الخميس ١٧ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم رامز محيي الدين علي

من أصداء الروح

تنتاب الإنسان حالات شعورية متناقضة، فيغيب بيـن متاهـات المشـاعر والأحاسيس، وتمتلكه لحظة شعورية مفاجئة على نقيض ما كان يجيش في نفسه من انفعالات، فتنقلب لحظة التحدي إلى استسلام، ولحظة الأمل إلى يأس، وحالة الفرح إلى حزن.

يوم قررت الرحيل وحزمت أمتعتي استعدادا للسفر، لم أكن أشعر إلا بالتحدي والصمود أمام سحابات الحزن التي تنتاب مشاعر الأهل والأحبة، ومشاعر المـرء نفسه، لكنني لم أكن لأستسلم إلى تلك الأحاسيس؛ وإنما كان يوم الرحيل يوما عاديا، بل يوم فرح؛ لأنني سأركب شراع الرزق بحثا عن لآلئ الخليج..

لكن لحظة الوداع كانت ضربة صاعقة في أعماقي، ففجرت كل شجوني، وبدأت أقرأ عن كثب مشاعر كل مـن ودعني، ولأول مرة أحسست أنني في قبضة لحظة الوداع..

كنت في الماضي أفارق أهلي وأصدقائي وأحبابي دونما شعور قاتل بمرارة البعد والفراق، لكـن الوقفة الأخيرة أمامك يا حبيبتي وأمام أهلي وأهلك كانت هزيمة لمشاعر التحـدي في ذاتـي، فانقلب عنفواني إلى رقـة لا توصف، وكبريائي إلى استسلام لدموع خفية لا تزرف، وحرقة في القلب لا ترأف..!
فما السر يا ترى؟!

إنك أنت السر يا حبيبتي، بل أنت الحقيقة التي فجرت في أعماقي فيضا من المشاعر الإنسانية النبيلة، وأنت الرسولة التي ألهمتني رسالة الحـب والحنان، فقلبت قسوتي إلى لين، وغروري إلى تواضع، وشموخي الهش إلى مواجهة مـرة مـع الواقع، ولأول مـرة فجـرت فيّ نبعا مـن الإنسانية يفيض بالرحمة والرقة واللين والعطف والمحبة..

آه.. ماذا أقـول عـن حالي؟ هل أنا هزمت وتحطمت كبريائي حينما سيطرت علي سحابة الحزن، فسكبت في أعماقي قطرات من الدموع.. وأحسست أنني طفل سيفارق لبان وحنان أمـه ساعة الفطام؟! أم أن إنسانيتي حلت في روحي، فحطمت حصون غروري وقسوتي وجفائي، وسكبت فيها فيضا من المشاعر النبيلة..؟!

وانقضت لحظة الوداع، وانطلقت بسيارتي من القرية برفقة صديقي ( محمد ) بسيارته أيضا.. وما زلت أشعر أنني أسافر بجسدي دون روحي، وكأنك يا حبيبتي سلبتها مني عنوة.. بل كأن جميع المودعين قد سيطروا عليها.

وفي الطريق استسلمت إلى شريط ذكرياتي وأنا أقود سيارتي، فلم أجد في ذاتي إلا الحسرة والآهات، فأشعلت سجائري أعبها عبا كطفل يرتشف قطرات حليب أمه.. لكن قسوة الطريق وطول المسافات ولهيب النهار أنستني ذكرياتي.. وشحذنا الهمـة لمواجهة كل الصعاب وتحدي كل المسافات.. وسار الدرب بنا وماتت المسافات حتى صرنا على مشارف الإمـارات، وانتهى عمـر الطريق أمـام عجلات السيارات، واختنقت أوهام السفر تحت وطأة أقـدام عزيمتنا، ووصلنا إلى دبي في تمام الساعة الواحدة ليلا يوم الأحد 29/8/1999م، أما لحظة الوداع فلم تنته في نفسي.. ومرارة الفراق لم تفارق روحي، ودمـوع الأهل وبصمات الحزن على جباه كل المودعين لم تغب عن ذاكرتي.. ولكن عزائي في مرارة وداعي وقسوة فرا قي هو في هدفـي البعيد من الغربة؛ ذلك أنني ما تغربت وفارقت مضاجع الوطن، إلا مـن أجل عينيك يا حبيبتي يا أحلى وطن.. وإلا في سبيل أن أصنع مركبا ينقلني معك مـن شاطئ الفقر والحرمان إلى شاطئ الرفاه والسعادة والأمان.. وسوف نحول دموع الأهل من دموع حزن وفراق إلى دموع فخر وفرح ولقاء..

فنامي قريرة العين يا مليكتي.. وفراشة بستاني... وهبي عيون الأهـل شعاعا من الأمل، واغرسي في نفوسهم حقولا مـن الصبر و السلوان.. واسكبي في مجاري عروقهم فيضا من ينابيع العزيمة والإصرار والتحمل.. فالغربة وإن كانت قطعة من العذاب، فهي قطعة من العسل الذي لا يستطعم تذوقـه إلا حينما يتذكر الإنسان آلاف الأميال التي تقطعها العاملات ذهابا وإيابا بين الخلايا والحقول حاملة رحيق الأزهار..

فمرحبا بالغربة التي تؤرق العيون بحثا عن لقمة العيش.. ويا لسعادة الغربة حينما تكون قطرات من الدموع، وأنهارا من عرق الجبين... ويا مرحبا بالموت حينما يريد أن يختطف روحي من جسدي متى يشاء..

ويا لسعادتي الغامرة حينما أموت في مجاهدة الغربة؛ لأن نفسي ستطمئن بعدها إلى خلود.. ولأن الموت في سبيل الرزق والحياة الكريمة حياة وخلود، فالموت في تحقيق عزة النفس شرف عظيم، أنبل من أن يموت الإنسان بحثا عن كسرات الخبز بين أنياب الأفاعي وظهراني القرود في غابة لا تعيش فيها إلا الوحوش الكاسرة ..

حبيبتي..

مدي يديك عبر المسافات البعيدة لتشابك يدي في وجه المحن..
وصبي عزيمتك أنهـارا تتحدى أعاصير الزمن..
واسكبي روحك في روحي لنعيش أو نمـوت معا..
وقولي للكون بأسره: إننا حبيبان سنبني لأنفسنا في الشمس أحلى وأنقى وطن..
ونتحدى كل أشكال الموت والعطن..
وسيولد فجرنا الجديد من عرق جبيننا وقطرات دمنا مهما غلا الثمن..
وسوف نتحدى عاديات الرياح بلا وهن..
فهاتي فؤادك يا عصفورتي وزيديني عشقا
وهبيني عزيمـة لنبني فـوق الشمس عشا
وانثري كلمـاتك في خاطري شهدا وتبرا
وفجري كلمـات قريحتي شعرا.. ونثرا
وأيقظي ظــلام ليلك العاشق علما ونورا
وصادقي كتبي الحبيبة المتيمة سرا وجهرا
وصبي على صفحاتها من عــــرق الجبين
ولا تستسلمي يا غـزالتي إلى جهـل السنيـن
ومزقي كل أوراقك الخريفية
وأطلقي قيود براعمك الندية
فسوف تولدين مـرة أخرى
في قصيدة حـبي الأزليـة
 
*****
أيتـها الحبيبة.. والشريكـة.. والرفيقـة
انفضي عـن نفسك غبار السنين الماضيـة
واسكبي فيها قطرات من سحب الأمل الآتية
وانظري إلى الوجود.. والدنيا بنفس راضية
ولا تخشي علي يا حبيبتي مـن أيـة غانية
 
فكل الغواني أمام عرشك للرؤؤس حانية
وأنت حبي كله.. وأنت الأهل والوطن
وأنت حياتي ووجودي.. فليشهد الزمن
 
******
أيتها الحبيبة..
يا فيروزي عند الصباح
أيها الصوت المخملي الذي أرتاح إليه
يا من يرجعني إلى نفسي وذاتي، فأعيش نشوتي
كلما غنيت أغنية حبي: ( سلم لي عليه )
فتنساب ذكريات اللقاء والوصال، ويتردد صوتك الشجي
في ثنائي رائع الأداء مع صوتي
 
*****

يا نجاتي الصغيرة..

لقد أنسيتني كل أغاني نجـاة التي حفظتها في الأيام الماضية؛ لأنهـا كانت تمثل كل مراحل حبي العابرة.. ولم يعد لساني يردد إلا أغنية: ( شكل تاني )، وكأن حبـك طرد مـن فؤادي كل أنواع الاستعمار القديم مـن الحب؛ ليحـل محلها بأرقى أشكاله فيصل إلى مرحلة الإمبريالية التي لم تترك من قلبي قيد أنملة إلا احتلته..

فحبك هو الشكل الثاني الـذي صرعني ورمـاني، وأسرني وسباني، وأغمض عيني وأعماني، وصار سلطان زماني، لكنه لم يمتني.. بل أحياني.. وبالأماني سقاني.. وبالعطف والحنان حباني.. وفي غربتي صار رمز كبريائي وعنفواني..

*****

حبيبتي:

أيها الشرق الأسير..
كوني امرأة شرقية.. وانتصري على كل العصور الهمجية..
وامسحي دموع كل امرأة تسحقها عادات وتقاليـد بـربرية..
وارسمي على شفاه كل نساء الشرق ابتسامة شمس الحرية..
 
وبرهني لكل رجال الشرق أن المرأة ليست وليمة سريرية..
بل تسكن في كيانها وفي ثنايا جسدها ألف.. ألف.. حورية..
وأثبتي للعالم أجمع أن الإنسان هو الإنسان..
وإن تنافرت كل موازين البشرية..
 
فالرجل إنسان.. إنسان.. إن في الشرق أو في الغرب
والمرأة سحر وجمال.. إن في العقـل أو في القـلب..

*****

حبيبتي: أيتها الإنسانية..

كوني زنبقة.. نرجسة.. فلة.. ياسمينة.. وردة جورية.. فروحي عطشى للورود، وحياتي بلا عبق.. صحراء قاحلة خالية من الرحمة.. وكوني رقيقة كنسمات الربيع.. فروحي شفافـة مثل تويجات الزهـور تؤذيني كل حركة لا تحمل في أعطافها فنـا من فنون المداعبة والملاطفة..

وكوني لي ترابا.. أكن لك فراشا ناعما من البساط الأخضر.. وثوبا شفافا من الحرير.. ونبعا رقراقا عذبا ترشفين منه كل مذاقات السعادة..

وكـوني غزالتي وظبيي الغرير.. فسأجعل من روحـي جسرا تعبرين منه إلى حقول آمنة تجدين فيها الظل الظليل، والعشب النضير، وسلسبيل الغدير، تحيط بك كل أصناف العبير.. وترفرف حولك البلابل والعصافير.. وتقبل خديك شمس الحرية حين تميل إلى الأصيل..

كوني لي يا حبيبتي، كما أنا لك روحا وجسدا وعقلا.. فأنت في خيالي.. في يقظتي وأحلامي.. صورتك لا تفارق عيني.. وكلماتك تدندن صباح مساء في أذني.. وكل حركة فيك تمر أمام ناظري كأنها حقيقة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى