الأحد ٢٦ آذار (مارس) ٢٠٠٦
رغم العطب اللغوي إلا أننا لم نفقد متعة القراءة
بقلم سعداء الدعاس

نصف الاحزان ..رواية تثير جدل محرمات المجتمع الشرقي

ضمن دائرة الموت والحياة يتحفنا الكاتب عبدالستار ناصر بروايته ( نصف الأحزان )..التي تتناول مرحلة هامة من الحياة العراقية المليئة بالتوتر والألم.

( الأرض ملغومة بالقساة والساسة البلهاء ) ..في محيط هؤلاء يشقينا الكاتب ..فالقساة والساسة البلهاء هم من يقرر موت انسان وحياة آخر ، وفي دائرة الموت والحياة تلك تبقى قلوبنا على أكفنا ترتجف ساعة وتبتهل ساعة أخرى لحياة هذا وموت ذاك ، وبسرعة نصبح نحن القراء أولئك القساة فنتمنى في اللاوعي أن يموت ( عبدالباري ) ويهنأ ( سلمان ) بزوجته عواطف .

للوهلة الأولى يبدو لنا أن رواية عبدالستار ناصر ( نصف الأحزان ) لا تحمل بين جوانحها سوى مغزى عاطفي وحيد ..رغبة جامحة أو أي عنصر غرائزي آخر ، فالرواية منذ بدايتها تحكي عن أسيرين أو سجينين إن صحت التسمية – على اعتبار أن الأسير هو الواقع في قبضة العدو – هذان الشابان قبض عليهما لتورط الأول ( عبدالباري ) مع تجمع سياسي معارض يرأسه رجل وطني يدعى ( حسون الباز ) بينما الثاني ( سلمان يعقوب ) فلم يكن سوى ظلا وطنيا مناضلا وجد بالصدفة ضمن هذه المجموعة التي لم يكن يعلم كنهها بالضبط ، فأتهم بذات التهمة .

بعد مضي تسع سنوات وأربعـــة أشهـــر هي مــدة السجــن / الأســر، يعــود ( سلمان ) للحياة من جديد بعد أن قضى المدة في قمقم حجري يدعى زنزانة ، مساحة لا تكفي بطولها وعرضها لامتداد رجل ، لكن ( عبدالباري وسلمان ) عاشا فيها معذبان تارة على يد السجان ومستمتعان تارة أخرى بحديث عبدالباري عن زوجته ( عواطف ) ، تلك المرأة التي عرّاها زوجها أمام رجل آخر في لحظات الضعف الانساني ...فحفظها الآخر وبات ( سلمان ) يعرف تفاصيل هذه المخلوقة ، ودقائق حياتها مع (عبدالباري ) لحظة بلحظة .

أخيرا ، وبعد كل هذه السنين تقرر السلطات قتل ( عبدالباري ) والافراج عن ( سلمان ) لتأكدها من عدم ضلوعه في القضية .

سنوات طوال قضاها ( سلمان ) وراء القضبان ..فتغيرت حياته ، بل لم تعد له حياة في هذا الفضاء الواسع ... وفي ظل وحدته هذه قرر ( سلمان ) الذهاب لعواطف التي أحبها ، مدعيا أنه زوجها ( عبدالباري ) متحججا بالتعذيب الذي طاله طوال هذه السنوات فغير من ملامحه ، مستندا في ذلك على مخزون لا ينضب من الذكريات والخصوصيات التي لا يفترض بأن أحدا يعرفها سوى ( عواطف ) وزوجها ( عبدالباري ) .

بعد رفض أولي من قبلها لهذا الطارئ المفروض عليها ، تتقبل ( عواطف ) فجأة هذه الحكاية مقتنعة بتفاصيلها ، متحمسة لاستعادة حياتها معه ..حياة مختلفة تكشف لنا السر الحقيقي لقبول عواطف هذا الواقع الجديد !

لعل أبرز ما يميز رواية نصف الأحزان لعبدالستار ناصر ، هو ذلك اللعب المزدوج على وترين مهمين في حياة كل انسان ، العاطفة والانتماء ..أهم العناصر التي يتعاطاها الفرد ..مثقفا ..أميا ..، رجلا كان أو امرأة . كلانا لا يقوى على العيش دون انتماء ..لقطعة أرض ، لقضية ما أو حتى لثقافة معينة ، وهذا بالفعل ما لمسناه لدى شخصيات هذه الرواية ، حتى ( سلمان ) الذي سجن بالخطأ على إثر قضية لم يتبناها أساسا ، باتت له قضيته ( عواطف) التي فكر طويلا في كيفية الوصول إليها ... وهذه الأخيرة لغرض نبيل في نفسها استغلت قضية سلمان الصادقة لتحولها من هم غرائزي إلى هم أسمى وأعظم ..هم القضية ..هم الوطن الذي كان ضحيته زوجها الحقيقي ( عبدالباري ) الامر الذي أنقذ به المؤلف خطه الدرامي من آليه المبالغات التي تتميز بها التراجيكوميديا الآسيوية عادة ، كما في الأفلام الهندية .

من جانب آخر، وقع المؤلف بعض الأحيان في عملية خلط بين أزمنة الحدث من جهة والضمائر التي صيغت بها الشخصيات من جهة أخرى ، حيث نجد أنفسنا متأرجحين بين الماضي والحاضر دون أي فصل بينهما ، كما تأرجحنا بين ضمائر متكلمة ، غائبة ، ومخاطبة ، دون مراعاة لأهمية الفصل هنا حتى يتسنى للقارئ الاسترسال في القراءة دون الانشغال بالصياغة اللغوية .

ولكن رغم هذا العطب الذي أصاب بعض أجزاء النص إلا أن رواية ( نصف الأحزان ) - التي تقع في 118 صفحة من القطع الصغير – من الروايات التي تثير جدلا ما لدى القارئ ، سواء في العلاقة العاطفية الغرائزية أو الوطنية ، فالى أي مدى يجوز للانسان المقدم على الموت أن يبوح باسراره للآخر ؟ ..في ظل مجتمع شرقي يتوق لسماع ثرثرات عن النساء وخفاياهن ، إلى أي مدى يجوز لنا تجنيد قلوبنا وعقولنا في سبيل قضية ما ...؟ كما فعلت (عواطف) فنتجاوز ذكرياتنا مع من نحب ، بل تصبح الذكريات هي الحافز الرئيسي للمضي في طريق وعرة ، وهل يعقل أن من عاش في ظلام دامس لسنوات طوال في ظل اهتمامات هامشية ، هل يعقل أن يرى من جديد ..؟

كل هذه التساؤلات وغيرها يثيرها فينا عبدالستار ناصر في روايته ( نصف الأحزان ) التي تجعلنا نرغب بإعادة قراءتها من جديد ، لنشعر معها أننا بدأنا للتو نملك القدرة على الرؤية كبطلها ( سلمان )..رؤية تحددها البصيرة لا البصر .. رؤية شعر معها ( سلمان ) أنه انضم أخيرًا لعالم الرجولة الذي لم يعرفه سابقــًا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى