الجمعة ٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم رشا السرميطي

نابلُس مدينة الحـب

بريد الحنين

مدينة كنعانية عربية؛ يعودُ تاريخها لألفٍ وتسعمائةِ سنةٍ أبيةٍ، سُميت قَديماً بِشكيم؛ قَلبُ فلسطين تلكَ الشقيقةُ الوسطى بينَ المدن، أُقيمت على وادٍ لا يزيدُ عرضه عن ميلٍ واحد، بينَ جَبلي عِيبال وجِزريم المكسوين بكروم العنبِ وشجرِ الزَيتون. لهذه المدينة سحر مختلف ليس كبقية المدن، إذ تفيض خضرة وجمالاً كنبعٍ متجدد لا يعرف النضوب، فيِ الوَسطِ بلدةٌ قديمةٌ بأزقةٍ حميمةٍ، والسفوحُ مَأهولةٌ بأسرٍ لها شرفُ النَابلسية. تَكثر الشوارع والأدراج فيها لتصلَ أولَ المدينةِ بآخرها. فيِ الوَسطِ، دوّار يكنى بميدان الحُسين، والساعةُ حكمة الوقت للمارة تُعطيها - الزمن حادٌ، كالسيف يقطعك سهواً؛ فكن حذراً بالعودة - يتَجَددُ الوَعد معَ كلِ فجرٍ جديدٍ؛ تنشر الذهبيةُ خيوطها الشرقية على جبالها وسهولها وتلالها، فيتسرب الدفء لجسدي، ويتدفق الدم في أوعيتيِ القلميّة حبراً يخط آهات وتنهيدات.

تقع جامعة النجاح الوطنية في الجهة الغربية من المدينة، ذالك الصرح العظيم التي علّمني كيفَ أتحدى الحاضر، وأقاوم نكسة ذاته، بالعمل والمثابرة؛ كي أرسم المستقبل سعيداً. إن كان الجَنوب جبلاً، فيا جرزيمُ تكبَّر، فعلى سفحكَ أزهر الزَيتون وأثمر، أيا طوراً يزدحمُ بسروٍ وصنوبر، ماذا أحكي أكثر؟ وجميع الأقلام تتكسر فيِ وصفِ عروسِ الوطن – نابلس.

نابلس، يا أم الجديلة، وسمر الليالي الطويلة، قِلّةٌ هم الأصدقاء الذين يحملون في الجوف جينات النقاء، أولئك الذين يفوقون بجمالهم حور العينين، وكثافة الرموش بسمات ثقيلة، وكيفَ إذا كان اللسان فصيحاً ! يصنع بالحجر بندقية، ويتصدى للدبابة والطائرة الإسرائيلية بهمة جهادية ؟

لأبنائها شرف الرجولة الشرقية، وما كل الذكور رجال! لكنَّ الثأر للأجدادِ فرض واجب، والقيد يوماً لابد أن يتحرر، ولن تُبلغ الأحلام بالتمني، بل، بالعلم والقلم نصل القمم. كفانا رثاء الفشل بذريعة الظروف، حِمَمٌ هيّ طاقاتنا، فهبي يا كل الشبيبة النابلسية، لاستثمار بقية العمر بعمل نافع؛ وهل غير الدار الآخرةِ نرتجي؟

تعالوا جميعاً برفقتي، لننهض من سباتنا، ونودّع ماضينا الباهت، نرسم الفجر لوحة جديدة يخطها التاريخ عِبَراً للشعوب، لنرفع علم فلسطين؛ ليصدح لحن فرحٍ ونعمة، فأنا لستُ أرتجي منكم مستحيلاً، فهل من صوتٍ يلبِّي دعوتي: نعم؟

بقي الشمال، وهوَ الأجمل، عيبالاً لا تتذمر، من على شرفة الروح، وغرفتي الغرقى بحبر القلم، عطر حروفي الصامتة، ومفاتيح أحلامي جميعها، تهطل أناملي على لوحة بيانو تكنولوجيا الوقت المعاصر، فينبعث اللحن فريداً. مضى الزَّمان سنيناً، واليوم، أنا مشتاقة إليه على أرصفة السابع والعشرين، أجثو، مقلبة الصفحات الماضية، والحاضر قاتم كقميصه الحالك الذي أحببته، بين المستشفى الوطنيّ وجامع الحجة عفيفة ثرى فيه مطامع، يا شارع الكرمل أبشر، فلسطينية لا تملك الهوية، وقضيتي مع ذاك الرجل نرجسية، تأبى إلاّ التحليق عالياً في سماء نابلس بوحاً بحريّةٍ عصفورية، أحد أجنحتها مكسورة، كيفَ أكتبُ وقيد صمته كبّل شفاهي؟

وكم من تاريخٍ تمزق ليُبدل بعولمة الشعوب، فتتلاشى القيم، وتختفي رسالة الاستخلاف فينا ! نترك أحبتنا خطأ إلى حضن قد يرمينا؛ وما نفعُ النَدم بعد حدوث الفَجيعة !؟ هل يمحو الدهر خدش الزُجاج في مآقينا؟

يقلقني تقديم شهادة نبضي لقاضٍ لا يعرف للعدل وسيلة، كم تمرغت في الأتربة، وقطفت من الورود النابلسية؟ جمعتها أكماماً لأجلك، كي أزيّشن فيها عنقك يا رجل الياسمين. أتنقل كفراشة الحديقة من فصل كتاب لآخر وأُكافئ ببراعم الأمل هدية، ما انفكت النفس توّاقة لمعرفة الأكثر، فعراقة الأجداد كنز ثمين، ومدينتي أصيلة، وذاك الرجل ينتمي لسلالةٍ شرقية عريقة؛ لأنهُ نابلسيّ.

ما أجملَ الشِتَاءَ مودعاً للخريفِ يرويِ أرضاً ظمئة، يتفتحُ اللوزُ مختالاً فيصافح الربيع عيداً للجبلين، سفح تلُّون بشقائق النعمان الأحمر، وقرن الغزال الزهري، والحنون الأصفر، ينقشُ العُشبَ الأخضر، كلوحة فنية عصيّة التشكيل من زخرفة الخالق سبحانه.

هذه نابلس، وكل العالم يشهد سجلات العز والمجد المتوحّد في ماضيها، صفوف الفرح والحزن دائماً متراصة، وإني لأحبك يا وطني، بهوية عربية فلسطينية نابلسية، الله أكبر، ومآذن الجوامع تعليها، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر عليك يا غاصب. غيومٌ صفراء تتكدسُ فوق صفحاتي، وقيح يتدفق من جراحاتي، تسقط أنّات غربتي وتنادي يا وطناً والله اشتقت لأفراحي، لزغاريد أمي وجدتي بعرسٍ أصحابي، للجبل والزعتر، لزيتِ زيتون وكماجِ القمح تخمر مناقيش، أحن لعجينِ أناملٍ تتكبر بالجبن والمنقل، وعروسُ الحلو كنافةً تتشكل بجبنٍ أبيضٍ والسكرِ بالفستقِ الحلبيّ ثم تقطر، مشتاقةٌ لفجرٍ يجلي صباحي بصابونٍ نابلسيّ هو الأفضل. زيتونٌ في الأرضِ يتسمر والنصرُ الأكبر قادم؛ لكنِّي خبئتُ الأخطر وصمتي بات أجمل ! فالشعب الطاهرُ لا يذبل لطالما قدم الأرواح في سبيل الله شهداء، وكلنا للقدس فداء. قسماً بكل صَرخة طفلٍ حزين تيتم، وصمت كل أرملة صابرة، بحق صدق القلم فحسب إسرائيل ما كسبت يوماً رهاناً، لم يئن الأوان، ولكن، الوقت قد حان يا كل من سكن عتمة الاحتلال، الفجر قريب، إليك يا مسجد الأقصى الحرية، ولهم هزيمة حتمية؛ والقرآن شهيد.

أحبكِ يا حضناً بين الجبلين، نصر أهم من اثنين؛ لكننيِ آثرته عن الأول! لن أرضخ يوماً لسياط الشك والحيرة، فيتآكل فؤادي غيرة، أخيراً، ودعتُ جدران نفسي متجهةً إلى الفيحاء، أجراس الوداع تقرع، وعيون الأمل في رحم الحقيقة تدمع، هؤلاء، سكان نابلس والأمس وثّق؛ ولكل درب مفترق، ولسوف يحيى من بعدي الأحباب بكرامة العروبة المنسيّة، مآقي العين تعزفُ مقطوعة الهوى، نابلُس يا مدينة الحب!

التحقت في بيارق العشاق المنتظرين، لأصبح سيدة الأسطورة - عاشقة للورد أنا - وحروفي تراقصُ الرماديّ من الألوان، فما بين نعم ولا، ألف إجابة، وخطوط ريشتي تعقد لوحة الصمود بالرغم من الألم، لابُدّ ليومٍ يُسمع فيهِ عذبُ النَّغم، لتحكى مدينتي رواية عشقي لكلٍ مواطن، وذاك الرجل علّمني كيف أحبه!

رعشة تُزخرف اسمه من جَديد على دفتر أيامي القادمة، حرف يعانق الآخر حنيناً؛ فتتشكل الكلمات لتولد أجمل السطور، صفحة تُسابق الأخرى، ينمو النص متمايلاً في رياض الأبجدية، حكاية قلب، وأحلام كنجوم السماء؛ حقيبة سفر فارغة لا تتسع الآتي. قلم حبر مذهب تمنيت لو قدمه لي ذاك الرجل! فنجان قهوتي بعد طول غياب عاد يحاور شفاهي شوقاً لتتمة، أشعر بالدفء وبرغبةٍ عارمةٍ لأجهش بالبكاء، بعثرة للروح وعواطف تائهه على قيثارة الخوف من المستقبل، يرتدّ الصدى لمسمعي مؤكداً وعدي، عاهدتك أستر أوجاعي وأكتم أنات القلم؛ ومازلت! بين محطات الوفاءِ والإخلاص تجدني هناك، أنتظر عودة هواك، لن يبدلني قدر رب السماء، وسَأكتب بلون الدماء أحبك..! ليشهدَ كُل البشَر أسْطورة وجدي، فإن لم تكُ قطرة الماء الصافية المتدفقة من مقلتيك قسمة ليِ، فهنيئاً لها، وما غير السعادة أرتجي إليك دعاء.

بريد الحنين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى