الأربعاء ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
بقلم نادية كيلاني

مِنْ الشوك العنب

نعيت حظي كثيرا وشبهته بدقيق فوق شوك نثروه.. ولم أكتف بترديد أعنف أبيات من الشعر كُتبت تعبيرا عن الحظ العسر فقط؛ بل شرعت في تنغيمها وتقطيعها وتطويلها في فمي وكأنني أستحلب حلاوة مرارتها

إن حظـي كدقيق فـوق شـوك نثروه ثـم قالوا لحفاة يـوم ريح اجمعوه
صعب الأمرعليهم قلت: يا قوم اتركوه إن من أشقاه ربي كيف أنتم تسعدوه

ثم توقفت فجأة عن ذلك النواح غير المجدي واستعادت ذاكرتي نواحاً أفاد صاحبه... قلت لنفسي ليتني جار لأبي حنيفة النعمان، فقد كان له جار عربيد يردد يوميا في جوف الليل:

أضاعوني وأي فتي أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغـر

وذات ليلة لم يسمع أبو حنيفة صوت جاره فلما سأل عنه وعرف أن رجال الشرطة قبضوا عليه.. أسرع وتوسط له وأخرجه من الحبس.
وفي طريق عودتهما أخذ أبو حنيفة يمازحه قائلا:
 هل أضعناك..؟
ويرد الرجل:
 لا والله.
تنهدت وابتلعت مرارتي وقلت لنفسي أين لي بالنعمان يحفظ حق الجار.. لقد حل المشكلة في ساعة زمن واحدة، ولم يضيع جاره رغم سكره وعربدته، وأنا الذي أكد وأشقى وأتحرى الحلال وأتمتع بقدر كبير من الثقافة والذكاء.. كل هذا لم يشفع لي عند حظي الذي هو كدقيق فوق شوك نثروه في يوم ريح.

والشيء المحير أنه في كل يوم تعقد مؤتمرات وتفض مؤتمرات، وأرى فيها ذات الوجوه من المتحدثين رغم اختلاف الموضوع.. تشجعت وسألت:
 من هؤلاء..؟
قالوا:
 هؤلاء هم المحظوظون.. والمحظوظ يصلح للكلام في كل مكان، وفي أي موضوع.!

أما طابور التوصيات التي تعقب كل مؤتمر فلا تشير من قريب ولا من بعيد لأمثالي المفجوعين في حظهم. ويزيد الطين بلة أن المحظوظ لا يعترف بما يسمى حظ عسر وحظ يسر، فلكل ظاهرة عندهم ما يبررها، ولا مجال للمصادفة إذ يرونها قانون العاجزين والمتوكلين.
تبسمت لنفسي وأنا أدخلها في حوار سفسطي، وأتساءل في يقظة عما لا يمكن تحقيقه في منام:
"ألا يوجد مؤتمر يحل مشكلتي.. يلملم شعس حظي العسر من فوق الشوك، وأثناء هذا الجمع الذي هو أكيد مستحيل يوقف سريان الريح..؟!"
وضعت رأسي فوق الوسادة أريحه من عناء التفكير فإذا بي أسمع تصفيقاً وتهليلاً.. رفعت رأسي وحدقت في اللافتة أقرأ ما كتب علي جبينها:
( المؤتمر الأول لتعديل الحظوظ)
صرخت مبتهجة:
 مؤتمر لي..!!

اندسست وسط الحشود أشاركهم التصفيق الحاد، ورأيت خبراء العالم وقد جاءوا من كل فج عميق للاطلاع علي البحث الخطير والجديد في مجال التغذية، ومنه إلى باب الحظ الجميل.. وسمعت الباحث الهمام صاحب التجربة المثيرة يقول:
 "سيداتي وإخواني: يروق لي أن اسمي بحثي هذا "من الشوك العنب" وأبطل المقولة
الشهيرة التي تقر بعدم جدوى الشوك.. فبهذا البحث لم نجن فقط من الشوك العنب بل جنينا جميع الفواكه والخضراوات، وجميع الفيتامينات أيضا.
أيها الأخوة: أرى الدهشة تعلو الوجوه والسؤال الحائر في العيون.. كيف تم هذا الاكتشاف؟ وأقول لكم: إن النظريات العلمية تقوم علي ثلاثة عناصر هي: الملاحظة والتجربة والاستنتاج.. وتسألون عن البداية.. وأقول: في البداية لاحظت أن بعض الناس ينعون حظهم ويشبهونه بالدقيق المنثور فوق الشوك، ورغم صعوبة الحال علي ما يبدو إلا أنني قررت أن أقوم بالتجربة، وأجمع لهؤلاء المنكوبين حظهم ليتعلموا أنه لا مستحيل في هذه
الدنيا، وأنه يمكن جمع الدقيق من فوق الشوك.

بدايةً... فكرت أن أجمع الدقيق مختلطا بالشوك ثم أقوم بغربلة الدقيق عن الشوك.. وبدت لي العملية غاية في البساطة.
هذه كانت مرحلة التفكير، ثم انتقلت إلي المرحلة التالية وهي التجربة:
نثرت الدقيق أيها الأخوة فوق الشوك ثم قمت بجمع الخليط في وعاء واحد وأتيت بمنخل وضعت فيه العينة، وبدأت في الهز.
لا.. لا يذهب بكم الخيال .. أنا أقصد هز المنخل طبعا لأستقبل الدقيق في وعاء آخر ويتبقي الشوك منفصلاً، ولكنني فوجئت أن العملية ليست "بيور" أقصد ليست نقية تماما.. إذ وجدت الدقيق ما زال مدعما بأسنان الشوك حيث استبقى المنخل الشوك السميك ولم تكن له سيطرة كاملة على الشوك الذي تهشم واختلط بالدقيق في عمليتي نثر الدقيق ولمه بالشوك وانتقاله من وعاء إلى وعاء فكان لابد من التفكير في وسيلة أخري.
قلت لنفسي لو أذبنا هذا الخليط بالماء سيذوب الدقيق ولا يذوب الشوك، ويطفو فوق سطح الماء، وبهذه الطريقة نفصل الماء المذاب به الدقيق عن بقية الشوك العالق به.

وتمت هذه التجربة بالفعل واستطعت أن أفصل الشوك ولكنني لاحظت أن لون الدقيق ليس في درجة نقائه وبياض لونه فقد ذاب أيها الجمهور ذوبان السكر في الشاي قدر من الشوك في الدقيق واختلط به، فقمت بتحليل هذه المادة.
وهنا ننتقل إلي المرحلة التالية وهي الاستنتاج: حيث أنه لم تقم تجربة من قبل بتحليل المادة المكونه للشوك فإن العناصر الإضافية على عناصر الدقيق والماء تكون هي عناصر الشوك.. ولكن حدث ما أثار فضولي.

اكتشفت أيها الجمع الكريم أن العنصر الجديد هو فيتامينات عالية القيمة بها كل العناصر المتوازنة والمطلوبة للتغذية السليمة.
إخواني وأخواتي: إن رغيف الخبز المكون من الدقيق بالشوك أو بمعني أدق أسنان الشوك
يكون وجبة غذائية عالية القيمة، ولا تحتاج الى عنصر إضافي من عناصر التغذية... والآن نفتح باب المناقشة."
سؤال من الصالة:

 هل يمكن بهذه الطريقة الاستغناء تماما عن جميع أنواع الخضراوات؟
رد المنصة:
 والفاكهة أيضاً... بل أكثر من ذلك، لقد اكتشفت أن هذا الرغيف يحتوي على نوع من المضاد الحيوي يصلح لمقاومة جميع الأمراض.
الصالة:
 معنى ذلك أن الأمراض ستختفي من العالم في القريب..؟
المنصة:
 وإلى الأبد... لقد أجريت تجاربي على عينة من مائة شخص شفيوا جميعا من أمراضهم المختلفة.
الصالة:
 نتوقع إذاً أن الأعمار ستطول، فهل يمكن أن تخمن كم سيكون متوسط العمر بعد هذا الاكتشاف المهم..؟
المنصة:
 هذا السؤال يحتاج لوقت كاف للرد عليه، فبحثنا يستند على العلم لا على التخمين.
الصالة:
 وهل طعم هذا الرغيف مستساغ؟ وهل هو غالي الثمن بحيث لا يقدر عليه إلا الأغنياء فقط..؟
المنصة:
 لقد كان هدف التجربة في البداية هو تعديل الحظوظ، ولذلك هو رغيف حلو الطعم، وفي متناول الجميع، ولقد أعددت لكم مقدارا منه لكي تحصلوا على الفائدة في حينها.

وبدأ المخترع الهمام يلقي بالأرغفة وهي تتطاير نحو الحضور وكلما رفع أحدهم يده سقط بها رغيف وكأنه يقصده..
شاهدت الأيدي تتلقف الأرغفة في سهولة ويسر وتقوم بتقطيعها والتهامها.. كانت العملية تتم في البدية علي حذر.. وسرعان ما لمعت العيون ابتهاجا بالطعم الحلو، وأسرعت الأسنان بالمضغ والطحن والبلع مع طلب المزيد والمزيد.. فيعودون لإلتقاط الأرغفة وهذه المرة لدسها في حقائبهم وبين طيات ملابسهم.. ووجدتني مثل الكرة في مهرجان إلتقاط الرغيف يتقاذفني كل منهم بكوعه.
أنّت عظامي من اللكزات الموجهة، وسال لعابي من حركة الأشداق المتخمة .

 المؤتمر مقام من أجلي.. أرجوكم توقفوا قليلا.. أعطوني رغيفا واحدا.
 نظر لي أحدهم بعين الرحمة، وقطع جزءا من رغيفه وناوله لي... فرحت بالجزء؛ فتدربي علي القناعة له فوائد جمة أجني ثمارها الآن.
انتحيت بالجزء جانبا حامدا ربي وبدأت في إلتهام نصيبي، وأثناء المضغ والاستمتاع بالطعم الرائع... شعرت بشوكة تخترق حلقي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى