الثلاثاء ٢٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
ناجي العلي المنتمي لأوجاع الفقراء
بقلم مهند عدنان صلاحات

من سيؤرخ بالفن لهذه المذابح بعد أن رحل ناجي ؟

على حين غرة مقصودة، قبل تسعة عشر عاماً من اليوم، أدرك القاتل أن ناجي العلي يجب أن يموت، وتحديداً في شارع «ايف ستريت» جنوب غرب لندن، حيث كان ناجي العلي بطريقه لمكتب صحيفة القبس الكويتية، وبيده عدد من الأسلحة المحظورة عربياً، يحمل عددا من الوثائق المرسومة، التي تدين حالة من التخاذل الثقافي، والسياسي، والشعبي إزاء القضايا، بينما أدرك ناجي العلي أن عليه أن يكتب، عفواً، يرسم وصيته في عدد من اللوحات، وأن يُعلن بأنه مستعدٌ تماماً للموت، ومعللاً أسباب موته الجريء، وباحثاً عن وريث شرعي يحمل بعده عبئ المشروع الفني، السياسي، العربي، ليحيا به بعد موته، حين باغتته رصاصة جبانة استقرت في رأسه، أدخلته في غيبوبة استمرت حوالي الشهر، لتحمله بعدها للعالم الآخر.

كان العلي يحمل أكفانه بين لوحاته، وهو يخوض معركة بريشة فنان، ويعلن عبر لوحاته الساخرة، موقفه، وموقف كل الفقراء والمقهورين، الرافض لكل أنواع الفساد والبيروقراطية ونقد الخطاب السياسي الإنشائي، فأخترع هذا الشاهد القنفذي على جريمة هذا العصر، وأعطاه هويته القومية العربية، ليجسد إيمانه بأن القضية يجب أن تظل عربية، لا قطرية.

احذروا هذا الرجل المسمى ... ناجي العلي

أدرك تماماً بأن الرصاصة التي استقرت في أسفل رأس ناجي العلي في 22 يوليو 1987م كانت قاتلة، إلا أنه ناجي أصرَّ على أن يدخل جدلاً حتى مع الرصاصة، استمر ثلاثين يوماً، فلم يكن ليسمح حتى لموته بأن يمر بشكل عادي دون أن ينتقده، وأن يبشر بقدومه، وطريقته، كما فعل سابقاً مع اغتيال بيروت، وهذا ما رسمه فعلاً عبر لوحة "لا لكاتم الصوت" التي حمل "حنظلة" فيها جثمانه مع المشيعين، وتوعد مثل البقية بالثأر ومواصلة الطريق، فناجي العلي هذا خطير بالمعنى العربي الرسمي، ولا يشبه شيئاً، الإنسان العادي البسيط جداً، والفنان المُعقد الخطوط، والناطق من خلال الكاريكاتير الصامت، المعلن الدائم لحالة الاحتجاج والاستنفار والتعبئة ضد حالة الصمت العربية الرسمية إزاء القضايا الوطنية الأساسية، وحتى في موته تكمن خطورته بأنه يهدد الصمت العام، وأنه يتنبأ في القادم، ويرسم المستقبل بالأبيض والأسود.

مات ناجي العلي، مثله مثل بقية كثيرون من زملائه الفنانين والأدباء والمفكرين والصحفيين، اغتيالاً، فقبله كان غسان كنفاني -الذي نشر رسوم ناجي لأول مرة في مجلة "الحرية"، ومهدي عامل، حسين مروّة، عبد الجبار وهبي، شهدي عطية الشافعي، وكثيرون كثيرون على الطريق، بينما لم يستطع الاغتيال أن يوقف مسيرة المثقف المتمردة من أن تظل دائمة الحياة، متجددة.

ناجي الفنان السياسي:

"ظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية .. ثم إلى الأوراق .. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة " الحرية"وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من " الحرية " وفيها رسوماتي ... شجعني هذا كثيراً".

ناجي العلي كان رساماً بامتياز، وعلى الرغم من أنه كان يعلن عن نفسه بأنه صوت الفقراء، لكن العالم اعتبر ناجي أكبر من حجم المكان والجغرافيا، وإحدى الصحف اليابانية اختارته كأحد اشهر الفنانين العشر في العالم، لما في لوحاته من حدية، وخطوط تلقائية موغلة في التعبير عن الموضوع الذي يريد معالجته، وتوضيح الكاريكاتير بعبارات بسيطة وواضحة تدل على انه كان يتمتع بوعي سياسي، وعمق، ونضج مبكر لمستقبل القضية التي يرسم لأجلها، أو كما قال أحد النقاد عن رسومه: "إن استخدام ناجي العلي للونين الأبيض والأسود يرجع ربما إلى انه لا يرى العالم إلا من خلال التناقضات الكلية بين خير وشر، جمال وقبح، وتضحية وخيانة، ويجعل اللون الأسود خلفية شبه دائمة في لوحاته حين تتأزم الأوضاع السياسية العربية، رغم انه لم يكن فقط مجرد خطوط سوداء على خلفية أو فراغ ابيض".

لماذا قتلوا ناجي العلي ؟

لان ناجي "متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها .. أنا لست محايداً، أنا منحاز لمن هم "تحت".. الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات، وصخور القهر والنهب، وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها.. ولمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات".
ناجي العلي، هذا الرجل، الفنان، السياسي، خطير جداً، وفي هذا الوقت بالذات، حيث بيروت تحترق بنيران صهيونية مرة أخرى، يفرض علينا أن نستذكره حين تمر ذكراه في خضم المعركة، لنفيق هذا الصباح ونحن نعلن عن حالة الاحتجاج على ذات الصمت الذي هدده ناجي العلي، بأن نمر بالقرب من بيروت، ونقول لها : صباح الخير يا بيروت على طريقة ناجي العلي، ونقف إجلالاً لشهداء غزة والمذبحة المستمرة.

ترى أكان العلي ليتنبأ أن يمر تاريخ اغتياله، في الوقت الذي تُغتال فيه المدينة التي يحبها ؟ وأن بيروت ستحترق بضواحيها الجنوبية والشمالية، وتدمر أثار بعلبك، ويصرخ شهداء قاما مرة تلو المرة، ويتكرر ذات المشهد التراجيدي الذي شهده ذات يوم في العالم 1982م؟.

قبالة شواطئ صور البحرية، يقف "حنظلة العلي"، لكن هذه المرة بهيئة جديدة، ولم يزل عمره -منذ أخر مرة شاهده الناس في إحدى لوحات ناجي – عشر سنوات، واقفاً ووجهه البائس باتجاه البحر، بثيابه الرثة وقدميه الحافيتين، عاقداً يديه خلف ظهره، يرتدي بزة رسمية، أيضاً ممزقة كعادته، وأيضاً حافي القدمين، ممسكاً بشيء ما قد يكون كاميرا تصوير، ويرتدي سترة كُتب عليها بخط واضح "صحافة"، ويلتقط صوراً لبارجة إسرائيلية تغرق في وسط البحر، ويوزع صورها لوكالات الأنباء العالمية ليدحض مزاعم عربية وغربية بضعف قوة المقاومة، وقدرتها على هزيمة إسرائيل، وقد تعلم بعد تسعة عشر عاماً ذات مهنة صديقه ناجي العلي، بأن يكون مناضلاً من الطراز الرفيع، ولم يزل يحمل سلاح السخرية والنقد اللاذع الذي ضج منه أصدقاؤه وخصومه على حد سواء، ورغم ذلك ظل ممسكاً بالقلم ويرسم بالأبيض والأسود، ويحرك الحياة في رسوماته، وبكل قسوته المعتادة على كل شئ من حوله، الرافض لكل الذي ظلوا يتكسبون من القضية، تحت مسميات الثقافة والفن الثوري، ويرفض كل شهود الزور على قضيته، ليكون وبكل جدارة الشاهد الوحيد.

وكأنها أعوام لم تمضِ، وكأن لا زمن يفصل بيننا، بين أمس ناجي، ويوم غزة، وبيروت الدامي، وهذا الشاهد العصري على الجريمة المتجددة لهذا العصر لم يزل حتى اللحظة يرجم تخاذلنا بحجارته، ولم يزل يرسم، " أرسم .. لا أكتب أحجبة، لا أحرق البخور، ولكنني أرسم، وإذا قيل أن ريشتي مبضع جراح، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه.. كما أنني لست مهرجاً، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود .. ثقيلة .. ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا".

هل يا ترى مبضع الجراح هذا قد حاول اكتشاف شيء ما في داخلهم فقتلوه؟ فعلاً لقد جرح شيء فيهم لا يعرفوه، فليس لديهم الكثير مما يمكن لناجي أن يجرحه، لكن لديهم أكثر مما كان يفضحه، فقتلوه.

لقراءة المزيد من المقالات عن ناجي العلي ومشاهدة بعض رسوماته انقر هنا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى