الأحد ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم عطية صالح الأوجلي

ناس دايخة.....!

تناغم ضجيج الازدحام بصوت المذياع وامتزجت نداءات الباعة بزعيق نادل المقهى لتشكل لوحة صوتية تشع الأمن والدفء وتقلص ذاك الشعور بالوحدة الذي يمزق القلوب بأظفاره الحادة. حلقات الدخان الكثيف تتسابق نحو السقف العتيق دون جدوى ودونما انقطاع. هذا المكان مسكون بالأصوات والروائح ومُطعم بالألفة.

غصت في مقعدي المعتاد، التقطت شفتاي لفافة تبغ بينما جالت عيناي بحثا عن أثر لجريدة أو مطبوعة تُركت لوحدها. رائحة القهوة تلامس أنفي. أبحث عن النادل الذي لا يعيرني اهتمام.... يداه تعبثان بمؤشر المذياع بحثا عن محطة... أزيز..تشويش..... ضجيج.....

  "أجيب منين عمر يكفى".... تترنم المطربة... تخيلت طوابير أمام معمل أو متجر لبيع الأعمار الإضافية..

– والنبي "عُمْر ونص " من النوع الممتاز بس وحياة أبوك تلفه كويس.. ده عشان الست بتاعي...

 ما ألقيش عندك …” عُمْر"…..بس يكون " نص عُمْر “…
دوت ضحكتي و اهتز بدني. نظرة استنكار من البدين ذو اللحية.... زحفت عيناي نحوه كدت أن أقول.. نحن في مقهى يا هذا ولسنا في بيتك.... ولكني آثرت السلامة.

النادل بإصرار يبحث عن محطة... أزيز..تشويش....جلبة.....

  " لازال التعادل هو سيد الموقف في هذه المباراة"....
 
آه كم أكره مثل هذه الكلمات.. "سيد الموقف".. إنها من النوع الذي لا يرحم.. تلتصق بالذهن وتأبى مغادرته.. تلف..تدور... كنحلة في برطمان. لا وسيلة "لإنقاذ الموقف" سوى إنهاكها بسرعة استعمالها.....
 الله سيد الموقف في الكون.

 أمريكا سيدة الموقف في العالم.

  زوجتي سيدة الموقف في البيت.. مهلا..أنا..لم أتزوج بعد.. وجدت العروس ولم أجد الأسباب. قالوا لي تزوج لترضى عنك الست الوالدة....... هذا سبب وجيه حقا لورطة العمر....!. ولكن والدتي ماتت رحمها الله من زمان. هــا...تخلصت أخيرا من "سيدة الموقف".

اللعنة..... أنها تلتصق مرة ثانية.... القهوة تتجول مع رائحتها لتغازل الأنوف. قفزت عيناي لوجوه الحاضرين. يبدو أنها التصقت بهم هذه المرة.... ارتياح شماتي اللون داعبني. كلنا الآن.. أسرى لها.

يدخل شاب إلى المقهى، بدا وكأنه...."سيد الموقف". نحيف، كثيف الشعر والنظارات،زائغ البصر.. يحتضن مجموعة من الأوراق بينما يتدلى من أصابعه قلم حبر. تراقصت عيناه بحثا عن مقعد،يجلس وينـهمك في الكتابة. الكتابة حدث غير مألوف في هذا المقهى. استرعى اهتمام الآخرين، كل "سيد" يحاول في أعماقه أن يفسر هذا " الموقف".. طافت الكلمات في بحر من التأمل...

.. نطقت عينا الأول....

 "هذا الشاب يبدوا غريبا عن البلد، وهو لا ريب يكتب رسالة لآسرته ".

أسر الثاني في نفسه....

  "هذا الشاب بدون شك عاطل عن العمل، ويبحث عن وظيفة ما............. و هو يكتب الآن طلبات إلى جهات الاستخدام "

رائحة قهوة محروقة... يبدو أن " شوام "...من رواد المقهى..........
تحدث الثالث في صمته:

  ".. لا ريب أن هذا الشاب يكتب قصائد عاطفية.. أنا اعرف هذا النوع جيدا".

همس الرابع لرفيقه بينما ظلت عيناه تراقبان الجميع:
 " أكيد يكتب في تقرير في عباد الله،..... ناس "معادش" ترحم في بعضها...".

حدث السادس نفسه:

 " هذا باين عليه من تجار الشنطه..ويكتب في طلبيه قبل ما يسافر..".

نـهض "السيد". أسقط ثمن القهوة على الطاولة وغادر تاركا أوراقه وراءه. انتبه النادل لما حدث، انتزع حزمة الورق وخرج يعدو وراء الشاب. لم يتمكن من الوصول إليه.... فعاد... تأمل الأوراق.... امسك بالقلم محاولا الكتابة به. ثم قال بصوت عال:

"أما ناس دايخة.........

القلم ما فيش حبر...........

والأوراق......... فاضيه…".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى