الأحد ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم موسى إبراهيم

نساء 4

(14)

في طريقها إلى موقف الحافلات، كانت السماء تلملم الغمام من هنا وهناك وكأنها تحضّر لاحتفالٍ مطريّ، شوارع المدينة متعطشة للمطر، جلست على مقعد تعلوه مظلة، أخرجت من حقيبتها زجاجة عطر، خرج العطر زفيراً من الزجاجة فاستقرّ في ثيابها، وضعت ساقاً على ساقٍ، وانتظرت قدوم الحافلة، أسندت رأسها على كفّها اليمنى، واستقرّ كوعُها الأيمن على ساقها، تنظر في آخر الطريق، علّها تلمح الحافلة. كان هو يمشي مسرعاً، كي لا تفوته الحافلة، وصل إلى المكان، جلس على المقعد ومارس الإنتظار مثلها تماماً، شعرت به، بدأت تفكر: "ماذا لو القى التحية..؟ أليس من الذوق أن يلقي التحية!" بدأ يفكر: "هذه فتاة غريبة، علمت بقدومي ولم تلتفت إليّ، هل ألقي التحية عليها..؟" هي: "عليّ أن لا أعيره انتباهاً، حين تصل الحافلة، سأصعد إليها ولن ألتفت إليه، سأتجاهل وجوده، سأعاقبه على فعلته هذه.." هو: "عندما تصل الحافلة، سألقي عليها التحية بسرعة، ثمّ أصعد، لالا سأنتظرها حتى تصعد، ثم أصعد أنا" هي: " في الحافلة .. سيحاول إلقاء التحية بعينيه، لن أردّ عليه التحية، لقد أضاع الفرصة هُنا .. نحن هُنا وحدنا، آآآآه ما هذا!!!" هو: "سأجلسُ قربها، لا .. سأجلس بعيداً عنها، قد يخطر ببالها أنني أكترث بأمرها!" هي: "ولكن لماذا لا أبادره أنا .. وألقي عليه تحية الصباح.. سأقول له مثلا صباح الخير .. يبتسم هو ويقول صباح النور .. ثم نبدأ الحديث .. ؟ لالا .. لن أمنحه هذه الفرصة .. هو الرجل وعليه أن يبادر! يا الله ماذا أفعل..؟" هو: "كان عليّ أن ألقي التحية عليها فور وصولي إلى المكان، عليّ أن أفعلها الآن .. تبدو فتاة جميلة، هادئة، عطرها يأسرني .. " تململ قليلاً في مكانه، ثم قال مبتسماً: "صباح الخير ...." إلتفتَتْ إليه مبتسمة أيضاً: "صباح النور ..."
وصلت الحافلات جميعها، توقفت عند المكان، أخذت تتلفت هنا وهناك تبحث عن الحافلة المناسبة، هو أيضاً فعل ذلك .. كان يراقبها وكانت تراقبه بسرية تامة، هي صعدت إلى الحافلة، وهو صعد إلى حافلة أخرى ... إفترقا.

(15)

"أدخِلوه إلى هُنا" هكذا صرخت آمرةً جنود الحراسة، ترتدي ثياباً عسكرية، شاراتها الكثيرة تملأ صدرها وكتفيها، عيناها الجميلتان تلتهب شراً وحقداً على من تسميهم (مخرّبين)، تجلس خلف مكتبها المغطى برماد السجائر المتناثر كالثلج، منفضة تمتلئ بأعقاب السجائر، وفضاء الغرفة ضباب كثيف تشوبه زرقة ضوء تسلل من نافذةٍ عالية تسمح لبعض خيوط الشمس بالتسلل إلى الداخل، أدخَلوه إليها، في الثلاثين من العمر، طويل القامة، حنطيّ البشرة، آسرُ الحضورِ، هادئ. نظرت إليه، تأمّلت وجهه، تأمّلت وشاحاً يلفّ عنقه، ثيابه المتسخة بآثار أحذية حرّاسها، أمرته أن يجلس، ثمّ أمرت حراسها بالإنصراف، كانا معاً هي وهو في غرفة التحقيق، هي بجمال عينيها، وتضاريس جسدها الذي يكاد ينفجر أنوثةً داخل ملابسها، وهو بصمته المستفزّ، وهدوئه اللامبالي، قالت : "أنت فلسطيني..؟" هزّ رأسه مقرّاً. إنتصبت فجأةً وأمسكت بسوطها، رفعته إلى الأعلى وهوت بهِ على الطاولة غاضبة: "سألتك .. فأجبني ولا تومئ ...!".. إبتسم ثمّ قال: "عيناكِ جميلتان .. رغم جنونك .. هل أنتِ غاضبة..؟" وثبت إليه، قبضت بكفّيها الناعمتين على عنقه:"هل تغازلني أيها الأبله!" أمسك يديها وأزالهما عن عنقه: "لا .. إنما أسخر من نفسي .. فبعد عشرة أعوام من النضال .. تعتقلني إمرأة بهذا الحسن والرقة!" هدأت ثورتها .. عادت إلى مكانها، تنهّدت بعمق، أرخت جسدها الطريّ على المقعد .. حدّقت في السقف .. همس لها: "أنتِ عربية .. أليس كذلك ..؟" قالت مرتبكةً: "أنا إسرائيلية .." فاجأها وأمسك يدها التي تحمل السياط ثمّ قال: "أنتِ عربية تعمل في جيش إسرائيل..!" كان وقعُ كلماته كجلدات السياط على قلبها، شعرت بتلك الجلدات .. وانهارت تبكي : " ماذا تريد منّي..! كل شيء تغيّر .. قتلوا أبي وأمّي وإخوتي وزوجي .. لم يبقَ لي سوى أبنائي .. فهل تريدني أن أفرّط بهم ..؟؟؟" سحب السياط من كفّها، نظر في عينيها، صرخ : "خائنة إذاً ..؟" صرخت : "نعم .. خائنة ... خائنة .. خائنة ..." فانهال عليها جالداً .. بلا شفقة .. وهي تغتسلُ بالجلدات من جنابة خيانتها منتشيةً صامتة.

(16)

بدأت الثلوج بالتساقط، كانت هي واقفة خلف النافذة، تتكئ على حافّتها، وأنفاسها تصنع طبقة بخار على زجاج النافذة، تارةً تزيله بكمّ ردائها، وتارةً تزيله بيدها، خلف الزجاج كانت الأرض تتلوّن بالأبيض شيئاً فشيئاً حتى غطّاها البياض، غطّى الأعشاب، الحجارة الصغيرة، التراب، نزل أولاد الحيّ إلى الشارع، يرتدون قبّعات الصوف على رؤوسهم، يلفّون أعناقهم ووجوهَهُم بالأوشحة الصوفية، يلعبون هنا وهناك، ما زالت واقفة، تراقب هذا المشهد الشتويّ الدافئ! دعاها الجميع لأن تشاركهم اللعب، كانت خائفة منهم، تعلم أنهم ينتظرون هذه الفرصة للإنقضاض عليها ورشقها بكريات الثلج البيضاء الباردة، بينما هم يلعبون، أتى هو من بعيد يشقّ الثلج بساقيه، يلوّح لها ويبتسم، أشرق وجهها بابتسامةٍ أذابت من حرارتها كلّ الثلوج، وأزهرت لبراءة قلبها كلّ ورود الحيّ، أقبلَ الربيع لحظةً في عينيها، خرجت طيور الدنيا من أعشاشها تغرّد، إنتفضت الأشجار ونفضت عنها الثلج، عاد الدفء إلى قلبها، كانت أطراف أصابعها تنبض إحتفاءً بمصافحةٍ مرتقبة، فتحت النافذة، لوّحت له بيدها، نسيت البرد، والخوف، والجميع .. ثمَّ وثبت مسرعةً إليه.

(17)

في ذلك اليوم الربيعيّ البعيد، صادفتهُ في المكتبة، كان يلتهمُ ديوانَ شعرٍ نزاريّ، يرتاحُ بينَ أبياته الورديّة، يدعو في كلّ شهقةٍ جزيئات الهواء، ويبتسم. جلست قربه، كانت حذرة، لا يشبه الآخرين أبداً، قصّة شعرهِ تقليديّة، هندامه بسيطٌ جذّاب، عطرهُ من عصور الياسمين القديمة، أشرعت أمامها روايةً لأغاثا كريستي، جريمة أخرى من جرائمها الغامضة، في قطار الشرق تقرأ ملامح أحد أبطالها، ثمّ ترفعُ عينيها برفقٍ وخفية وتقارن، كان هو يشبه ذاك البطل .. بطل الرواية، صارت تُكثرُ النظر إليهِ صفحةً بعد صفحة، تقلبُ صفحةً ثمّ تنظرُ إليهِ دقيقة، لم يكُ هو يشعر بما يدور حوله، كان غارقاً في بحرٍ ياسمينيّ دمشقيّ، أصبح يُداعب الهواء بسبّابته، كأنّه يؤلّفُ لحناً جديداً لقصيدةٍ يلتهمها، أصابها الإحباط، كيفَ لم يلتفت بعدُ إليها؟ ربّما لم تكن كميّة العطر كافيةً لأن يشمّ رائحتها الساحرة من مقعده البعيد، أو ربّما عطرهُ القديمُ يطغى على عِطرها الحديث، لا شكّ أنّ القديم دائماً ينتصر، حتى هذا العطر ... إنتصر. أرادت أن تلفت انتباهه، فأسقطت الكتاب على الأرض، ثمّ همست بصوتٍ مسموعٍ:"أفففففففف .. يا الله!" لم يلتفت إليها، كان ما يزال غارقاً في بحره الممتدّ من قلب نزار قبّاني إلى آخر خلاياه العاشقة، كرّرت إسقاط الكتاب، لم يلتفت.. أثارها وجرح كبريائها، وقفت ومشت إليهِ تحملُ روايتها .. وعتاباً في عينيها قد يشعل المكان، مرّت من أمامِهِ فمرّ عِطرُها مصاحِباً ظلّها، واستقرّ في أنفه، إلتفتَ أخيراً ثمّ ابتسمت .. فابتسمت .. وتوقّفت إلى جانبه، سألته: "هل أنتَ مهووسٌ بقصائد نزار ..؟" تلاشت ابتسامته، تناثرت أبياتُ نزارٍ من حوله وابتعدت كعصافيرٍ جفلت وحلّقت بعيداً بعيداً .. ثمّ أومأَ : "إنّني .. أصمٌ .. أبكم!" سقطت الرواية من يدها .. ولحقت بها دمعة أشعلت المكان ...

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى