الجمعة ٢٦ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم إيهاب جوزيف

من غير زعل

لم يكن كأي صمت مر عليها من قبل ...

يقولون عنه انه صمت ما قبل العاصفه .. وتعرف هي انه صمت ما يسبق نوه قاسيه .. بل قل عنه اعصار مدمر .. بل يمكنك القول ايضا انه صمت ما يسبق قدوم الشرير ذاته .

سكون مريب .. صمت تكره وجوده ويقشعر بدنها كلما انتبهت له .. صمت مشابهه لما يلي موجه صاخبه من الندب و الولوله والنحيب و كأنه يخبرها بمأساه عظيمه حدثت .. صمت يغلف المكان وينتشر فيه معلنا سيادته علي كل شئ في مجاله ..

مكان لا يسمع به الا دقات هذ الساعه قديمة الطراز والتي تعلن في رهبه عن الموعد الذي تخيم فيه ظلال الخوف و القلق .. مكان لا يري فيه حركه غير حركة بندولها الذي يدور في مكانه وكأنه حائرا مترددا لا يجد مهربا .. يتحرك يمينا ويسارا وكأنه يبحث عن مخبأ ليتجنب شرور ما وراء هذا الموعد .

وضع غير مألوف أن يسود كل هذا الهدوء و الصمت في مكان يقطنه ثلاثه من البشر صمتهم وترقبهم هو لسان حالهم الذي يمنون انفسهم به راجيين من الله عدم عودته .. ولكن منذ متي يكون للمرء كل ما يتمني .. هناك صوت .. نعم .. صوت يغزو هذا الهدوء قهرا .. صوت أثار انتباه ثلاثتهم .. انه الباب .. هناك من يفتحه .. انه هو .. تكاد قسمات وجهها تنطق متحسره راثيه تلك الامنيه التي طالما كانت تراود خيالها .. انهما ينظران لها بوجهيهما الصغيران الذي بدأ الشحوب يدب فيهما من هول القلق و الخوف .. تحاول بكل جهد أن تصنع ابتسامه في وجهها رغما عنها لبعث الطمأنينه في قلبهما بعد أن قتل هذا الكائن أي معني للامان في مخيلتهما الملائكيتان .. كانت تحاول متمنيه أن يتحول وجهها الي قطعه من الصلصال الرطب حتي تتمكن من أن تشكل فيه هذا الملمح – الابتسام – وسط محيط و مناخ هما ابعد ما يكون عن صنعه ..

لكن برغم كل تلك المحاولات الجاهده والجاده منها لم يستطع وجهها الذي مر عليه زمن كالدهر لم تنفرج فيه اساريرها الا أن يخرج ما يشبه ابتسامه باهته لم تؤثر فيهما بل لربما زادت من اتساع دائرة الاضطراب التي كان يتفنن في ارساء قواعدها في اذهانهما و قلوبهما .

ان وجهه العابث دائما و جبهته التي تشبه في تعرجها طريقا أسأوا رصفه و نظراته الحاده وأنفه المنتفخه و التي ينقصها أن تنفث النار أسباب كافيه تماما علي فتح هاله من الرعب في قلبيهما البريئين اللذين لا يحتملان كل هذا .. لقد اغرورقت عيناهما بالدموع و اصبحا علي استعداد تام لممارسة ما اعتادا عليه في محاوله لتخفيف تأثير طاقات الخوف و الهلع التي انفجرت بمجرد احساسهما لوجوده .. لا يحتملان .. لا يستطيعان .. هذا يفوق طاقتهما التي لم تنشأ بعد .. فتنقذهما دموعهما وتسرع لتطفئ رهبة هذا الفزع .. ليعلو صوتهما بالبكاء

يا له من أنين حزين يتأذي له كل ذي كيان انساني ينبض فيه قلب حي .. يدوي البكاء في جنبات هذا المكان ليزيده كأبه وحزن ليصبح اقرب لمكان رثاء الاموات منه الي بيت يعيش به مثل هذين الملاكين .

أحمق ..

لا يعرف أن نهجه في الحياه لا يتبعه الا ذوات الاربع والذيول والانياب ..

أحمق ..

يعتقد انهما لا يعيان ما يدور حولهما .. لا يدرك أنهما يدركان .. يفهمان .. يكرهانه بالفعل ..

أحمق ..

لا يدرك أن افعاله دائما ما تكون مسار بغض وسخرية الجميع ..

لا يجيد معاملة الادميين .. لا يجيد الا الصراخ في وجه من أمامه .. لا يجيد الا أن يطلق للسانه العنان في توجيه قذائف السب و التوبيخ و لوازع الكلام و كأنه سوط ينهال ليمزق من يمسسه .. قاموس حذفت منه مرادفات اداب الحديث .

لا يتسع صدره لأي شخص يحاول أن يملي عليه شيئا ما .. فيالهذا المسكين الذي يحاول .. يجهل انه امام مدفع وجهت فوهة انبوبته ناحية أم رأسه فما يكاد أن يبدأ الرجل في سرد كلماته حتي تنطلق دانة هذا المدفع لتدوي في كل الانحاء معلنه أن كرامة هذا الرجل تحولت الي اشلاء .

أب ..

لا يعرف للحكمه معني علي الرغم من زعمه انها مرشده في جميع تصرفاته ..

زوج ..

سريع الاهانه .. خدعت فيه حينما كان يتسم سلوكه بالوداعه .. حينما كان جياشا في عواطفه التي اكتشفت بعد الاوان أنها فخا صنع بدهاء لا يقل عن دهاء الحيات في شئ .. حينما كان يصتنع التلعثم امامها .. حينما كان يعقد اصابع يديه في حركه توهم من امامه انها لا اراديه دليلا علي الخجل والحياء .

كم كان رقيقا خلوقا .. وكم اصبح موحشا متدنيا لا يكاد أن ينظر الي وجهه انسان حتي يستعيذ بالله ويتمني يوما لطيفا لنفسه من شدة اقطاب هذا الوجه الذي رأه ..

تسألت كثيرا عن السبب الذي يجعله يتحول الي هذا الكائن ..

كيف تحول من هذا الحمل الوديع الذي لا يكاد يسمع صوته عندما يتحدث الي هذا الشخص الذي كل ما يخرج من فمه صراخ وسباب .. الي هذا الشخص الذي اقل ما يوصف به انه غير ادمي ..

دائما ما تنفرد الي ذاتها وتبكي .. دائما ما ترثي ايامها الجميله التي كانت في مخيلتها ان تحياها مع هذا الذي نجامله كثيرا اذا ما اطلقنا عليه لقب انسان .

الطفلان يبكيان وكانهما يعرفان ما يخبئ لهما القدر في جعبته السوداء ..

دائما ما يتشتت تفكيرها بين بكاء طفليها .. مصيرهما المشئوم الذي ينتظرهما في لهفه .. نظرات من حولها .. اشفاق البعض و حزن البعض الاخر .. وجناته الحاده .. صرخاته العاليه .. سبابه المستمره ..
و دائما ما تقع مغشيا عليها .. ولكن مازال الطفلان يبكيان .

فكرت كثيرا .. كانت تنظر اليهما بينما كانت دموعها تتدحرج علي وجنتيها كحجر ملتهب .. ذبلت تلك العينان التي كان تمتلأ بسما و اشراقا فيما قبل .

لم تجد الا هذا الحل .. ولكن كيف ؟ .. و متي ؟ .

كثيرا ما نظرت الي السماء .. صامته كأنها تتأمل شئ لا يستطيع سواها أن ينظره .

تفكر .. لا بديل .. لكن ماذا عنهما ؟!

يصخ مسبا اياهم واياها .. بكائهم يزعجه كثيرا .. لماذا لم توقفهما عن البكاء ؟! .. هل تتعمد ذلك قاصده ازعاجه ؟ .. ام انها تريدهما ان يبكيا ويتألما انتقاما منه ؟ .. ام انها تعلن التحدي عليه فلم تعد تهتم بأي شئ يخصه ؟ .. كان هذا ما هداه اليه تفكيره العميق الحكيم .. جدا .

- ايه مش عارفه تسكتيهم ولا ايه ؟ ( لا رد منها )

- ايه مش سمعاني ولا ايه يا بنت ال ( .......... ) .

تدوي الكلمه في جنبات المكان .. تغمض عينيها بشده .. تحاول جاهده منع هذه الكلمه من الوصول الي اذنيها .. تفتح جفنيها ببطء لتنزل منهما قطرتين لتجريان في المكان اللاتي سبقتهما اليه مئات القطرات سلفا .. لقد أصبحت أثار الدموع واضحه في وجهها الذي أصبح كبدر فقد بريقه وسط السماء المظلمه .. لقد سبها .. ما الجديد ؟! .

  لا حول ولا قوة الا بالله .
  الراجل ده مش حاسس بالنعمه اللي ربنا مدهاله .
  يا نظيره محدش بيحس بالنعمه الا لما تروح منه وبعد كده يرجع يندم تاني .
  كلامك صح .. لكن مع بني ادم زي ده ماتأخذنيش يا خويا .
  انا حاسس ان الراجل ده مش طبيعي .
  انت بتقول فيها ! .. ده بيته يفضل هادي من صباحية ربنا لحد الضهريه لما يرجع و كأن بيته دخله شيطان .
  أعوذ بالله .. وقعت فيه ازاي دي ؟!! .. ده عامل مشاكل مع طوب الارض .. اهلها سيبنها كده ليه ؟
  حكم القوي يا خويا .
  البني ادم ده اخرته وحشه .. ربنا معاها .. يالا بئه يا نظيره الاكل علشان جاي واقع من الجوع .
  عينيا .. ثواني ويكون الاكل جاهز .

مرات عديده لا تستطيع ان تحصيها تلك التي تمنت فيها أن يخرج ولا يعود .. ودائما ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن .. فيأتي مع الرياح لتتحول الي نوه تغرق السفن بمن فيها .

يستحيل أن يكون هذا الشئ الذي يشبهنا في تكوينه وهيئته انسانا طبيعيا مثلنا ..

هل من الممكن أن يكون مختل عقليا ؟

هل من الممكن أن يكون هذا السلوك ستار يخفي وراءه شيئا يجهله الجميع ؟

تتذكر كيف كانت وتنظر الي المرأه لتري كيف أصبحت فتتسابق قطرات دموعها علي وجنتاها اللتان كان يضرب بهما المثل في مجالس الاصدقاء عندما كانت بالجامعه .

هل يعرفونها الان ؟ .. تضع رأسها بين كفيها و تنخرط في نوبه من البكاء وكأن أحد أجابها الجواب الذي تخاف أن تسمعه .. تنظر اليهما .. انهما السبب الذي تتحمل من أجله كل هذا العناء .. ماذا اذا لم يكن لهما وجود ؟

يدوي صوت غليظ في جنبات المكان ..

  انت يا ست هانم .. فين اللي هاتسممه عشان أغور من خلقتك

تخرج من حجرتها في طريقها لاعداد المطلوب .. ولكن لاول مره منذ زمن بعيد ارتسمت ابتسامه عريضه علي وجهها .. ابتسامه حقيقيه غير مصتنعه .. لقد حدد بنفسه ميعادا لما كانت متحيره بشأنه .

تخرج من المطبخ حامله اليه افضل ما يريد .. نعم .. انها تدرك انه افضلها علي الاطلاق بل انه أقواها تأثيرا وأسرعها مفعولا .

ان دراستها الاكاديميه لعلم الكيمياء لم يكن لها تأثيرا فعالا في حياتها العمليه مثلما لها الان .. انها علي مقربه من وضع نهايه لكل هذه المشاكل و المعاناه والالام التي طالما تعرضت لها ..
ولكن ما هذا ؟! .. ان يداها ترتجفان .. خائفه مما هي مقدمه عليه .. لطالما قالوا ان الخوف أساس سليم للنجاح ..

تتقدم نحوه بخطوات تحاول ان تجعلها ثابته واثقه طبيعيه كعادتها .. تحاول الا تظهر رجفة يداها .. تضع الطعام امامه .. تحاول الا تغير من سلوكها حتي لا تثير شكوكه .. ينظر لها نظرة الاشمئزاز و الضيق المعتاده

  ما تمشي من وشي عشان اعرف اطفح

ترجع خطوتين للوراء ولكنها لا تزال ترمقه .. انه يمسك بالطعام .. لقد انخفض صوت بكائهما بشكل ملحوظ .. يقربه من فمه .. ان صوتهما ينخفض شيئا فشيئا .. يضعه بين فكيه ويقضمه .. يصمتان في آن واحد و لأول مره اثناء تواجده بالبيت .. تغمض عينيها في انتظار أن يطلق صرخات الام الموت ولكن .. لا صراخ .. هدوء تام يخيم علي المكان .
تفتح عينيها .. فتجد نفسها علي سرير في حجره شبه مظ
لمه تشبه الي حد كبير حجرتها في بيت أبواها .. لا .. انها لا تشبهها .. انها بالفعل حجرتها القديمه في بيت ابواها .. تنتفض علي سريرها منزعجه .. أين الطفلان ؟! ما الذي حدث لهذا الكائن الذي كانت تعيش معه .. هل مات ؟! .. تمر لحظات قليله شاخصه بعينيها في جميع جنبات المكان محاوله ايجاد تفسير وأجابه لما حدث ..

تبتسم ابتسامه ساخره من نفسها وتعود برأسها الي وسادتها .
لقد كان عشائها دسما فعلا .. يا له من كابوس .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى