدًا أن نلتقيَ هنا لمناقشة كتاب، على الرّغم من كلّ ما يواجهنا من هموم الحياة ومشاغلها وتبعاتها، ثمّ أقول:
أعلمُ مسبقًا أنّني في حضرة كوكبةٍ من الأدباء والشّعراء والكتّاب والنّقّاد والمهتمّين، وأعلم أيضًا أنّهم من المستمعين الخطيرين من الدّرجة الأولى، الأمر الّذي يزيدُني رهبة ورغبة في الوقت نفسه. الرّهبةُ رهبةُ الموقف، وأمّا الرّغبةُ، ففي الطّموح إلى المزيد من الإبداع ومن التّربية للإبداع، لأنّ الإبداع يظلُّ المقياسَ الحقيقيَ لكلّ عمل فنّيّ. إنّ السّمةَ الأساسيّةَ الّتي لازمت مفهوم الإبداع، بأنّه يتضمّنُ أو يجب أن يتضمنَ عناصرَ تخييليةً قادرة على تحويل انتباه القارئ عن كلّ ما هو يوميّ مبتذل، إلى كلّ ما هو مثيرٌ ومدهش وجديد ومجاوز للواقع المألوف.

لذا، ظلّت وسيلة المبدع فيما يخصّ الخطابَ الأدبيّ، وستبقى على الدّوام هي الإيهامُ بواقعيّةِ الحدَث بواسطة التّمثيلِ أو التّأثيرِ بسحرِ اللّغة، وما تحملُهُ في أعطافِها مِن الدّلالاتِ وإمكاناتها، وذلك عن طريق التّصوير والرّمزِ والأسطورة وما شابه.

غيرَ أنّهُ في منظور بعضهم، يمكن أن يُعدَّ الناقدُ الأدبيُّ أكثرَ إبداعًا من الأديب نفسِه. ويُسوّغون ذلك بقولهم: صحيحٌ أنّ الأديب؛ شاعرًا كان أم كاتبًا، يهندسُ النّصّ ويَبنيه، لكنَّ النّاقد حين (يعالجه) تفكيكًا أو تشريحًا، فإنّه مُطالَبٌ بإعادة تركيبِهِ أو بنائِهِ مِن جديد وِفقَ تصوّرِه هو. فالنّقدُ ممارسةٌ وإنتاج.

من هنا، يمكن القول: إنّهُ مِن الضّروريّ أن يكونَ النّقدُ وصفيًّا لا معياريًّا، بمعنى أن يكون النّصُّ النّقديُّ الذي يُنسج أو يُشيّدُ، أقربَ ما يكونُ إلى النّصّ الأدبيّ وشبيهًا به لكلّ شيء، على أن تلك الإشكاليّة تبقى قضيةً خلافيّة.

لن أتحدّث هنا عن كتابي (نقد على نقد) موضوعِ اللّقاء، وذلك محاذرةَ الوقوعِ في بعض منزلقاتِ النّقد الأدبيّ، ومنها شهادتي بحقّ نفسي الّتي سوف تكون بكلّ تأكيدٍ مجروحةً، وعليه فإنّ الكلامَ فيه، والحكمَ له أو عليه، متروكٌ للآخرين من الدّارسين والباحثين وكلِّ المهتمّين بالأدب والنّقد.

لكن، ما أودُّ أن أقوله ولا فخر: إنّه الكتاب الأوّل لدينا في نوعه، في ما تناهى إليه علمنا، هو كتاب غيرُ مسبوق في بابه، ومن هنا تكمن أهميّتُه الأولى. وفي الوقت نفسه، كنت وما زلت أتطلّعُ إلى أن تفتح تجربتي هذه البابَ في وجه المزيدِ مِنَ التّجاربِ الأخرى، بغية استكمالِ هذا المشروع والتّوسّعِ فيه، في سبيل الوصول بنقدنا الأدبيّ إلى مراتبَ أرقى. علمًا بأن محاولتي تلك لم ترُق للأسف في أعين بعضهم، وذلك من منطلق أن نقدَهُ أو ما يكتبه لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه! ولهذا السّبب فهو في منظوره يقع خارجَ دائرة النّقد.

تُرى هل ثمّة نقدٌ أو أيّةُ كتابة أخرى فوق النّقد؟ إنّ النّقد الأدبيّ ونقدَ النّقد وكلَّ نتاج إبداعيّ آخر يجب أن تتوافر له مطلقُ الحرّيّة. الإبداعُ لا يخضعُ لأيّ قيد أو شرط، ولا يمكنه أن ينشأ أو يتطوّر إلاّ في ظلّ أجواء من الحرّيّة المطلقة. إذًا لا بد من وضع النّقد الأدبيّ موضعَ النّقد والمساءلة إذا أردنا له أن يكون نقدًا أدبيًّا خاصًّا ومتميّزًا. مهما يكن، فإنّ كلَّ الرّوايات العظيمة لا يكتبها أناس خائفون كما يعلن ذلك جورج أوريل. ومن الطّبيعي أن ينطبق ذلك القولُ على كلّ كتابةٍ أخرى عظيمة.

(2)

لم يعد دور النقد الأدبيّ أو النّاقدِ شرحًا أو تفسيرًا، ولا حتى فتحًا لمغاليق النّصّ الأدبيّ ومكنوناتِهِ فحسب، بل هو أيضًا تشكيلُ نصّ إبداعيّ جديد لكلّ شيء، تتجلّى فيه رؤية وقيمٌ ومعاييرُ ودلالاتٌ ذاتُ أبعادٍ فنّيّة وأخرى إنسانيّة، تلامس حياة الإنسان من وجوه متعدّدة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، العلومَ الإداريّة، والعلومَ الإنسانيّة والاجتماعيّة، والعلومَ التربويّة.

يقولُ النّاقد شكري الماضي بأنّ "وظيفة النّقد الأدبيّ لا تعني البحثَ عن الجودة والرّداءة أو الحسناتِ والعيوبِ (فهذه مهمّة قديمة) بل تعني الفهمَ، فهمَ نظامِ النّصّ وتفاعلاتِه الذّاتيّةَ والموضوعيّةَ، وفهمَ الإنسان المبدع للأدب والمتلقّي له أيضًا وعلاقتَهما المعقّدة بالعالم المعيش"!

(شكري عزيز الماضي: غالب هلسا.. وتطوّر النّسق الرّوائي، وعي الكتابة والحياة، قراءات في أعمال غالب هلسا، ص95، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، 2004).

لقد أصبحَ من الضّروريّ عدمُ الاكتفاء بمتن النّصّ، لهذا السّبب يُفترض الالتفات إلى كلّ ما له صلة بالنّصّ أثناءَ تطبيقِ الإجراءات النقديّة، لنتمكّنَ من تحقيق قراءةٍ أنموذجيّة، كما يكتب أحدهم ويقول:

"لا يقتصرُ الفضاء التّشكيليّ للنّصّ الأدبيّ على (المتن الرّسميّ) له بوصفه آلةَ المواجهةِ المركزيةِ مع نشاط القراءة، بل يتّسعُ ويمتدّ ليشملَ كلَّ ما يحيط بالمتن من هوامشَ وعتباتٍ ومصاحباتٍ وإلحاقاتٍ وإحالاتٍ، لما تنطوي عليه من خطورة في عمليّة القراءة، فهي مكملةٌ وموجِّهةٌ لفعاليات المتن". (محمد صابرعبيد: شيفرة أدونيس الشعرية، سيمياء الدال ولعبة المعنى، ص27، الجزائر و بيروت، 2009).

ويضيفُ آخرُ في السّياق ذاته داعيًا إلى ضرورة الاهتمام بكلّ ما يتعلّق بالنّصّ:
"من توطئة وفذلكة ومقدمة ومدخل وتنبيه وكذلك الإهداءِ والشّكرِ والتّذييلِ، إلخ. وغايةُ كلِّ هذه النّصوصِ الجانبيّةِ هي توجيهُ القارئ وإرشادُ خطاه إلى كيفيّة قراءة النّصّ". (حسن مصطفى سحلول: نظريات القراءة والتأويل الأدبي وقضاياها، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ص66، دمشق، 2001).

ما يقوله النّصّ ليس شيئًا مهمًّا في الأغلب، لكنَّ الأهمَّ ما يتركُه في المتلقّي من أثر وما يثيره فيه من أسئلة ونقاش، فالسّؤالُ مِفتاحُ المعرفة، ومن صلب النّقاش يولد النّور، كما يقول أرسطو.
من هنا، قد نجد أنفسنا في مواجهة خطيرة مع فعاليّة القراءة الحرّة، باعتبارها سلطةً أوّليّةً على النّصّ، علمًا أنّ النّصّ هو السّلطة الحقيقيّة، كما يعلن ذلك جاك دريدا قائلاً: لا وجود لشيء خارجَ النّصّ! الأمر الذي أدّى إلى اختلاف القراءات وتعدّدها، فكلّ قارئ وقراءتُه. لذا نستطيع القول: من سمات النّصّ النّاجح أنّه لا يُقفل على قراءة واحدة ووحيدة. وهذا ما يفسر مقولة جاك دريدا: في البدء كان الاختلاف(جاك دريدا: الكتابة والاختلاف، ص31، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال، الدار البيضاء، 1988).

(3)

في المقابل لا نستطيع أن نتجاهل ما قد يتعرّض له النّصّ من مشاكلَ معقّدةٍ تأتي من جرأة القرّاء على النّصوص. فكيف نحمي النّصّ، لاسيّما من أولئك الذين لا يكونون مؤهّلين لأداء هذا الدّور؟ الشّيفرة والسّياق هما أفضل حماية للنّصّ الأدبيّ من التّشويه والضّرر، طبعًا إلى جانب مرجعيتي النّاقد المؤهّل: الثّقافيّة والمهنيّة.

الكلام السّابق يقودنا إلى تساؤل مقلق، يبرز أمامنا من حين لآخر، لكنّه مشروع وحيويّ وهو: هل النّقد وجهان لعملة واحدة؟ بمعنى أنّ فيه ما فيه من الكشف والإضاءة والإبداع، وفيه أيضًا ما فيه من التّشويش والإساءة إلى النّصّ، عن قصد أو من دون قصد، ما يمكن أن يُعدَّ جَوْرًا على حرّيّة الأدب أو صاحب الفنّ؟

يقول الشّاعر الألماني ماريا رينيه ليركة في رسالته الأولى: إنّه ليس هناك أسوأُ من كلمات النّقد الأدبيّ للإمساك بالعمل الفنّيّ. أمّا النّاقد الكنديّ نور ثروب فراي فيتساءل: من قال إن الكلمة الأخيرة أو القولَ الفصلَ هو للنّاقد؟!

مع ذلك وعلى الرّغم من ذلك، فإلى الآن لا يوجد تنازل أو بديل عن النّقد، ولا يمكن الاستغناء عنه، لأنّ النّقد أصبح ضروريًّا ولازمًا في كلّ المجتمعات، وفي كلّ مجالات الحياة، وأنواعِ الفنون المتعدّدة. فالنّقد يُعدُّ آليّةً أو رافعةً في سبيل نهضة الأفراد والمجتمعات وتقدّمها على حدّ سواء.

وبعد، فإن المقياس الحقيقيّ والمحصّلةَ النّهائيّة لكلّ نتاج أدبيّ وغير أدبيّ يكمن في القيمة المضافة التي يحقّقها أو يثيرها ذلك النّتاج، مثال ذلك: الدّهشة والمعرفة والفائدة والمتعة والوعي والإبداع، وما شابه، ولا يفوتنا، في هذا السّياق، أن نتذكّر حضرة أينشتاين.

أخيرًا، مهمّتنا، نحن في مجتمعنا بالدّرجة الأولى في ما أراه، تكمن في إنتاج حراك نهضويّ حقيقيّ، يتجلّى بإنتاج القارئ الذّكيّ والواعي والمثقّف، في سبيل صنع الحضارة وفي صنع الحياة، بعيدًا عن كلّ أنواع التّملّق والنّفاق والتّلوّن.

نحن نؤدّي ذلك بدافع من الواجب والمسؤوليّة، ومن دون أن ننتظر المقابِل لما نبذلُه. يقول أدونيس: ليس الماءُ وحدَه جوابًا عن العطش! وهو يقصد بالطبع العطشَ إلى الثّقافة وإلى المعرفة والوعي وإلى الشّعر تحديدًا، على نمط قول المسيح عليه السلام: ليس بالخبز وحدَه يحيا الإنسان!

فلنعمل بروح هذا الكلام! وشكرًا

وفي ختام اللّقاء كان مجال نقاش الحضور المشارك مستفيضًا وحيويًّا، لِما لهذه اللّقاءات من أهمّيّة ومتابعة للحركة الأدبيّةِ المحلّيّة.

وتأبى عكّا إلاّ أن تعانقَ قممَ الكرمل في هذا اللّقاء الحميميّ، ويأبى الشّاعر نظير شمالي إلاّ أن يتحفَ الحضور بلقطاتٍ وومضاتٍ من معرضِهِ الّذي أقامّهُ في عكّا "عكّا في ذاكرة العدسة"، والّتي تحاكي تاريخ عكّا بأحيائها وشعبها، وبمشاهدَ أثريّةٍ ورسوماتٍ تاريخيّةٍ وصورٍ تعبق بالذّاكرة العكّيّة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى