الأربعاء ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٤
الجزء الثاني
بقلم سعيد أبو المعلا

من كشكول فلسطيني في القاهرة

مفارقات فلسطينية مصرية

وتتابع سباحتك الحرة في عاصمة تتمدد بتلقائية عظمتها، كطفل دخل الصف الأول دون أن يلتحق بروضة تؤهلة لذلك، فمن اعتاد على مدينة بحجم مدينة جنين أو نابلس يمكن "للمترو" نقل سكانها مرة واحدة في عرباته يكون بحاجة إلى دورة سباحة ليحترف التنقل، والتبعثر، ولعبة "الهضم"، والتعامل مع الصور والمشاهد بتكثيفاتها.

وتقول في نفسك: "هذه هي مصر"، وتصمت صمتا أكبر من حجمك.
ودون أن يشعر بك أحد في شوارع القاهرة التي يجب أن تتقن فك السؤال وطرح "كرته" عن المكان الذي تقصده في ملعب شرطي تستند على ارشاداته، وإلا ستبقى تلف على "الفاضي"، سيضيع يومك في توهان غريب محبب إلى نفسك.

تتداعي الذكريات عليك، وتشتم شارون في سرك، فهو كان سببا في منعك من القدوم إلى القاهرة عام 2002 للتدريب في مركز الأهرام بعد حصولك على منحة لذلك، فبقدوم "الاجتياح الكبير" في نيسان من نفس العام مع قدوم موعد سفرك، جاء كل شيء مخالفا لحساباتك، لم تسافر أبدا، بل بقيت "تنهش بعضك" ليس على ضياغ فرصة نادرة للسفر بل على ما حدث ويحدث "لضفتك".

وها أنت تحاول أن تجد شيئا تعرفه هنا... وتفشل...، تتمنى أن ترى شابا مصريا تعرفه، وحتى لو كان موجودا فأنت بحاجة إلى أيام عدة لتعثر عليه في هذا الصخب والزحام.

ورغم أن اليوم الأول حمل عنوان التعب والنوم الطويل، فقد جاءت ساعات الليل منه على "كوبري قصر النيل".

وحتى "الكوبري" كون حكايتك المؤلمة، لم تكن تتخيله جميلا بهذا الشكل (أي النيل)، كنت تراه عبر شاشة التلفاز صغيرا ومبسطا، وساعة عناق عينيك له أيقظ من ذاكرتك حلما بسحره، وقلت في نفسك نريد بحرا لنا في الضفة. "بدنا بحر يا جماعة، بدنا نيل زي مصر"، صرخت على "كوبري قصر النيل" ولم يسمعك أحد.

وصور المشاهد الرومنسية على "الكوبري" لا يمكن أن تشاهد مثلها في الضفة أبدا، إلا في حالة واحدة، إذا كان لنا نيل يشبه ما لمصر. ونحن بلا نيل، بلا نهر مهما كان صغيرا، حتى لو كان كدرب قبيلة نمل.
فهل باب الأمنيات مفتوح، لنتمنى أمام النيل، فأبواب السماء مفتوحة في رمضان وأسطورة النيل تضاعف ذلك.

حاولت التمني، فشلت لعلمك صعوبة ذلك، وما زلت تنتظر النتيجة التي لن تأت.

كيف لك أن تكون ندا أو صديقا في هذا الزحام، الحراك المشبع بالتعب والعرق والشخوص والصور، وتقول لأصحابك عبر تقنية "المسنجر" أنك تحاول أن تهضم القاهرة، وهي كبيرة كبيرة كبيرة، ولا تقارن بتجربتك التي تقرب من رأس دبوس.

ليقول لك صديق قديم: "تهضم إيه يا عم، ربما تهضمك القاهرة قبل أن تهضمها".

فلا يمكنك هكذا "بيوم وليله" أن تحفظ الشوارع والأحياء والأسماء والميادين، وتقتنع بذلك عند أول مشهد مضحك مر به شريط حياتك في هذا المكان.
وتبقى تحاول أن تصنع خريطة للمكان الذي تذهبه حتى تعوده دون أن تكلف أحد عناء مساعدتك.

وتحاول أن تحفظ المكان الذي تسير فيه، الذي تطأه قدمك، تؤسس لحالة رائعة فيك تتمثل بفن الاكتشاف، الحتت والحارات الشعبية والأحياء الراقية والصحراء والصعيد، كل مصر ستتكشف لك، وستكشف هي حجمك، ومدى قدرتك على التأقلم والتفاعل والتجانس. وتتفاعل مع عبارة "فرجيل" الذي قال: "كم هو سعيد من يستطيع البحث عن مسببات الاشياء" لتنطلق بحثا عن اجابات، فكل ما يوجد أمامنا وكل ما يوجد في غير متناولنا شيء بسيط جدا للغاية إذا ما قورن بما يوجد في نفوسنا كما ردد "رالف أمرسون"، وهذا يعني أننا نمتلك الطاقة، وتبقى الحكمة من خلال الملاحظة.

وتسخر من خلال المقارنة بين واقعين ضاحكا برفقة رفقاء دربك قائلا: عدد السيارات في القاهرة يساوي عدد السيارات في فلسطين، وتقول أيضا: في فلسطين لكل مدينة "مترو"، وتقول: كل شيء موجود هنا هو موجود في فلسطين حتى النيل، وتتذكر حادثة طريفة حدثت مع ملك الاردن الراحل الملك "حسين بن طلال" أثناء تواجده في جمهورية الهند عندما سأله أحد الصحفيين عن عدد سكان الأردن، وكان في حينه أقل من ثلاثة ملايين نسمه، ليرد عليه صحفي اخر ضاحكا: "لماذا لم تأت بهم ضمن زيارتك، سنضعهم في فندق يجاور فندقك". وهكذا حال عدد سكان فلسطين مع مصر.

وأضحك... وأضحك... هههههههههه.

وتسأل من يصادفك في مصر "وين مركز مدينة القاهرة"، ولا أحد يجيبك، وتسأل "وين حنروح اليوم، واللي بعده، واللي وراه"، وكل شخص يعطيك أسماء، وتكبر لديك رغبة اقتحامها قبل دخولك في برنامج الدراسة الذي قدمت لأجله.

فهنا فقط يمكن أن تعلن أنك تملك نفسك ووقتك وخياراتك المفضلة، وتطول القائمة: المتحف الوطني، الحسين، ستنا زينب،الاسكندرية، النيل، شارع الهرام، والأهرام، مدينة نصر، جامعة القاهرة، وجميع الأسماء التي تحفظها، وتريد أن ترى كل شيء في مكانه، ومن زاويتك الخاصة، وأنت النهم إلى كل شيء، وتطلب المزيد.

وتتساءل: "هل يفهموا "جوعك" عندما يروا نهمك في الاكتشاف؟ وما حكمهم عليك إذا لم يتفهموا هذا "الجوع" والنقص الفظيعان في تفاصيل الحياة الحقيقة وأساسياتها، وكل العيون عليك، "فلسطيني ويضحك"، و"يأتي ليزور المناطق"، و"يرش على الموت سكر"، "يعيش حياته عادي أوي".
وكأن هناك استكثارا لذلك.

وكأن هناك صورة نمطية مختلفة عن الفلسطيني، ويصعب التعامل معه بغيرها.

شاهدت ذلك، كان هناك دهشة أو صورة تقول أو تستكثر ذلك، ونحن كما قال محمود درويش: "نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا".

وللأسماء رنة في دماغك التي نصحك زميلك بخصوصها أن لا تحفظ ولا تحاول حفظ ما تمر عليه من أسماء شوارع أو مناطق أو أبنيه...وووووو، لأنها ستترسخ في بالك بمرور الأيام.

وتختلف عليك الأسماء في تعاملاتك الحياتية، لتدخل عراكا جميلا، وعليك أن تقول "عيش" بدلا من "خبز"، وهو مختلف كثيرا عن ما تتناوله في الضفة الغربية، و"طعمية" بدلا من "فلافل"، وهي لا تشبه "فلافلك" في شيء، لدرجة أن الحمص لا يدخل في مكوناتها، و"جنيه" بدلا من "شيقل" وهو العملة الإسرائيلية المستخدمه في الأراضي الفلسطينية، و"زلابيه" بدلا من "عوامة"، وحتى "الكنافة" لا تشبه "كنافة" مدينة نابلس المشهورة إلا في الاسم طبعا، و"طماطم" بدلا من "بندورة"، و"ميكروباص" بدلا من سيارة "الفورد"، و"زبادي" بدلا من "اللبن"، و"كشري" بدلا من "مجدرة"، و"بص" بدلا من "شوف"، ووووووو، وأصبحت تعيش أزمة مصطلحات تدخل الدعابة وتكسر رتابة أيامك، وتحول حروف وتحديدا مع "الجيم" لتقلبه (g) (أي الجيم المصرية) كما تناولتها طفولتك في المدرسة.

وتقارن بين الصورة النمطية التي حصدتها من خلال الأفلام والمسلسلات وما قرأت عن مصر، وبينها هي كما هي، كما تبدو أمامك ناضجة، مدهشة، ومتناقضة حد الاشباع، وفيها غبار أسود يفسد كل شيء.

وتحاول أن تتمالك نفسك أمام كل مكتبة، أمام رغبتك في التهام الكتب، و"تنبيش" الصحف وقلبها، وهذا يضعف تحذيراتك كلها المتعلقة بالناحية المادية، وأمام سطوة رخصها وحجم فائدتها ينشرح صدرك، فهذا غير موجود في "ضفتك أيضا"، وحتى لو كان موجودا فإنه سيصل متأخرا.

وهناك حوالي 200 صحيفة بين يومية واسبوعية ونصف شهرية وشهرية. وتأخذ تلف وتدور باحثا عن صحيفة تستسيغ خطابها وتتقارب اخراجيا من صحف اعتدت "تنتيفها والتهامها"، "صحيفة الأيام" الفلسطينية مثلا.
وتقول لأصحابك في مصر والذين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة "أنا في مصر"، ولا يصدقون، ويدعونك للقاءات حارة، وتعدهم وتوف بنصف وعودك، والباقي في قائمة المواعيد.

القاهرة لا تنام، وحتى وقت الإفطار، وحتى الناس لا تكف عن الحركة، وتتساءل عن هذه المدينة التي لا تنام أبدا، و"ضفتك" هناك يفترض بها أن تنام باكرا للغاية، في جنين أو أي مدينة فلسطينية باستثناء "رام الله"، يجب أن تكون في منزلك بعد العشاء، وأنت مغامر إذا خرجت ليلا، فالليل ليس للفلسطينيين بل "لعلب الحديد" التي تقتحم المساكن وتدخل إلى حيث كل نور.

وتترك مقهى "جهينة" في "الحتة" الشعبية التي انقدت لها بعشوائية مشوار المساء، بعد أن تكون قد نثرت صوت "أم كلثوم" كثيرا، وفي طريق العودة إلى سكنك يكون الجوع قد تسلل إلى معدتك "وقرقع صمتها" لتجد في "جنيه" فول ضالتك بالليمون والملح، حيث المأكول الذي يعادله في "ضفتك" صحن "الحمص المدمس" وهو الذي تفتقده القاهرة كلها.

وعند النوم يتحول كل شيء إلى ومض في ذاكرتك، كل الصور وتفريعاتها تصبح وميض يستدعي الذاكرة وجهودها.

غداة النوم لا تنام، تبحث عن ملامح ليومك الفائت، والقادم أيضا، النوم الذي لا يأتي إلا بعد الساعة الثالثة ليلا...وتحاول استعادة التفاصيل والوجوه والأشياء، و"ينهبك" النعاس غصبا.

وتنام على أمل، وتتراكض الأحلام بك.

وتستيقظ على مقولة روبرت كولييه "لا يوجد شيء واحد أنت عاجز عن الحصول عليه في هذه الدنيا ما دمت مقتنعا ذهنيا بإمكانية الحصول عليه".
وتكتشف ختاما أن الهاجس زال، فأنت في دولة عربية، مختلفة ربما، قالوا لك عنها "انها ستقلب كيان حياتك قلبا بـ360 درجة".

هذا ليس حكما أبدا، إنه ملامح أولية رسمت بعفوية تامة، وبعد ان تتعمق العلاقة مع المكان وأرواحه سيكون للاحساس روعة مشهد قارئي القرآن في "المترو" الذي شدك بسرعة كسرعته واحتوائه للأجساد الطيبة والمتعبة.

مفارقات فلسطينية مصرية

مشاركة منتدى

  • السلام عليكم
    في البداية دعوني اقدم الشكر لموقع ديوان العرب على ما يقدمه لنا من مواد مستصاغه الهضم، اما بعد:
    فأشكر الاخ سعيد ابو معلا على هذا الموضوع الشيق، الذي يربكنا بتفاصيله الشيقة، المعبئة بكرز احمر اللون، يعجبني نقده للواقع، واتمنى له مستقبل مزهر
    مع كل الاحترام
    خلف خلف- فلسطين

  • السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    استمر أيها الفلسطيني السعيد في القاهرة الشقي الوطني في نابلس
    أمة الله من غزة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى