الخميس ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم سعيد أراق

من طريق إلى طريق

تأخذك الأيام من طريق إلى طريق، لا رفيق لك إلا نفسك، لا اكتمال لك إلا بك، لا أوهام لك إلا ما رضيتَ به حلمًا أكبر من المستحيل. تختلي بنفسك في أماكن تشبهك، تذهب إلى حيث لا يذهب الآخرون، تَتَكَتَّمُ على حياتك وأحلامك وأهازيج الفرحة التي تعتمل في قلبك. تركب سيارتك وتمضي إلى أمكنة لا يعرفك فيها أحد، لا تلتقي فيها بوجه مألوف أو ذكرى ابتسامات منسية. تبدو لنفسك متحررا من كل قيد، متعاليا عن كل ارتباط، مندمجا اندماجا روحيا في ما يحيط بك، منفلتا انفلاتا كليا من أثقال لقاءات خسرتَ فيها نفسك، ولم تَجْنِ منها سوى تعويضٍ قَمِيئٍ ورخيص. تقف أمام البحر، تغمس فيه نظراتك الشاردة، تحتضن امتداده بعيون مُسْبَلَةٍ واخْتِلاجَاتٍ هائمة. يأخذك مشهد البحر من نفسك، يعيدك إليك نقيا...قويا...مكتملا...متعاليا...متساميا...طافحا بشعور امتنانٍ خَبِيىءٍ وسكينة غامِرة.

تحب تأمل البحر وهو يُدَحْرِجُ موجاته دحرجَةً تذكِّرك بأشخاص تقاسمتَ معهم المشي على الشاطئ في يوم مشمس أو مساءٍ مَطِير، وجمعتكَ بهم رحلة صاروا بعدها أخبث الخلق وأسوأ رفيق. تتفاجأ أنك نسيت ملامحهم، لم يبق منهم في ذاكرتك سوى انطباعات شبحية لا تُحَرِّكُ في دواخِلك شيئا، لا تُشْعِرُكَ بشوق، لا تبعث في قلبك دقات لهفة متسارعة. تتساءل: كيف يفقد الإنسان الشعور بأهمية بعضٍ مِمَّنْ كانوا يعنون له الكثير؟ كيف تتحول الوجوه في الذاكرة إلى سُحْنَةٍ بدون ملامح، وملامح بدون بهاء؟ كيف يتحول الحضور إلى غياب، والغياب إلى تغييب، والتغييب إلى تحرر وانعتاق؟ كيف تفرح بنفسك وقد تحررت من هؤلاء الأشخاص بعدما كنت تظن وَاهِمًا أن اكتمالك لا يتحقق إلا بهم؟

حينما تأخذك الأيام من طريق إلى طريق تدرك أنك أنت الطريق، أنت البدء الأول الذي ارتضاه لك الله، وأنت اللحظة القصوى التي ينتهي فيها كل شيء لم يعد يعني لك الكثير. بين الحاضر والماضي، بين القابِعِ في الوجدان أو المُضْمَرِ في رُكَامِ الذكريات التي غادَرَتْكَ وغادَرْتَها بعد أن فَقَدَتْ رونَقها وبهاءَها هناك دومًا فرق بين الأمس واليوم، هناك دومًا تنكر ونسيان وارتحال وبعاد وهجر وصَدٌّ ومَسِيرٌ وعُبُورْ.

لن يكون بعد الغد أمس جديد، ولن يكون بعد النسيان ذكرى يومٍ بعيد. لن تتعلم لغة أخرى لتقول ما لا يقال، ولن تتدرب كثيرا على إتقان فن النسيان لأنك الآن وقبل الآن تحس أنك قد نسيت...نسيتَ أشخاصا وأحداثا وأماكن ومسامرات كَمَنْ نَسِيَ صفحاتٍ قرأَها في كتاب لا يليق؛ نسيتَ أحلاما راودتها في ثنايا أيام طواها الزمن، نسيتَ صدى كلماتٍ جوفاء لم يكن فيها شيء من صدق الكلمات، نسيتَ رؤى وأماني حملتها على محمل الجد ثم اكتشفتَ فجأة أنها لم تكن سوى الوجهِ الأَرْعَنِ من خُبْثِ الحياة وكَيْدِ من أَتْقَنَ فنَّ الخِداع فَتَشَيْطَن، وبَرَعَ في فن الكذب فَتَعَفَّن.

ومرة أخرى، تأخذك الأيام من طريق إلى طريق...تقود سيارتك على إيقاع موسيقى خافتة، تطوي المسافات وتطويك المسافات، تشعر بغرابة العالم والناس، تُفْرِغُ عقلك وقلبك وذاكرتك من كل شيء، تأخذ نَفَسًا عميقا، تلقى نظرة باتجاه الأفق البعيد، ترى نفسك هناك، تنزاح عنك القيود، تَنْجَابُ عنك لَوْثَةُ كائنٍ شيطاني حسبْتَهُ ملاكا، تنقشع عنك غَمْرَةُ قُبْحٍ حسبْتَهُ جَمَالا، ترتقي من عَفَنِ الخطيئة إلى مدارج السالكين، تَنْتَشِلُ نفسك من خَمَجِ السافلين، تستعيد ما تبقى منك، تستعيد خسارتك لكي تسند بها انتصارك، لكي تُرَمِّمَ بدروسها أخطاءك...لكي تخطو باتجاه نفسك، قريبا متقاربًا دومًا من أناك، بعيدا متباعدا أبدا عَمَّن لم تعد تجمعه بك طريق ولا يستحق منك ندم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى