الاثنين ١٢ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم بوشعيب الساوري

من قلق الموت إلى العجائبي

في رواية النصف الضائع

النصف الضائع(1) هي الرواية الأولى في مسار محمد قنديل بعاير الروائي بعد إصداره لمجموعتين قصصيتين، ليدخل الرواية قادما من عالم القصة القصيرة، رواية يشتغل فيها على متخيل غرائبي وعجائبي انطلاقا من التمثلات الشعبية.

1- من الخوف من الموت إلى الاستيهام

تعالج الرواية مشكلة مرور الزمن ووساوس ومخاوف الموت التي تعتري السارد الذي يقول:"وإنما وجدتني أتراجع إلى الوراء قليلا، بدافع داخلي مجهول، هو مزيج من خوف أزلي من الموت، وتمسك حريص بأهداب الحياة."(ص.53.) تقوده هذه الحالة النفسية في الغالب إلى الاستيهامات:"تهالكت على الكرسي مُنهَدّا من شدة الإعياء، طاردا دفعة هواء قوية وملتهبة من صدري المجهد، ومتخيلا أنني أشرب عصير برتقال بارد، أبلل به فمي الجاف، وأطفئ سورة هذا العطش الحارق."(ص.55.)

إنها مشكلة السارد وهي وعيه بأن كل شيء معرض للزوال:"وقفز السؤال غير المتوقع إلى ذهني: أليست هذه الآثار التي تولد الآن، ثم تختفي فجأة، علامة على أن لا شيء دائم في هذه الحياة؟.. وعادت فكرة الزمن الذي يمضي من عمري، باستمرار وبلا رجعة، رغم حرصي على التمسك به، تجثم بكل ثقلها على عقلي."(ص.49.)

تعيش الشخصية الرئيسة في الرواية محنة الحالة اللا محددة والقلق المستمر. إنها تتعذب من أسئلتها الوجودية التي تزيد همومها وقلقها والتي تعجز عن إيجاد جواب لها. فيصير السرد لديها بوحاً بمشكلات ووساوس الإنسان الوجودية.

وتعاني من سؤال الزمن وديمومته بالمعنى البرجسوني. يقول السارد: "يا إلهي لا أحد يستطيع أن يوقف سير الزمن، ولا تعاقب الليل والنهار! كيف يفلت الوقت من بين أيدينا متسللا هاربا كظل زائل، دون أن نستطيع الإمساك بتلابيبه أو التحكم فيه!"(ص.14) سؤال الزمن المنفلت والهارب سيصبح هاجس السارد اليومي ومصدر قلقه وتوتره واستهاماته. يقول:"فهجمت على خاطري فكرة عمري المتناقص يوما بعد يوم..." (ص.30.) ويقول:"عادت فكرة الزمن الذي يضيع من يدي بلا رجعة، حتى لو حرصت على التمسك به، تجثم بكل ثقلها على عقلي: حلول الليل.. بزوغ الفجر.. طلوع الشمس.. دقات قلبي المترددة على الوسادة في أذني.. دقات الساعة المتتابعة على الطاولة الصغيرة.. شعر لحيتي الذي أحلقه، فينبت من جديد.. المرآة القديمة التي كسرتها وعوضتها بأخرى جديدة.. الرمل الذي انساب من فروج أصابعي.. لحظات الغروب التي ستغافلني بعد ساعة، فترحل هي الأخرى دون أن أحس برحيلها السريع والبطيء في آن واحد..." (ص.38-39.)

تغتني فكرة الوعي بمرور الزمن من حياة السارد عبد الله أن حياة الإنسان مليئة بالفراقات؛ انطلاقا من تجربة فراقاته المتكررة مع والدته من الطفولة إلى اللحظة التي يعيشها. يقول:"وافترقنا وكان هذا أول فراق. فودعت حمام النساء لأدخل حمام الرجال. ومن يومها توالى اللقاء والفراق بين مد وجزر: نلتقي لنفترق، ونفترق لنلتقي، حتى تولد في نفسي شعور متشائم، جعلني، أتخيل أن هناك يدا قوية تنتزعني دائما من بين أحضانك فتفرق بيننا: يوم دخلنا كتاب السي سعيد القريب من (سوق الحرية)، حاولت أن أعود معك عندما قررت العودة إلى البيت، ولكن يد الفقيه أمسكتني بعنف، وأبقتني مع الأطفال الذين كانوا يحفظون القرآن المكتوب بالصمغ الأسود على الألواح الخشبية المبيضة بالصلصال... وعند باب المدرسة، اختطفتني يد الحارس من يدك، وسلمتني إلى يد المعلم الذي أدخلني القسم، وأغلق الباب وأنا ألتفت مذعورا علني أراك، ولكن الجدران السميكة حجبتك عني... وتراخى اللقاء حتى نسيته، واشتد الفراق حتى ألفته، فأصبح شيئا عاديا لا يثير قلقي بقدر ما يثير قلقك، فكنت مضطرا إلى مغادرة بيتنا والابتعاد عنك مدة طويلة، خصوصا عندما تدرجت في أقسام الدراسة، فشرعت رياح التوفيق تهب علي، دافعة زورقي نحو شاطئ النجاح."(ص.9.) ومغادرة الحي وفراق الأم. سواء الفراق الدنيوي أو فراق الموت. فيصير كل شيء معرض للفقدان والاختفاء والزوال. تقول والدته:"ستضيِّع كل شيء يا ولدي."(ص.167.)

فيتم توليد السرد عبر الاستيهامات والمخاوف والمعاناة النفسية الفردية للسارد. إذ تدفعه مخاوفه وعزلته النفسية إلى جعل الأشياء شخصيات يخاطبها(ص.34) مما يجعل الرواية تجمع بين الواقعي والاستيهامي الفانطازي وأحيانا العجائبي عبر الحلم. (حورية البحر40-47.)

2- من الاستيهامي إلى العجائبي

تحاول الرواية المزاوجة بين العجائبي والاستيهامي الناتج عن الأسئلة التي يثيرها قلق السارد ووساوسه الناتجة عن الوعي الزائد تجاه مرور الزمن، فتمتزج تلك الوساوس بما سمعه السارد من أخبار حول وجود كائنات غريبة في الفيلا التي اكتراها.
ويتحقق العجائبي، حسب تودوروف، عندما يتردد كائن، لا يعرف سوى القوانين الطبيعية، أمام حادث له صبغة فوق طبيعية، إذ يتميز بوجود أحداث فوق طبيعية كالسير فوق الماء وتكليم الحيوانات، ويتأسس العجائبي على العناصر التالية:

 وجود حدث يولد توترا ورعبا، يؤدي إلى تردد وحيرة الشخصيات والقارئ.
 وجود حدث مخالف لما هو مألوف.
 يعمل على إدخال فوضى مدمرة.
ترتبط أهم المقومات العجائبي في هذا الرواية بالثقافة الشعبية، وتحضر بجلاء في الحكي الشعبي، الأخبار العجيبة التي يرويها الناس حول الفيلا. فيتأسس العجائبي انطلاقا من المخيلة الشعبية وما تنسجه من حكايات حول الجن ووجوده ببعض الأماكن. فكل الشخصيات التي التقاها السارد بالشاطئ أكدت له أن الفيلا التي اكتراها "مسكونة" بالجن انطلاقا من الصباغ، الذي عهد إليه صباغة الفيلا قبل أن يسكنها، والذي يروي له قائلا:"لم ننم الليلة الماضية، فبمجرد ما نطفئ الضوء، كنا نسمع أصواتا غريبة، وطرقا عنيفا على الأبواب، وضربا بالنوافذ، وخشخشات وتأوهات تأتينا من الممر المظلم المؤدي إلى الحمَّام. في البداية اعتقدنا أن أحدا تسلل إلى الفيلا من نوافذها الخلفية، المطلة على الخربة التي لم تبن بعد، ولكننا عندما تفقدنا جميع أرجائها، لم نجد شيئا يثير الانتباه، وبقيت الحالة هكذا حتى مطلع الصباح، فعاد كل شيء إلى وضعه الطبيعي."(ص.66.) وهو الأمر نفسه يقع للسارد أثناء نومه المتقطع، يقول:"وفي فترات نومي المتقطع، كنت أسمع أصواتا غريبة، وطرقا عنيفا على الأبواب وضربا بالنوافذ، وخشخشات وتأوهات تأتيني من الممر المظلم، المؤدي إلى الحمام بين لحظة وأخرى، فكنت أنتظر ظهور شخص ما، غير أنني لم أكن أجد أمامي سوى المصباح المشتعل والفراغ."(.64-65.) وبالإضافة إلى استيهامات وكوابيس السارد ومخاوفه ووساوسه يدخل في حيرة وتردد بلغة تودوروف، من أجل تفسير وفهم ما يسمعه من أصوات داخل الفيلا كلما أطفأ الضوء، متسائلا:

"ما سر هذه القشعريرة العنيفة التي خلخلت جسمي كله كصعقة كهربائية؟
هل هو جو الفيلا البارد؟
هل اصطدمت فعلا في الظلام بجسم غريب كان بالصالة؟
ولماذا لا يكون كل هذا مجرد وهم وخدعة من خدع الحواس؟"(ص.64.) فهناك مزج بين المتخيل الشعبي واستيهامات السارد فوقع خلط بين وساوس السارد وقلقه الوجودي وكلام الناس وتصوراتهم.
هكذا يتأسس العجائبي في هذه الرواية على العناصر التالية:
 حدوث الحيرة والتردد من خلال مجموعة من الأخبار والأحداث؛ الأخبار العجيبة التي سمعها السارد عن الفيلا حول وجود الجن بها، الأفعال الملغزة لبعض شخصيات الروائية وكأنها تحمل سرا ما، الأصوات الغريبة التي كان يسمعها السارد داخل الفيلا، فقدان الكلب بلاش لصوته،
 التفسير والفهم، انطلاقا من ما هو فوق طبيعي، بإرجاع تلك الأفعال إلى كائنات غيبية وفوق طبيعية هي الجن، إذ يقر السارد في النهاية بذلك التفسير الذي يزيل حيرته وتردده.

3- طقوسية أفعال الشخصيات

نجد السارد يدور في حلقة مفرغة يقوم بطقوس مكرورة؛ الخروج من الفيلا إلي الشاطئ، ومن الشاطئ إلى المقهى، ومن المقهى إلى الفيلا، ومن الفيلا إلى الإعدادية، ومن الإعداية إلى بيت والدته، ومن بيت والدته إلى السمسار، في صراع دائري مع الزمن.
ولما عجز عن مسايرة ما يوجد في تلك الفيلا "المسكونة" انتقل إلى فيلا أخرى:"وها أنا أنتظر من جديد في هذا الصباح، وصول العربة التي ستحملني إلى فيلا أخرى، بعدما رحل عنها المكتري فصبغتها ونظفتها.."(ص.167.) ينتقل إلى سكنى جديدة فيجد نفسه يدخل إلى حلقة شبيهة بالسابقة:"يا إلهي هل أنا في حلم؟ هو ذا التاريخ يعيد نفسه بطريقة ما."(ص.172.)
كل الشخصيات التي سيصادفها السارد يوميا تقريبا في سكناه الجديدة بالفيلا ذات الأسرار الغريبة منذورة لفعل ما أو هَمٍّ ما يقول السارد:"عروب يفتح... لايعرفه أحد..."(ص.155.)

فعروب النادل بالمقهى مهووس بالفوز بياناصيب الخيول(60.)
أبو الليل الظهور والاختفاء تبعا للمهمة الموكولة وهي أنه مخبر يتنكر في زي صياد.
بوغابة رعي الغنم.
العجوز الفرنسية التي تصاحب كلبها يوميا إلى الشاطئ مزاولة رياضة المشي.
الخادمة:"منذ أن سكنت الفيلا، وتعرفت عل زهور، تعودت أن أراها كل يوم، إما مارة بالدرب، أو متوقفة عند السور، أو داخلة المخبزة، أو متجهة نحو متجر المواد الغذائية."(ص.132.)

المهدي الذي وجد السارد نفسه في صراع معه دون أن يعرف سببه:"ولم أدر كيف لمحت المهدي جالسا على صخرة عالية. بصقت على الأرض اشمئزازا "يا إلهي هل كتب علي أن أدخل في صراع أبدي صامت، مع كائنات ظاهرة كهذا الذي يقف أمامي الآن، وأخرى خفية كذاك الذي يحتل الممر المظلم المؤدي إلى المرحاض والحمام؟[...] أكيد أنه يراقبني، ويتتبع خطواتي منذ أن رأى أخته متوقفة عند السور تتحدث معي."(ص.103.)
بوشتى ومهمة جمع الأزبال.
السحار الذي لا يظهر إلا بالليل.

تتوافق هذه الطقوسية والثبات في أفعال الشخصيات مع الجو الغرائبي والعجائبي الذي يعيشه السارد، إذ تزيد من غرابة وضع السارد وقلقه تجاه الموت وتجاه تسارع الزمن خصوصا بعد اختفاء بعض الشخصيات.

كل أفعال الشخصيات تبدو وكأنها تخفي سرا ما يدفع السارد إلى طرح بعض الأسئلة، التي تدل على حيرة البطل وتردده، بغية فهم وإدراك غرابة الواقع الذي انتقل إليه والذي يتميز بأفعال شخصياته الملغزة:"بدأت أراجع الأحداث السابقة، محاولا تحديد مواقفي من هؤلاء الذين ساقتهم ظروف الحياة في طريقي، فدفعتني إلى التعرف عليهم، وربط علاقات مختلفة معهم: زهور مثلا لما أخذت تهتم بزينتها أكثر من اللازم في الآونة الأخيرة؟ هل تخطط لشيء، أم أن طيبوبتها حقيقية، تدخل ضمن حق الجار على جاره؟ ولكن إذا كانت طيبة السريرة، سليمة النية، فلماذا حذرني منها عروب؟ وطلب مني أن ابتعد عنها، وحذرني من أخيها الذي لا أعرفه حتى الآن ولو بملامح وجهه؟.. وبوغابة لماذا يكره مدام رغم طيبوبتها؟ هل لأنها كافرة بالله ونصرانية كما قال؟ وما السبب الذي يدعوه إلى التشكك في حقيقة شخصية أبو الليل وعمله؟ ومن هم الرجال الذين يصعدون معه الربوة ليلا، مضيئين البطاريات الكاشفة؟ والسحار متى شوهد وهو يجري على الشاطئ متنكرا في جلباب أسود، واختفى في الغابة المطلة على البحر؟ وكيف عرف أبو الليل هذا اسر؟ ولماذا أخبرني به عندما التقينا في المقهى، مؤكدا على إمكانية عودته إلى الفيلا؟ هل لأنه يحتفظ بأسرار أخرى لم يرد إطلاعي عليها؟.."(ص.89.)

لكن على الرغم من الطابع الطقوسي لأفعال الشخصيات في يوم من الأيام سيتوقف ذلك الطقس بالنسبة لكل شخصية بما فيها السارد؛ بسبب الموت بالنسبة للعجوز الفرنسية والمهدي، بسسب السجن بالنسبة للسحار، بوغابة يتحول من راعي إلى بحار بعد أن طرده صاحب المزرعة. الكلب بلاش لم يعد ينبح فأبعده السارد بتعاون مع بوشتى. زواج زهور، مغادرة السارد الفيلا إلى فيلا أخرى. والزمن وحده كفيل بذلك:" صدمتني فكرة الزمن الذي يمضي غير مكترث بأحد."(ص.145.)

هكذا يتم نسج السرد على فكرة تعتمد على المرجع الموروث الشعبي المفعم بالعجائبية حول عالم الجن، مما وضعنا أمام نص روائي مغر بالقراءة.

الهوامش

1- قنديل بعاير(محمد)، النصف الضائع، دار إفريقيا الشرق، البيضاء/بيروت، 2003.

في رواية النصف الضائع

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى