الخميس ٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم جمال القيسي

ميسون

في وسط المدينة.. في الشارع الكبير المكتظ بالوجوه والألوان والصخب، والضاج بالحياة، تلاقت نظراتنا. ابتسمنا متقدمين نحو بعضنا• تصافحنا بصمت وحرارة، تعانقنا، وضحكنا بصورة لافتة للأنظار ••ضحكنا أكثر في غمرة الأسئلة والذكريات التي تدفقت دونما هوادة...
كنا رفيقا طفولة عذبة •

كانوا يدعونه (أبو علي) وكثيرون لا يعرفونه إلا بهذا اللقب، حتى أساتذة المدرسة الذين يعرفون أنه (إبراهيم) كانوا يدعونه (أبو علي(

صديقي الصدوق هو ولا أعي أننا أختلفناعلى شيء، نحب نفس الألعاب، ونطلق نفس التعليقات، ونشجع نفس النادي في لعبتنا الأحب كرة القدم، ونشجع نفس اللاعب، ونقلده هو لا غيره••

وكنا أيضاً نحب نفس البنت ـ ميسون ـ كثيراً ما تخاصمنا، وتمتد الخصومة بيننا أياماً لا نكلم بعضنا •• ولطالما كان سببب الخصومة تافهاً• لكنه آنذاك لم يكن تافهاً؛ فذهابي إلى المدرسة صباحاً برفقة غيره سبباً وجيهاً لكي يخاصمني، وذهابه إلى بيت إحدى شقيقاته ليبيت عندهم ليلتين كاملتين دافعاً قوياً لأخاصمه...

وحدنا دون وساطات نتصالح، فما أن أبدأ اللعب بالكرة في ذلك الزقاق حتى يصعد درجات بيتهم ليكون وسط الزقاق !
يجلس قليلاً حتى إذا اصطدمت به الكرة أعادها إلي بكل براءة وعلى محياه فرحة زوال الخصومة •
تصطدم به الكرة أو أصدمها به فيعيدها بطريقة من يلعب، ثم نبدأ اللعب، ونتعاتب أثناء اللعب أرق العتاب، وبكلمات قصيرة وينتهي كل شيء • ونجلس لنتحدث عن ميسون ـ حبيبتناـ التي لم يحدث أي خلاف حولها أو على شراكتنا النقية الطاهرة في حبها•

ميسون لم تشهد أية أخطاء أو تلاعب في جداول الربح والخسارة، وكان أروع ما يمد في عمر هذه الشراكة الإنتماء الشديد من كلينا إلى حبها•

حتى كان يوم أسود في تاريخ الحب!
صارحت إبراهيم وبكل صدق بأنني أرغب في أن أحب ميسون وحدي، فخاصمني، واشتدت خصومته لي وزادت عن حدها المعتاد، لم أره كئيباً كتلك الأيام• تغيّرت حركاته وتضاءلت مشاركته لي في اللعب، وحتى كلماته القليلة باتت باهتة باردة بعد أن بحت له بسري المخبوء• وسدر في حرده مني وصار لا يكلمني ولا أكلمه •

علم الأصدقاء بالخصومة وعلم الأعداء، وتدخل الأصدقاء لأصلاح الأمر، وتدخل الأعداء ليزيدوا من غلوائها، غير أن جهود الجميع باءت بفشل ذريع حين أمسكنا عن البوح بسرنا لأي منهم ـ دون اتفاق ـ •

إلى أن تدخل شقيق إبراهيم الذي يكبرنا بضع سنين مستفسراً، ولعل فضوله لم يتركه دون الوقوف على لب الأمر وكنهه، فحاول استدراجي مراراً ولم يظفر بما يشبع فضوله، وعلمت أنه لا يترك إبراهيم حتى يعود إليه لمعرفة سر الخصومة غير العادية بيننا •

كبيراً كان إبراهيم عندما كسر طوق الخصومة وأسرَّ لي أن لا أفشي السر الحقيقي لشقيقه أو لغيره مهما كانت الظروف، ولم يكن سوى هذه الوصية كسراً لتلك الخصومة القاسية الأليمة •
وحفظت وصية إبراهيم، لكنه لم يكسر طوق الخصومة، وكنت كلما طالت الخصومة وازددت إخلاصاً في حفظ السر، تمنيت لو يقابل هذا الإخلاص بشيء من الوفاء والكرم • وأن يصالحني • لكنه لم يفعل •

عندها حقدت عليه، وقررت أن أفشي السر نكاية بقسوته التي آلمتني وجعلتني أكرهه•
بعد وقت خلته طويلاً التقيت شقيق إبراهيم الذي من يأسه كان قد نسي الأمر، وخرس فضوله، وما أن ألمحت له عن أمر خصومتي مع إبراهيم حتى تهلل وجهه وعاد فضوله من جديد•
حكيت له حكايتنا مع ميسون،قلت له بعناد والدمع يترقرق في عينيّ:
ــ أريد أن أحب ميسون وحدي دون إبراهيم لأني أحبها أكثر•
ابتسم، ورنا إلى الأرض، وما خبتْ ابتسامته بل اتسعت، رفع رأسه الكبير كحكيم، ولمحت ــ لا أدري كيف ــ في نظراته ميلاً لمحاباة إبراهيم•• هكذا أحسست •

قال بكل ثقة :
ــ بصراحة أنا أرى أن إبراهيم أحق منك، ليس لأنه أخي فقط، ولكن لأسباب عديدة•
شهقت فلم يسمع أو لم يأبه • فاسترسل :
ــ تعلم أننا مستأجرين عندهم • وإنها دائماً تأتينا من أهلها بالهدايا المختلفة، من طعام وحلوى • وأنها تلعب مع شقيقاتي في بيتهم طوال اليوم، حتى أن أختي الآن •• الآن• تلعب معها•
إختل توازني أمام حججه الداهمة الدامغة، وشعرت أنه محق، وحسدته على أنه كبير وفي المرحلة الإعدادية ويعرف أكثر منا، وحزنت كثيراً •
عدت إلى البيت أحبس دموعي، وفكرت أن أعود إلى إبراهيم وأبقي الأمر على ما كان عليه بأن نحبها معاً، لكنني قررت هذا وحدي، وقد لا يوافق إبراهيم •

مساءاً صرت أرتجف، وأصابتني حمى شديدة • من خلال الشباك المطلّ على بيتها رأيتها تنزل إلى بيت إبراهيم،ففرَّ النوم من جفني،و أخذت أبكي، والحمى تزداد، وأنا أتصبب عرقاً من كل أنحاء جسمي ••
استيقظت أمي وأخواتي على حالتي تلك، وأخذت أمي تقرأ على رأسي التعاويذ من طاسة (الرعبة)•
دفنت رأسي في الفراش •
وكنت أحس حلقي جافاً وغاصّاً بالعبرات، ولا أقدر على الكلام، ولا أدري أطال دفن وجهي وستره بالأغطية أم قصر! غير أني أعي تماماً بأني قلت لأُمي والدموع تنحدر فوق خدي بكلمات كلها رجاء :
ـ امّاه أقنعي أبي بالرحيل من بيتنا لنستأجر عند أبي ميسون •


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى