الأحد ٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٨

من مقدمة ديوان «على ضفاف السراب»

إبراهيم سعيد السيد

كم في الزوايا من خبايا!

عرفت هذا الشاعر المُفْلِق من خلال تدريسي لمادة البحث الأدبي واللغوي لطلاب قسم اللغة العربية بكلية الآداب – جامعة جازان، وكنت قد طلبت منهم إعداد بحث علمي عن شعراء جنوب المملكة، فجاءني الأستاذ محمد عكيري، -وكان محمد وقتئذ طالبًا من طلابي- طارحًا فكرة بحثه عن الشاعر عيسى السلامي، وليس له –حينئذ- ديوان مطبوع، فشرطت عليه أن يأتيني بالمجموعة الشعرية موقعة بخط يد الشاعر، ففعل، فلما طالعت شعره إذ بي أمام مبدع يستحق أن نقرأ له، وأن نتدارس أدبه الماتع، وأن نطالع رؤيته للحياة، فعَلِقَ في نفسي قول القائل:(في الزوايا خبايا)، وزاد يقيني بأن أمَّتنَا العربية ولادةٌ دائمًا، لا تتوقف عن العطاء في كل فروع المعرفة.

الشاعر في سطور

ورد في الخصائص لابن جني أن أبا عليٍّ الفارسيّ قال يومًا: اذْكُرُوا لنا بيْتًا من الشعر نبحثْ فيه، فابتدرَ ابنُ جني وأنشدَ:

حُلتِ دُونَ المَزارِ فاليومَ لوْ زُرْ
(م)
تِ لحالَ النحـــولُ دونَ العِنَــــاقِ()

فاستحسَنه أبو علي واستعاده، وقال لمن هذا البيت فإنه غريب المعنى؟ فقال ابن جني هو للذي يقول:

أَزُورُهُمْ وسَوادُ اللَّيــــلِ يَشْفَـــعُ لِي
وأَنْثَنِي وبَياضُ الصُّبْـِــــحِ يُغْرِي بِي()

فقال أبو علي: والله، وهذا أحسن! بديع جدًّا! فلمن هما؟ فقال ابن جني: هو للذي يقول:
أَمْضَى إِرادَتَــه فَسَـــــوْفَ لَهُ قَدٌ

واسْتَقْـــرَبَ الأَقْصَى فَثُمَّ لَهُ هُنَا()
فكثر إعجاب أبي علي واستغرب معناه، وقال لمن هذا: فقال ابن جني هو للذي يقول:

ووَضْعُ النَّدَى في مَوضِع السَّيفِ بالعُلا
مُضِرٌّ كَوْضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدَى

فقال: هذا والله أحسن، ولقد أطلت يا أبا الفتح، فأخبرنا من هذا القائل؟ فقال ابن جني: هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله، ويستقبح زيه وفعله، وما علينا من القشور إذا استقام اللب! قال أبو علي: أظنك تعني المتنبي، قال: نعم"().
وإذا سألتني –أيها القارئ الكريم- عن الشاعر فأُحِبُّ أن أقدمه لك ببعض أبياته، فأقول لك: هو الذي يقول:

أنا حــالـــمٌ، لكنَّ حلمي قد غَـَدا
مثلَ الســـــــــــرابِ، وزهرُ آمَــــــالي ذَوَى
أَبحرتُ في لُجَجِ الغَرامِ،مَراكِبي
غَرِقَتْ وصوتُ الرِّيحِ في سَمْعِي عَوَى

وهو الذي يقول:

قد لُمْـــتُ أهْلَ الهَوَى حتَّي بُليتُ بِهِ
فصِرْتُ في صَمَمٍ عنْ لائِمٍ عَذلِ
بذلـــتُ رُوحي فِداءَ الحبِّ من زمـــنٍ
عَلِّي أَعُــــــودُ وقد زَالتْ بهِ عِلَلِي
فكنت من سَلَّ سيفَ الهجرِ في صَلَفٍ
على فؤادي فجُرْحِي غيرُ مُندَمِلِ

وهو الذي يقول:
سَلِي الكثيبَ الذي قد كنتُ عن كَثبٍ
منه أُلاقِيك والأَطْيـــــــــــــــابُ تنهَمِرُ
والليــــــــلُ يبســــــــــمُ للنَّجْــــوى وأنجُمُهُ
تُصْغِي ويُهْدِي إلينا ضـوءَه القمرُ
واليومَ قلبيَ يَقْتـــــاتُ الأَسَـــى، ولَهُ
دَمْعِي الشَّرابُ وبالآهــــاتِ يَعْتَصِرُ

وهو الذي يقول:
أقمتُ للفرحِ المزعومِ أَشْرِعَتِي
والليلُ ينصب والأَوهامُ والشَّرَكُ
ركبتُ زورقَ أحلامِي فأَغْرَقَهُ
يأسٌ ودَاهَمَهُ في بغتةٍ حَلَكُ

وهو الذي يقول:
يا شَاعرًا شَاخَتْ الآمالُ في طُرُقِهْ
لم تُصغِ دُنياهُ من كِبْرٍ إلى حرقه
كم ظلَّ ينفثُ آلامًا ويُرْسِلُها
لكنَّهَا بقيتْ حَصْرًا على وَرَقِه
وبَعْثَرَتْهُ ليالي الوجدِ مِنْ أَسَفٍ
حتَّى انثَنَى مُوجِعًا يَهْفُو إلى مزقه

وهو الذي يقول:
أنا راهبٌ في الحبِّ كلُّ مطامِعِي
أَنِّي أَعِيشُ على ظِلالِ الصَّوْمَعَة
أنا مُذْ رَحَلْتِ ولي رؤًى مشلولةٌ
والأمنياتُ على الطَّريقِ مُشَيَّعَة
ذَرُّوا هَوايَ مع الرياحِ وأَوْصَدُوا
فِي العِشْقِ نافذةَ الحنِينِ المشرعة
إِنِّي نزفتُ مَدى الزمانِ قصائدًا
هي من أَنِينِ القلبِ ظَلَّتْ مُوجَعَة

هو الشاعر عيسى بن إبراهيم بن حسين السَّلَامِي، من مواليد مدينة تبوك عام 1387من هجرة سيد الناس صلى الله عليه وآله وسلم، الموافق 1967ميلادية، نشأ الشاعر في قرية مسلية، ودرس فيها المرحلة الابتدائية. عاد بعد ذلك إلى مسقط رأسه تبوك عام 1402هـ/1982م؛ ليلتحق بالمعهد العلمي الذي يعرف بقوة مناهجه الدراسية، وبخاصة في علوم الشريعة واللغة العربية، وقد صادف هذا هوى في نفس الشاعر؛ فقد كان شغوفًا بالعربية وعلومها، وتحقق له ما كان يصبو إليه منذ حداثة سنه.

لقي شاعرنا في المعهد العلمي تشجيعًا من معلم اللغة العربية، فقد درس على يديه البلاغة والنقد والعروض والقافية، ولمس فيه معلمه الموهبة الشعرية، فشجعه على نظم الشعر مباركًا خطاه.

ومن اللحظات المؤثرة في حياة الشاعر أن معلم اللغة العربية أراد أن يقدم موهبته الشعرية للمدْرسة، فقال لطلابه: من ينظم قصيدة شعرية من إبداعه فسوف يشارك بها في الحفل المدرسي، وله عندي مكافأة، وفي الغد نظم شاعرنا قصيدةً، وقدمها لأستاذه، وكان وحده من تقدم بذلك، فشكره أستاذه، وكافأه، وقام بكتابة قصيدته على السبورة، وقطعها عروضيًّا ليتأكد من سلامة وزنها الموسيقي، فلم يجد فيها بيتًا مكسورًا، وكان هذا الموقف النبيل من أستاذه بداية انطلاقه في نظم الشعر.

تخرج الشاعر في المعهد العلمي عام 1407هـ، 1986م، وانتقل إلى أبها ليلتحق بكلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وبعد تخرجه فيها عاد إلى تبوك معلِّمًا في إحدى مدارسها لمدة سنة، عاد بعدها إلى أبها عام 1414هـ، 1993م، وبقي فيها إلى عام 1420هـ، 1999م، ليحط رحاله في قرية مسلية، وليواصل مهنة التعليم في ثانوية الفطيحة.
وأما عن مشاركاته الشعرية فقد نشر أولى قصائده عام 1421هـ، 2000م، 2005م، في ملحق الأربعاء في صحيفة المدينة، ثم تتابعت مشاركاته في هذا الملحق، كما شارك في العديد من الأمسيات الشعرية، وفي عام 1426هـ، 2005م، شارك في الأمسية التي أقامها نادي جازان الأدبي بمناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية.

وفي عام 1429هـ، 2008م، شارك في برنامج (أوراق شاعر)، حيث كانت تبثه قناة الأثير، وقد منحه المثقفون في قرية مسلية ثقتهم، فأسندت إليه ديوانية مسلية الثقافية والاجتماعية.
تأتي هذه المجموع لتكون أولى مجموعاته الشعرية التي ترى النور، ولدى الشاعر مجموعات شعرية أخرى، وعدنا بإخراجها، لتكون إسهامًا ثقافيًّا شعريًّا بإمارة الشعر، جازان الطيبة.
هذا الديوان

"على ضفاف السراب" اسم يحمل بداخله صورة بديعة، ومفتاحًا ناجعًا في فكِّ شفراتِ النصِّ الشعورية، وهو عتبةٌ مضيئةٌ لأزقةِ الديوان ومنعطفاتِهِ الداخلية، واختيارٌ يتصل وجدانيًّا بما يعانيه الشاعر من لواعج. إنها شبه جملة وقعت خبرًا لمبتدأ محذوف، ترك الشاعر ذكره لتذهب فيه النفس كل مذهب، ولنا أن نتصور أن تقديره: أنا، أو أحلامي، أو غاياتي،...إلخ، إلى أن يطالعنا الشاعر بقوله:

على ضفافِ السَّراب المَوعدُ الآتي
كلُّ المواعيدِ تاهتْ دونَ غَايَاتِي
كَمْ جئتُ أركضُ للقيَا على أَمَلٍ
أن يعشبَ الوصلُ في حقلِ انتظَارَاتِي

فقطع علينا شيئًا من الظن، لندخل معه -في إشارة منه- إلى توصيف حالة وجدانية متصلة غير منقطعة، حالة تعاني من ذبول الأمل، وانزواء الآمال، إنها حالة مسيطرة على خلجات النفس، ودافعة إلى تقديمها للقارئ في محاولة استتار وترميز، لكن ثوبها يشف عما يواريه بشيء من الخيال الخصب، واللفظ العذب، والصورة البديعة. نلمح قسمات تلك الحالة في قوله:

حَمَلتُ أمتعةَ الأحلامِ في سفرٍ
مُضْنٍ فَعدتُ وفي الأحشاءِ خَيْبَاتِي
صَدَّقْتُ لمعَ سرابٍ كنتُ أَحْسَبُهُ
ماءً سَيُطْفئُ نيرانَ المعَانَاةِ
مددتُ لليأسِ في الأضلاعِ أشرعةً
فكنتُ أُبْحِرُ فيه دُونَ مَرْسَاةِ

إن اختيار هذا الاسم (على ضفاف السراب) ليكون عنوانًا لهذا الديوان لم يأتِ عبثًا، وإنما هو اختيار مقصود، حامل لكثير من الإشارات التي تشي بالكثير من المعاني، كما أن هذا الاختيار هو بمنزلة الضوء الكاشف لكثير من معطيات المضمون الشعري في هذا الديوان كما سيتضح.

أربع وعشرون قصيدة هي عدد قصائد هذا الديوان، تتراوح ما بين الحجم القصير والمتوسط، جمع الشاعر قصائده من حقل دلالي واحد، فكلها تنتظم في مسار الوجدان، وكأنه بذلك ينقلنا من وحدة النص إلى وحدة الديوان.

إبراهيم سعيد السيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى