الخميس ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم رانية عقلة حداد

ميلغرام... هل نحن بهذه البشاعة؟!

في ستينات القرن العشرين، وبينما كانت الولايات المتحدة منهمكة بالدراسات العلمية، والبحوث في مختلف الميادين، كان أحد الإعلانات في واحدة من الصحف الأمريكية، يتضمن دعوة إلى الراغبين بالمشاركة في تجربة علمية - هدفها الأول والأخير خدمة العلم - للحضور إلى المقر الذي ستجري فيه التجربة، لقاء أجر مادي بسيط يدفع لهم.

تهافت الناس للمشاركة ولا أحد يعلم ما إن كانت الدولارات القليلة - التي سيحصلون عليها - هي التي تتصدر سلم أولوياتهم أو هاجس خدمة العلْم.

هذه التجربة والتي قام بها الباحث الاجتماعي (ميلغرام)، والتي سميت باسمه، تم تسجيلها على شريط سينمائي، عُرف فيما بعد هذا الفيلم باسم (ميلغرام)، وقد حافظت الحكومة الأمريكية على إبقائه طي الكتمان، ولفترة زمنية طويلة، نظرا لخطورة الفكرة _ موضع الدراسة - والنتائج المتعلقة بها، وباعتباره أحد البحوث السرية التي تقوم بها لدراسة، ورصد أنماط سلوك الناس إزاء المهام الموكلة إليهم، وفي رؤية اعمق إزاء إطاعة السلطة.

(ميلغرام) فيلم تسجيلي مهم، بالأبيض والأسود، غير أن أهميته لا تنبع من الأسلوب السينمائي الجديد، او من التقنية الفنية العالية المستخدمة - لم تستخدم فيه زوايا تصوير او لقطات متنوعة، اقتصر التصوير على فضائين؛ قاعة الانتظار، وغرفة التجربة، الأسلوب الفني تقليدي - فلم يُعنَ الفيلم بهذا على الإطلاق، إنما بالفكرة التي هي مثار البحث، والتي على أساسها يمكن تصنيف الفيلم على انه من نوع سينما الحقيقة، وسينما الكوميديا السوداء حيث وبأسلوب الكاميرا الخفية تم تسجيل، ورصد ردود أفعال المشاركين إزاء المهمة الموكلة إليهم دون علم منهم؛ فجاءت عفوية دون رتوش، لتغدو عين الكاميرا جسر عبورنا إلى أعماق الذات الإنسانية، ودليلنا لنبحث من خلالها عن ردود أفعالنا، عن ذواتنا نحن، فتضعنا في مأزق امتحان الصور، لا نعرف فيه أي تلك سنختار لتكون مرآتنا.

تستعرض الكاميرا وجوه المشاركين كل في انتظار دوره، لتنتقل بعدها إلى غرفة التجربة، حيث يدخل المشترك برفقة أحد القائمين على البحث، يغلق الباب ليجد نفسه أمام طاولة مليئة بالأزرار، و فوقها مجموعة من الأسئلة، ومهمة موكلة إليه تتعلق بشخص آخر - حيث تم إفهام المشاركين انهم ليسو موضع التجربة إنما ذاك الشخص المتواري خلف الجدار في الغرفة المجاورة - عليهم مساعدتهم لدراسة ردود أفعاله، وعليه يبدأ المشترك بقراءة الأسئلة الموجودة على الورقة عبر الميكرفون، ليرد عليها ذاك البعيد خلف الجدار المقابل، فتصل الإجابة للمشترك عبر السماعة، فإذا كانت إجابته صحيحة تم الانتقال إلى السؤال التالي وهكذا، ولكن ماذا لو كانت الإجابة خطأ؟ هنا وبأمر من المرافق على المشترك أن يضغط على الزر الأول، والذي يتم إعلامه مسبقا بان جميع الأزرار مرتبطة بتيار كهربائي، مرتبط بدوره بجسد الشخص الآخر، الزر الأول بمقدار فولت معين، فأي إجابة خاطئة جديدة يترتب عليها الانتقال إلى زر آخر جديد بفولتية أعلى وهكذا ...

وهنا تأتي الفكرة الخطيرة واللافتة للنظر في الفيلم، والتي تسترعي الاهتمام، وبحسب النسب التي خلص إليها الفيلم؛ قلة من المشاركين اقل من 25% رفضوا تنفيذ الأوامر من البداية، وأقل منهم بكثير انسحب منها بعد أن قطع شوطا بسيطا، في حين ان الغالبية العظمى من المشاركين بما يقارب 70%، قبلوا بداية بالتجربة ثم استمروا بها للنهاية، بالرغم من إدراكهم بانهم يقومون بتعذيب، وبقتل شخصا ما على الجانب الآخر، لا يرونه لكنهم يسمعون صوت صراخه عبر السماعة؛ يزداد علوا وألما، بازدياد التيار الكهربائي الى ان يختفي ذلك الصوت بموت صاحبه، وبهذا تأتي التجربة على نهايتها، فقد كانوا يملكون خيار الانسحاب، ورفض الأوامر لم يكن هناك ما يرغمهم على ذلك إلا انهم لم يفعلوا.

فجاءت تلك النسب لتجيب عن السؤال، ما الذي يمكن ان يفعله الإنسان لمجرد ان يطلب منه تنفيذ أمر -أي كان هذا الأمر - بوجود سلطة تحمل عنه عبء المسؤولية؟

فقد انتابت تلك الغالبية لحظات تردد عند سماعهم صرخات الألم، لحظات أدركوا فيها هول ما يقومون به، فكروا بالانسحاب بعدها، لكنهم سرعان ما تراجعوا عن الفكرة إزاء صوت المرافق المطمئن لهم دائما بأنه، والجهة القائمة على البحث يتحملون المسؤولية عنهم، فليس هناك ما يستدعي قلقهم، فقط استمروا بالتنفيذ بضغط الزر ونحن المسؤولين عن ذلك، فيهدأ ضميرهم ويستكين، وكما يقول ممدوح عدوان في هذا الصدد " هكذا نفعل حين نقصف مدنا آهلة بسكانها، و حين نرتكب، او ننفذ، او نساعد في تنفيذ مجازر جماعية، وهكذا نفعل حين نمارس التعذيب، نغافل أنفسنا بالادعاء اننا لا نتحمل المسؤولية، ونُحيل المسؤولية الى صاحب القرار الشرعي … متجاهلين الضحية ".

وها هي كلمات ضابط البحرية الأرجنتيني المتقاعد أدلفوا سيلينغو تأتي لتأكد هذه الفكرة فيقول " أنا مسؤول عن قتل ثلاثين شخصا بيدي الاثنتين، أكون منافقا إذا زعمت أني نادم على ما فعلت، أنا لا أشعر بالندم لاقتناعي بأن ما قمت به كان تنفيذا لأوامر، ولأننا كنا آنذاك نخوض حربا ".

ما الذي يدفع الإنسان الى اختيار طاعة السلطة أي كانت، وما الذي يدعوه الى تنفيذ الأوامر مهما كانت أهدافها، ونتائجها بمجرد وجود جهة تحمل المسؤولية؟ فهل الإنسانية كما يتساءل ايريك فروم مكونة من ذئاب تشكل أقلية، ونعاج تشكل الأكثرية، تعيش جميعها جنبا الى جنب، حيث الذئاب بحاجة دائما الى جريمة، والنعاج الى الطاعة، والى من يقودها فيحمل عنها عبء المسؤولية والحرية، فيصور العنف لها على انه واجب مقدس. أم ان الإنسان يروض على الطاعة، فيتحول الى جلاد للحد الذي يتلاشى معه صوت الضمير؟ وبين هذا وذاك أين يقع خيارنا وارادتنا ان نحن وعينا تلك الفكرة؟

فما الذي كان وراء اختيار ذلك الجندي البسيط - لعب دوره الفنان احمد زكي في فيلم البريء إخراج عاطف الطيب - الذي أمن بواجبه المقدس ضد أعداء الوطن، والمعارضين، وكل من يحاول ان يعبث بأمن البلد، كما صورته له السلطة كان جنديا مطيعا لها، ومنفذا رائعا لأوامرها، وثق بما تقوله حد العماء، الى ان آتى ذلك اليوم الذي طُلب منه تنفيذ العقوبة بشاب من أعداء الوطن، ليتفاجأ بان لم يكن ذلك الشاب سوى ابن عمه الطيب الشهم المحب للوطن؛ فيصاب بصدمة المعرفة لتهتز ثقته بالسلطة، فيرفض تنفيذ الأمر، ويختار التمرد عليه، فينتقل من أداتها التي تضرب بها الى أحد أعدائها المطلوب تصفيتهم.

وعودة لفيلم (ميلغرام) حيث يشترك المشاهدون مع الباحثين القائمين على الدراسة بمعرفة حقيقة، انه لا وجود لشخص آخر خلف الجدار، كما انه لا وجود لتيار كهربائي موصول به، ليس سوى شريط مسجل لصوت تأوهات، وصرخات إنسان متألم تتناسب شدة صوت الألم طرديا مع مقدار شدة التيار الكهربائي المفترض، والذي تم إيهام المشاركين بوجودهما لدراسة أنماط سلوكهم واستجابتهم لإطاعة، وتنفيذ الأوامر في حال تحمل السلطة او جهة ما المسؤولية عنهم، فتقودنا المفارقة للضحك، والسخرية والبكاء في آن معا، فهولاء المشتركين هم عينات الدراسة لا ذاك الشخص الوهمي؛ فنضحك ونضحك حد البكاء على جهلهم، على ردود أفعالهم، وكأن هناك مسافة تفصلنا عنهم فلا مجال لان نتبادل المواقع، وفي الحقيقة لا نعلم إن كنا نضحك عليهم أم أننا نضحك من أنفسنا ونبكي على صورتنا المتجسدة فيهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى