الجمعة ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم عبده حقي

مهد في مهب الثرثرة

ضاق الدرب على الرؤية.. حتى الدرب شاخ وغارت تجاعيده على الحيطان.. الزمن طعن فيه..
وهم طعنوا في السن أوطعن فيهم.. فلا أحد منهما يدري من طعن في الآخر...

بشررأيتهم يسحبون خطواتهم متثاقلين.. مستسلمين لمنحدرات الحياة.. منعطفاتهم المألوفة في غباء عادات شيقة.. المنعطفات التي أتعبت بشرا قبلهم، تنهكهم الآن كأنما تقتص مما تبقى من نزقهم القديم أو كأن بالدرب معركة حياة لم تبدأ أو كأنها بدأت في صمت ولم تنته بعد...

الشمس لم تنتظره.. ودعته خلف سطوح الحي الخلفي الذي تشبه بيوته قطارتيكساس الرابض منذ القرن التاسع عشر.. ودعته من دون أن تعده بغد ليس ككل الأيام. أما هو فلم يكن مستعدا ليبسط لها مدونات سنينه التي تراقصت شموع لياليها على أنين الألام المسائية.

.. وهو في المنحدرلم يتذكرإثرئد ماشكل الشساعة القديمة في مخياله والتي لم يجرؤ أي بطل صغيرعلى إفتضاض حدودها لحد الآن.. لم يصدق أيضا أنها ضاقت برؤياه، فهل إتسع الخطو أم ضاق الدرب!؟؟

المغيب لم يتزحزح عن أفقه.. أمست غلالته الخزامية ضاربة على أبواب البيوت الواطئة.. بلونها البنفسجي الملغز..

سارالرجل إلى رأس الدرب وسرعان ما أحس بانهيارجواني حين إختفى البيت أمامه.. لم يجد هناك بيته القديم.. أجل ماعاد البيت هناك..

وسرعان ماافتقد نزوة ركضه القديم على صهوة القصب لمشاغبة مزالج الأبواب.. للبحث عن صداقة حيطان جديدة.. لمذاق فاكهة السفرجلة في الفناء وحصرم عناقيد الدالية المتدلية على حاجبي نافذتين تترقبان عودة الرتاج من غابة بعيدة...

لم يجد هناك غير يافطة إعلانات وحانوت لبضاعة الكلام. وفي لحظة ما توقف فجأة أو كأنما كان مجبرا على التوقف وفاضت عيناه بالدمع فجأة ثم فجأة بدتا قرمزيتان مثل حبتي رمان.. فجأة كل الأعضاء فيه.. كل الخلايا فيه كانت تبكي.. كل ماضيه كان يهتف.. كيف إذن يستخرص العالم ليسمعه حكاية مهد صارحانوت لبضاعة الكلام...

كان الحانوت خال من عبارات الإعتذاروالمواعيد المخذولة في المنعطفات الخلفية..المعتمة.. خال من رنين الحوصلات المعدنية...لم يكن غيرصدى لبقايا كلام.. وكأنه أحس بأقدامهم تمشي على صدره.. كأن بضاعتهم كانت تفسد وسنة طفل شاخ في قرارته وتنتزعه من أرجوحة تهويدة
لذيذة.

حين جلس على الكنبة شعربزلازل في الأعماق حين أتلفوا أيقونة الكف المشنوقة على خصلة الجبين.

هوالآن بين رحم مهد ورحمة بضاعة الكلام.. يعود به الزمن ليلف ساقا بساق ويهمس في نفسه : من ضغط على زرالزلزال.. كيف بمهد يتحول إلى حانوت لبضاعة الكلام وثرثرة عن مواعيد لاتنضج وأوجاع من زمن ينساق تحت سياط التلفاز.

هنا كان مصباحه الأحمرالصغيرسهرانا وحارسا لأحلامه... هنا كان قلبها يحصي نوبات السعال الديكي في صدره العليل..

تردد وتردد قبل أن يبوح للرجل المحتل بسره الأليم.. مخاضها هنا في هذا الركن.. ووجع الليالي هناك.. ثم دوي الصرخة على عتبة نكبة الحياة.

تحدثا عن بشرماتوا وبشرسوف يموتون وبشرولدوا وبشرسوف يولدون وفجأة إستغرقا في القهقهات والضحك على ذقن الكوكب الذي يدورويدوركقط يعض ذيله، ثم إسترجع الرجل المحتل أنفاسه وقال : إذن هنا مجدت النساء سقطتك من السماء بالزغرودة النشوانة.. ولم يشعرإلا والذكرى تنزل ثانية من سماواتها كالنيزك الحارق إلى الحدقتين اللتين إغرورقتان مرة أخرى بالدمع وتساءل في سره كيف عن لهم أن يفتلوا الحبل السري بحبل معدني لاتسري في عروقه سوى ذبذبات عن مواعيد لاتنضج وأوجاع من زمن ينساق تحت سياط التلفاز...

لو أدركت فجيعته الآن.. لو.. لكانت قبل هذا الزمن وضعته في صحراء بعيدة.. تحت جذع نخلة.. بعيدا عن زمن حرب يسقط فيها الكلام صريعا كل لحظة.. لوأن مخاضها يعود.. لوأن البيت الذي كان دافئا كفرن في إسترخاء.. لوأن الجنة المفقودة لم تصطفق بوابتها في وجهه.. لوصارجسده جرافة في غابة الكلام.. وتذكرأنها كثيرا ما حدثته عن نوبات السعال الديكي الليلية وعيناهما ساهرتان ترشقان بوم الأرق الرابض على تعريشة الدالية. قالت فجأة خمد جسدك الضامرعلى صدري ذات ليلة ماكرة، فرأيناك تلملم جسدك، متاعك.. مهدك وكراسة لم تخط عليها إسمك بعد.. حتى معزوفة السعال الديكي الأنيسة خبأتها في حقيبة صدرك ورحلت.. رحل.. رح.. ر..

لاشك أنهم بكوا عليك قليلا.. بكوا حين مددوا جسدك على لوح العجين النيء وطهروك بماء دافئ ممهوربعبق الورد.. ثم فجأة ومن دون أن تدري ومن دون أن يدرون ومن أن يدري العالم حتى قفلت هابطا من الجنة.. حين ذاك أيقنوا بل أيقن العالم أنك جديربمهد سوف يكبرليمسي حانوتا لبضاعة الكلام عن مواعيد لاتنضج وأوجاع من زمن ينساق كل تحت سياط التلفاز...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى