الأربعاء ٢٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الخميسي

نبيل الهلالي سحابة العدل

كنت أستند بلا وعي ، إلي أن نبيل الهلالي موجود، وحي، أينما كنت أذهب ، أو أفعل ، مهما كتبت ، أو التقيت بأصدقاء ، أو مشيت في مظاهرة ، أو حضرت اجتماعا حاشدا ، في سفري ، وفي عودتي ، عند أبواب المطارات ، وساعة التفتيش ، في مواجهة ضباط المرور ، أو الداخلية ، وفرق الكاراتيه ، ولدي كل شجار عابر في الشارع أو في محل بقالة ، ومع أي انفعال سريع قد يفضي لاشتباك ، في كل ذلك كنت أعتمد بلا وعي على أن نبيل الهلالي موجود ، وأنه إذا ما حدث شئ لي ، أي شئ ، فإنه سيبرز من الظلمة ، ويشقها ، حاملا سيفه ، متقدما ، للدفاع عني . كنت مطمئنا إلي أن في الحياة دفاعا ، ودستورا ، وقانونا ، وفارسا يحمل كل تلك المواثيق ، وإلي أنه سيظهر في اللحظة المناسبة بالضبط ، بقامته الطويلة ، وعباءة المحامي ، وأنه سيرفع إصبعه النحيف ويهز رأسه، ويشير للقضاة إلي الخطأ الكبير الذي ارتكبوه ، ويأخذ في تفنيد التهمة الملفقة ، ثم يرفع عينيه المهذبتين اللامعتين إلي القضاة صائحا بصوته النحيف كسلوك الكهرباء : أفرجوا عن هذا الإنسان . كان كل المعتقلين ، والمهددين ، والملاحقين " إنسان " بالنسبة إليه ، وسواء أخرجت سالما أم لم أخرج ، كنت سأشعر أن قضيتي عادلة ، وأن هناك دفاعا في هذا الكون، يواجه كل قلاع وأسوار وقضبان الظلم، بمفرده ، بكتبه ، وأحلامه ، وشجاعته . ولم يكن هذا شعوري وحدي ، بل شعور المئات والآلاف ممن انخرطوا في العمل العام كتابة ، أو تأليفا ، أو سياسة ، أو تمردا . طالما كان الهلالي حيا كانت ثمة سحابة من الرحمة والأمل تعبر سماء القاهرة تبارك كافة المتمردين ، وتشد أزرهم ، وتصيح بهم : تقدموا ، لا تخشوا شيئا ، معكم نبيل الهلالي . سحابة بيضاء ظلت لأكثر من نصف القرن تجود بمطرها فوق أرض يابسة حيث لا أمل ، وتجود بحبها على الأشواك حيث لا زهور ، وتفيض بعدلها على البشر حيث لا عدل . الآن مع رحيل نبيل الهلالي اختفت فكرة الدفاع ، لم يعد ثمة دفاع في الحياة ، وفارقتنا الطمأنينة على مصائرنا، وتكسرت إلي شظايا صورة الهلالي الذي يجوب البلاد باحثا عن مظلوم ليدافع عنه. على مدى أكثر من نصف القرن ، يوما بعد يوم ، وساعة بعد أخرى ، دافع الهلالي عن أجيال وأجيال من المعتقلين ، من جيل الستينات ، والسبعينات ، وظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته يحضر أوراق المحاكمات ، لكي لا تكون هناك قضبان في عالمنا . وقد تحول الهلالي إلي أسطورة إنسانية ، من دون أي نوع من التمويل ، حتى أجره الذي يستحقه كمحامي لم يكن يتقاضاه ، ورسخ عبر حياته كلها مبدأ العمل التطوعي حين وهب سنوات عمره كلها للناس بدون مقابل . وكانت العدالة أغلى عنده من أية أفكار أو تصورات أخرى ، وكان مستعدا في سبيلها لكي يخسر الكثيرين ، ويكسب نفسه . وكان مكتبه وقلبه وعقله مفتوحا ليل نهار لكل أنواع التظلم ، السياسية الكبرى ، والحياتية البسيطة ، بدءا من قضايا التنظيمات التي تهدد بقلب نظام الحكم ، ومرورا بقضايا النزاعات بين العمال وأصحاب العمل ، وانتهاء بشكوى أرملة وحيدة من تأخير معاشها .

ولا أظن أن الدنيا – على الأقل في المدى الزمني المتاح لنا - ستجود مرة أخرى بقلب وعقل مهذبين وشريفين كقلب وعقل الهلالي . ولم تكن أفكاره ورؤاه السياسية مصدر ما يتمتع به من محبة واحترام بالغ ، لكن شعور الناس الدائم بأن ثمة شخصا لن يخونهم في الطريق ، وأن ثمة شخصا يستمع إليهم باهتمام ، ويسجل ما يقولونه على الورق ، ويتعهد بالدفاع عنهم ، ويفني أيامه وسنواته من أجلهم ، فقط لأنه لا يطيق الظلم ، ويعتبر أن الظلم إهانة لوجوده هو ، واعتداء على حريته هو . لم ير أحد بعد شخصا مثل الهلالي ، حالما ونبيلا ، يتحدث إليك وهو يحلق بشكل ثابت في عالم آخر ، تنتفي فيه الحاجة والعطش والفقر والتمييز والجوع والجهل والفظاظة ، ثم يهز رأسه بأدب رفيع متسائلا : ولا إيه ؟ . كان يعطيك وقته وجهده منصتا إلي الشكوى بامتنان ، وعرفان ، كأنك أنت الذي كنت تمنحه وقتك وجهدك . علمت برحيله من رسالة من صديق على الموبايل يقول فيها : " " فقدنا نبيل الهلال.

يا لها من خسارة " . وحط على الخبر ثقيلا ، موجعا . كنت أعلم أنه في المستشفى ، لكن صديقي ممدوح حبشي طمأنني أن صحته تتحسن في اليومين الأخيرين . وغمرني الشعور بالأسف ، لأنني لا أتجه إلي أناس مثل نبيل الهلالي ، وهم أحياء ، لأقول لهم هكذا بدون مناسبة : " نحن نحبكم ، ونقدركم ، أنتم أناس محترمون ، وملهمون ، ومن دونكم تصبح الحياة أرضا بلا سماء ، وبلا نجوم ، أوضوء ، أو أحلام " . رحل نبيل الهلالي ، وجفت سحابة العدل ، ولم يبق لنا الآن سوى أن نرفع رؤوسنا للسماء من وقت لآخر ، لكي نرى الموضع الذي كان يطل علينا منه ، ولكي نرى الفارس الذي كان يشق الظلمة إلينا ، زاعقا من بعيد : ها أنا قادم ، استمروا في سيركم ، لم يبق سوى خطوات ونرى أحلامنا . صدقوني . تقدموا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى