الأربعاء ٢١ أيار (مايو) ٢٠١٤
بقلم سعيد أراق

نص مسرحي مُكابَداتٌ مَرِحَة

المشهد الأول

(ليلة مقمرة. طريق صخري يمتد بين جبال عالية. رحالة تظهر عليه آثار التعب ووَعْثاءُ السفر)

 الرحالة: (يخرج قربة ماء، يشرب ثم يحدق حوله، وينهض واقفا. يضرب بقبضتيه على صدره مثل الشمبانزي ويصيح بأعلى صوته): أنا المسافر الذي لا يركن أبدا للإقامة..أنا المرتحل دوما نحو الأبعد والأقصى…
الصدى: أنا المسافر الذي لا يركن أبدا للإقامة..أنا المرتحل دوما نحو الأبعد والأقصى…صى...صى...صى
الرحالة (يقف مفزوعا، ينظر حوله بِوَجَل): من..من أنت؟...
الصدى: من..من أنت؟ ت...ت..ت...
الرحالة: مالك تعيد ما أقول؟ أتهزأ بي؟
الصدى: مالك تعيد ما أقول؟ أتهزأ بي؟ بي...بي...بي...
الرحالة (يخرج سيفه من غمده): أرني وجهك القبيح أيها الجبان؟..
الصدى: أرني وجهك القبيح أيها الجبان؟..بان...بان...بان...
الرحالة (يجري في كل الاتجاهات، يبحث عن صاحب الصوت وهو شاهر سيفه): اخرج من مخبئك وحدثني مثل الرجال..اخرج إلي لأقطع رأسك وأجز عنقك أيها التافه الأخرق...
الصدى: اخرج من مخبئك وحدثني مثل الرجال..اخرج إلي لأقطع رأسك وأجز عنقك أيها التافه الأخرق...رق...رق...رق...
الرحالة (بغضب): أنت جبان..
الصدى: أنت جبان..بان...بان...بان...
الرحالة (بمزيد من الغضب): إن أمسكت بك سأقطع رأسك وأسفك دمك..
الصدى: إن أمسكت بك سأقطع رأسك وأسفك دمك..مك...مك...مك...

(يتحسس الرحالة عنقه وتظهر عليه علامات الخوف. يقف مشدوها. يخيم صمت ثقيل على الوادي. ثم يسمع صوت خطوات ثقيلة مقبلة نحو الرحالة من جهة الشرق)

 الرحالة: (بفزع وترقب): من أنت أيها الغريب؟ ها قد أتيت إلى حتفك..
 الصدى: من أنت أيها الغريب؟ ها قد أتيت إلى حتفك..فك...فك...فك...

(يسرع الرحالة بالاختباء خلف صخرة جانبية. يظهر رجل عجوز يجر قدميه بصعوبة وتثاقل)

 الرحالة (ينقض على العجوز): ها أنت قد وقعت في يدي أيها التعس..
 الصدى: ها أنت قد وقعت في يدي أيها التعس..عس...عس...عس...
 العجوز (صارخا): من أنت؟
 الصدى: من أنت؟
 الرحالة (بأعلى صوته): أنتما اثنان إذاً؟
 الصدى: أنتما اثنان أذًا؟ ذًا...ذًا...ذًا...
 العجوز (يقاوم من أجل الإفلات من الرحالة وهو يصيح): اتركني أيها الغريب؟ أنا لست عدوك..
 الصدى: اتركني أيها الغريب؟ أنا لست عدوك..دوك...دوك...دوك...
 الرحالة: وأنا لست عدوك..أنا رحالة...
 الصدى: وأنا لست عدوك..أنا رحالة...حالة...حالة...حالة...
 العجوز (يقف بصعوبة. ينظر إلى الرحالة بازدراء): لماذا تصرخ يا رجل؟ ألا تدرك أيها الأحمق أن هذا الصوت الذي يرد عليك ليس سوى صدى صوتك المقزز؟..
 الرحالة (تبدو عليه علامات فطنة مفاجئة): هذا صدى صوتي إذًا؟ يَا لَنِي من أحمق؟..
 العجوز: من تكون أيها الرجل؟!..
 الرحالة: أنا رحالة...أنا المسافر الذي لا يركن أبدا للإقامة..أنا المرتحل دوما نحو الأبعد والأقصى…

(يهز العجوز رأسه بازدراء، ويتابع مسيره دون أي تعليق)
 الرحالة (يلاحقه ويمسك به): إلى أين تمضي أيها الرجل العجوز؟ ابق قليلا ودعنا نتحدث..
 العجوز: لا حديث لي معك أيها الرجل..أمامي طريق طويل..
 الرحالة: هيا ابق معي قليلا..تقاسم معي هذا الطعام (يفتح كيسا ويخرج منه خبزا وثمرا وسمكا مملحا)
 العجوز: خبز وثمر وسمك مملح؟ قبلت دعوتك..سأبقى معك قليلا..لم أذق سمكا مملحا منذ أن خرجت من بلاد الثلج..
 الرحالة (تبدو عليه علامات فضول كبير): بلاد الثلج؟ هل كنت في بلاد الثلج؟..
 العجوز (متضايقا): هات الطعام يا رجل..ألا ترى أني جائع؟..
 الرحالة: (يعيد إغلاق كيس الطعام بسرعة): لن تذوق من هذا الطعام إلا إذا حكيت لي قصتك مع بلاد الثلج..سيكون ذلك ثمن ما تأكل..لا شيء بالمجان أيها الشيخ، ألم تتعلم ذلك في بلاد الثلج؟..
 العجوز: (يهم بالنهوض وعلى وجهه علامات الغضب): ما تعلمته في بلاد الثلج هو ألا أقبل أبدا أن أسترخص نفسي من أجل مصلحة عابرة..
 الرحالة (يعترض سبيله): هل تعتبر الطعام مجرد حاجة عابرة؟ أليس الطعام مطلبا متجددا لا غنى عنه إلا بالموت؟..أهذا هو منتهى حكمتك أيها الشيخ؟..اِمض إلى حيث تريد فقد تبين لي أن ما لديك من قصص وأحاديث لا يستحق مني أن أشركك في طعامي..

(يعود الرحالة إلى مكانه. يجلس ويفتح كيس الطعام ثم يشرع في الأكل. ينظر إليه الشيخ بعيون حزينة، يهم بالرحيل لكن تبدو عليه علامات تردد. يقف للحظات. يحدث نفسه بكلمات وهمهمات غير مفهومة، ويعود نحو الرحالة)
 الشيخ: هيا يا رجل..دعنا نتفاهم..لن أرحل قبل أن أشاركك في الأكل..السمك المملح لا يكون لذيذا إلا حين يأكله اثنان..
(يستمر الرحالة في الأكل دون أن يبدي أدنى اهتمام بما يقوله الشيخ)

الشيخ (يمد يده نحو الطعام، يأخذ قطعة سمك صغيرة. يضعها في فمه، يلوكها بِنَهَمٍ وانتشاء، ثم يبلعها ويمد يده مرة أخرى لأحذ قطعة سمك أخرى): أووم!..هذا لذيذ..لن أدعك تأكل كل هذا الطعام وحدك..يحز في نفسي أن أمضي وأدعك تأكل وحيدا مثل المغبون أو اليتيم..
الرحالة (ينظر إلى الشيخ بمكر، وتبدو على شفتيه ابتسامة ماكرة، ويحدث نفسه): ها هو الشيخ اللئيم قد وقع في المصيدة..أنا ذكي..أنا داهية..أنا ماكر..هاهاهاها..
الشيخ ( يأكل بشراهة، وينظر إلى الرحالة بعيون ماكرة، ويحدث نفسه): ها هو الرحالة الغبي قد غُلب على أمره، وانطلت عليه الحيلة..أنا داهية..أنا ذكي..هاهاهاها..
(فجأة يدوي صوت غريب، ويتصادى في الوادي. يهب الرحالة والشيخ مذعورين. ترتسم على وجهيهما علامات الخوف والرعب)
 الرحالة (بصوت مرتعش): ما..ما هذا؟
 الشيخ (بصوت مرتعش أيضا): هذا..الصوت..ينذر..بـ..بِـشَرٍّ لا طاقة لنا عليه..
 الرحالة (يجمع أغراضه وكيس طعامه): هيا نهرب..لا..لا..سأهرب لوحدي..وداعا أيها الشيخ..
 الشيخ (يمسك بخناق الرحالة): لن تهرب وحدك..سيجمع بيننا الهروب كما جمع بيننا السمك المملح..لن أدعك تهرب وحدك..خذني معك..
 الرحالة (يمتطي صهوة جواده): امكث وحدك هنا أيها الشيخ البائس..(يرمي كيس السمك المملح على الأرض) خذ هذا السمك المملح الذي أذللتَ نفسك من أجله..خذه أيها الشيخ الشَّرِه..سنرى إن كان سينفعك للخروج من هذا الخطر الداهم الذي يقترب..

(يُسمع صوت عظيم ومخيف يشبه الزئير، وَوَقْعُ خطوات تقترب. يقف الشيخ مفزوعا وكيس السمك المملح مرمي عند قدميه، ثم يظهر رجل طويل القامة، عريض المنكبين. عيناه جاحظتان، ويحمل سيفا في يده)

 الشيخ (مفزوعا): من..من..من أنت؟ ما..ماذا..تريد؟..
 الرجل الغريب (بصوت قوي ومخيف): أنا حتفك أيها الشيخ الحقير؟ أنا حتفك (يمسك بخناق الشيخ ويهزه بعنف وشراسة)...
 الشيخ (متوسلا): لا تقتلني أرجوك..لا أريد أن أموت..لا أريد أن أموت..
 الرجل الغريب: إذًا أخبرني أين هو كيس السمك المملح؟
 الشيخ (يلقي نظرة متوجسة نحو كيس السمك المملح المرمي على الأرض): أتقصد كيس السمك المملح؟!..
 الرجل الغريب: أين الكيس؟ أرني إياه قبل أن أستل روحك من بين جنبيك؟..
 الشيخ: إنه هناك، لقد تركه الرحالة ومضى هاربا قبل أن تصل..
 الرجل الغريب (يأخذ الكيس، يفتحه ويخرج ما فيه من السمك المملح، يتفحصه بإمعان): هل أكلت من هذا السمك أيها الشيخ؟..
 الشيخ (متلعثما): نعم..لا..لا..هو الذي أكل منه أكثر...
 الرجل الغريب: من هذا الذي أكل منه غيرك؟
 الشيخ: الرحالة..
 الرجل الغريب: من؟!..
 الشيخ: الرحالة..إنه رجل التقيت به في هذا الوادي، ودعاني لمشاركته في أكل الطعام..
 الرجل الغريب: ويحك أيها الشيخ المنحوس! ألا تعلم أن هذا السمك المملح فيه سم قاتل؟ قضي عليك أيها الشيخ الجشع..قضي عليك وعلى الرحالة..
 الشيخ (متأوها): آهٍ..آه..ماذا تقول أيها الرجل؟! آهٍ على زهرة شبابي التي ذبلت قبل الأوان! كيف يكون فيه سم قاتل؟ لو كان الأمر كما تقول لما بقيت حيا إلى هذه اللحظة؟..
 الرجل الغريب: إنه سم من نوع خاص. هذا السم لا يؤدي إلى الموت، بل يؤدي إلى الجنون..ستصبح مجنونا أيها الشيخ التعس!..
 الشيخ (متضاحكا): هذا كلام عجيب..سم يفقد الإنسان عقله؟ هذا أمر عجيب فعلا..ومن قال لك إنني لم أكن مجنونا قبل أكل هذا السم؟..أليس كل الناس مجانين بدون سمك مملح؟..أليس كلامك بدوره كلام مجانين؟..تقول إنه سم يفقد الإنسان عقله؟ يا له من سم؟..
 الرجل الغريب: والله قد اختل عقلك أيها الشيخ الأخرق!..لقد فعل السم فعله فيك..يا حسرتاه عليك!..
 الشيخ (يتقافز ويتمايل بسعادة): مرحى لك أيها السم الجميل!..مرحى لك أيها السم الذي يزيل عني غشاوة العقل ويُلبسني رداءَ الجنون البهي!..أنا الآن سعيد..أنا الآن حر أيها العقلاء الذين استعبدهم العقل!..
الرجل الغريب (يضرب كفا بكف): هذا أول الضحايا..(متوجها إلى الشيخ): أين هو الكيس الثاني؟ هيا أجب، أين هو الكيس الثاني الذي توجد فيه بقية السمك المملح؟..
الشيخ (متهالكا من كثرة الضحك): أخده الرحالة..أخده اللئيم..هرب منك..لن تستطيع اللحاق به أيها الغريب..
الرجل الغريب (يقيد الشيخ ويضعه في عربته التي يجرها حصان قوي أسود ثم ينطلق بسرعة في نفس الطريق الذي سلكه الرحالة): هيا أيها الشيخ المجنون..سترافقني رغما عنك..لابد من اللحاق بالرحالة قبل أن ينتشر السم ويصاب كل الناس بالجنون..
الشيخ (مهلوسا): يا لسعادتي بعد التعاسة..يا لفرحتي بعد الضيم..وداعا أيها العقل..أريد المزيد من السمك المملح..أريد المزيد من الجنون..لون السماء أخضر ورداء الجبال مصنوع من ريش النعام..يا له من عالم..إلى أين تأخذني أيها الرجل الأحمق؟..لماذا وضعتني على ظهر هذه السفينة الشراعية..اِحذر هذا البحر الذي تتلاطم أمواجه..غُصْ في هذا البحر الذي يوجد في أعماقه اللؤلؤ والدُّر..أَغمض عينيكَ لكي ترى..صَادِرْ عقلكَ لكي تدرك وتفهم..قُصَّ جناح الخوف لكي تتمكن من التحليق في المُلْك والملكوت..أنتَ مجرد بَذْرَةٍ بعقلك، لكن أنتَ الكَوْنُ كُلُّ الكَوْنِ بجنونك..اغربي يا شمس السماء فها قد أشرقت شمسي وجَلَّلَتْنِي بالسر والأنوار..أنا الآن ملاك..أنا سيد الناس وكل الناس عبيد..وداعا أيها العقل..وداعا بدون ندم..وداعا بدون بكاء..

المشهد الثاني

( شمس حارقة. جبلان عاليان بينهما بوابة عظيمة تسد الطريق. وعلى جانبي البوابة برجان عاليان عليهما جنود. الكثير من الناس يقفون أمام البوابة، ينتظرون أن تُفتح من أجل السماح لهم بالمرور. يصل الرجل الغريب بعربته التي يجرها الحصان الأسود، والتي تحمل الشيخ وهو في أوج الهذيان والهَلْوَسَة)
- الشيخ (مستمرا في هذيانه): ها هو الطريق قد انفتح لمن يسعى إلى القرب بِوِصَالِ الحبيب..ليست البوابة مغلقة إلا لمن عَمِيَتْ أبصاره عن الرؤية..(متوجها إلى الناس الذين ينتظرون انفتاح البوابة) ماذا تنتظرون أيها الأجلاف؟ البوابة لا تُغلق إلا في وجه المثقلين بِأَطْمارِ العقل وأَرْتاقِ الاتِّزان العقيم..ها قد جئتكم من حيث لا مَفَر..ها أنا قد جئتكم بما لا تعلمون..اِنفتحي أيتها البوابة..اِنفتحي عن طواعية وإلا سأفتض بكارتك عنوة واغتصابا..
 الرجل الغريب (يمسك بالشيخ بقوة ويُكَمِّمُ فمه بقطعة من قماش غليظ): اصمت أيها المجنون..اصمت قبل أن تفضحنا..ألا ترى الجنود والحراس الشداد على بُرْجَي البوابة..اصمت قبل أن يقطعوا رأسك المفرغ من العقل..
 الشيخ (يقاوم بقوة وينفلت من قبضة الرجل الغريب، ويزيل الكمامة عن فمه، ثم يجري وسط الناس وهو يصيح): ما من فضيحة أكبر من فضيحة العقل الذي تعيشون به وتحيون عليه حياة هوان ومسغبة..انظروا إلى أنفسكم..ها هو عقلكم يدعوكم إلى الانتظار إلى أن تُفتح لكم الأبواب..وها هي البوابة باقية على حالها منذ الأزل..ها هي مغلقة في وجوهكم الكريهة مثل تعويذة أو طلسم...

(يجتمع الناس حول الشيخ بفضول. يتدافعون ويتزاحمون. يعتلي الشيخ صخرة عالية ويقف فيهم خطيبا)

الشيخ: أيها الناس..أيها الحمقى الرازحون مثل العبيد تحت نَيْرِ الحِجَى والعقول! البوابة المغلقة سلطة فاجرة..والطريق المسدود مصادرة ظالمة..هذه البوابة عروس تزف إليكم نفسها..وليست الفحولة بالعقل، بل بالمراودة والمبادرة والافتضاض..السمك المملح سم يَذهب بالعقل، وها قد أكلتُ منه بما في مقدوري من شراهة ونَهَم..ذهب العقل ولا ندم..الرجل الغريب ماكر مثل الزمن الغضوب..والرحالة مشروعُ سَفَرٍ وَاهٍ ومحجوب..أنا السيد..أنا الحر الذي استفاق بعد نومة خاملة..أنا الهذيان..وأنا الهلوسة..وأنا الجموح بدون رَوِيَّة وأنا النبوغ بدون ادعاء..وأنتم قَبْضُ ريحٍ وسِلْعَةٌ تالِفة..

(تتعالى صيحات الجموع. يشتد التدافع والزحام. تقع فوضى عارمة)
 الجموع: البوابة المغلقة سلطة فاجرة..والطريق المسدود مصادرة ظالمة..
 الصدى: البوابة المغلقة سلطة فاجرة..والطريق المسدود مصادرة ظالمة..

(تستمر الجموع في ترديد نفس الكلمات، ثم تخف حدة الترديد شيئا فشيئا. تتراخى الصيحات وتضعف قبل أن يعم الصمت في الوادي. يبحث الناس عن الشيخ فلا يجدون له أثرا. يتعالى صوت الرجل الغريب)

 الرجل الغريب: أين أنت أيها الشيخ المجنون؟ (ثم متوجها إلى الجموع): هيا تفرقوا..اِنْفَضُّوا أيها الناس..واحذروا كلام الشيخ المجنون..ولا تأكلوا السمك المملح..
 الجموع (يتدافعون بفوضى): السمك المملح؟! السمك المملح؟! نريد السمك المملح..نريد السمك المملح...نريد فتح البوابة..نريد اختراق الحاجز...أين أنت أيها الشيخ؟ أين أنت أيها الزعيم؟..
الرجل الغريب (بغضب): أيها الحمقى! عن أي زعيم تتحدثون؟ السمك المملح سم يذهب بالعقول..ابحثوا عن الشيخ الأخرق واقتلوه قبل أن يفسد عقولكم..
الجموع (تقاطعه بأصوات غاضبة): السمك المملح..نريد السمك المملح..ماذا لديك في ذلك الكيس..هات الكيس..

(تتدافع الجموع نحو الرجل الغريب، يسقطونه أرضا، ينكبون عليه بشراسة. تتعالى الأيدي والأصوات، ويشتد التدافع، وتترامى قطع السمك المملح في كل مكان ويتهافت عليها الناس ويأكلونها بنَهَم)
الرجل الغريب (يجري في كل الاتجاهات، يحاول منع الناس من أكل السمك المملح): ماذا تفعلون أيها الحمقى؟ ماذا تأكلون أيها المغفلون؟ هذا سم ناقع..هذا سم يذهب بالعقول..

(ينبعث الشيخ فجأة. يجري بحبور وسط الناس)

 الشيخ : مرحى..مرحى..هذه معجزة السمك المملح..هذا يوم احتفال..هذه بداية النصر..هذا أوان فتح البوابة..(متوجها نحو الجنود الموجودين في أعلى البرجين) قضي عليكم أيها المصفحين مثل دبابة..رماحكم نسيم عليل وسيوفكم ترياق المرضى ومأدبة العطشى والجياع والمحرومين..أين أنت أيها الرحالة؟ أين أنت أيها الهارب من مصيرك المشؤوم؟..اكتملت النبوءة..اليوم سمك مملح وغدا أمر عظيم..
(الجموع تحيط بالشيخ من كل الجهات. تتعالى أصوات وكلمات متضاربة):
 أحد الأصوات: لا فُضَّ فُوكَ أيها الزعيم..
 صوت آخر: اليوم سمك مملح وغدا أمر عظيم..
 صوت آخر: السمك المملح ذهب بالعقول..
 صوت آخر: السمك المملح سم..
 صوت آخر: السمك المملح دواء..السمك المملح أعجوبة..
 صوت آخر: الشيخ مجنون..السمك المملح خدعة..
 صوت آخر: البوابة ما زالت مغلقة كعهدها منذ قرون..
 صوت آخر(يصيح عاليا): ها قد وقعت الفتـنة..ها قد وقعت الفنتـنة..

(فجأة يُسمع صرير البوابة وهي تُفتح. يعم صمت يشبه صمت القبور. تشخص نظرات الناس نحو البوابة التي يخرج منها بعض الجنود المدججين بالسلاح. يسمع صوت بُوقٍ وقَرْعُ طبول)
 الشيخ (مبتهجا): انفتحت البوابة..الجرذان تخرج من غارها الخَبِيءْ..الرماح مجرد قطع عصي تالفة والسيوف قطع حديد صدئ..القلوب هي محط الرؤى..والعقول هي أسباب كل الضيم ومنشأ كل السأم..الجنود كائنات عَدَمِيَّة..أنا الجنون..أنا الحياة..أنا فورة الهذيان الذي يُجْلِي القلوب ويزرع القلاقل والفتن..تقدموا أيها الجنود..تقدموا لكي تصابوا في مقتل..
 الرجل الغريب (ينبعث من بين الجموع): هذا الشيخ قنبلة موقوتة وخطر داهم..(ثم متوجها إلى الجنود الذين يتقدمون حاملين السيوف والرماح) اقتلوا رأس الفتنة..اقطعوا رأس الثعبان..
 الجموع (يخاطبون الجنود بصوت كالهدير): لن نسلمكم الشيخ..لن تنالوا الزعيم..سنحول بينكم وبين المجنون..السمك المملح..نريد المزيد من السمك المملح..
 الشيخ (يتراقص على إيقاع هدير الجماهير): طوبى لمن كان راقدا فأفاق، وكان خَسيئًا فانحلت عقدة لسانه على مرأى من الجنود والناس..(ثم متوجها إلى الجنود): بوابتكم انفتحت كما ينفتح كل مستغلق..من افتض بكارة قلعتكم في هذا اليوم الأغر؟ من أخرجكم من جحوركم كما تخرج العقارب أو يتدفق الأوباش؟ أهو العقل الذي به صُلْتُمْ صولة جهالة على الناس أم هو الجنون الذي يقض المضاجع ويعمر الديار؟ أنا الشيخ وقد رُدَّ إليه صباه..أنا العقل وقد خالطه الجنون..أنا الفتنة وقد توقَّدت لكي تصهر الحديد وتوقظ الأموات..
 أحد الجنود(بصوت مرعد): وأنا السيف حين يصول والرمح حين يجول..وأنا غصة الموت حين تَـشْخَصُ الأبصار وتُوقِنُ النفوس أنْ لا منجى ولا مفر..
 الشيخ (متحديا): هذا حديث عبد وكلام جهالة..صولة المملوك خيبة..ليس الموت أن تموت بل الموت أن تحيا مملوكا لغيرك وعبدا لسواك..كيف تَـقتل بسيفك وقد نُزعت منك الحياة منذ أن صرتَ سوطا لافِحًا في أيدي مولاك؟..
 صوت الجموع (يخاطب الجندي): أنت سوط في أيدي مولاك؟ أنت سوط في أيدي مولاك؟...
(فجأة يتعالى صوت المؤذن وهو ينادي للصلاة. يتوقف صياح الجموع ويسود السكون. يشرع الناس في الوضوء استعدادا للصلاة)
 المؤذن: الله أكبر..الله أكبر..أشهد ألا إله إلا الله...
(تخشع النفوس وتسود أجواء إيمانية. يصطف الناس من أجل الصلاة. يقف الجنود والشيخ والرجل الغريب جنبا إلى جنب في صف واحد، وتقام الصلاة. وبعد السلام يعود الناس إلى ما كانوا عليه من عداء وصراع)

- الشيخ: الصلاة تسليم..الصلاة تمجيد للخالق وتفنيد للصنم.. أين أنت أيها المعتد بسيفه اعتدادَ خيبةٍ ومذلة؟..
 صوت الجموع (بصخب هادر): نعم.. الصلاة تسليم..الصلاة تمجيد للخالق وتفنيد للصنم..أين أنت أيها المعتد بسيفه اعتدادَ خيبةٍ ومذلة؟..
 الجندي (يخاطب الشيخ بصوت غليظ): أنت مطلوب للمثول أمام فخامة الحاكم..كفاك هلوسة أيها الشيخ السقيم..السمك المملح نقمة..السمك المملح مؤامرة ضد النظام..
 الرجل الغريب (متذللا): أنا أيضا أريد المثول أمام فخامة الحاكم..خذني إليه أيها الجندي..أخبره أنني أحمل أخبارا خطيرة..أخبره أنني مخلص وغيور على النظام..
 الجندي (يمسك بالرجل الغريب ويسلمه إلى باقي الجنود): أمسكوا بهذا الرجل..خذوه إلى رئيس الحرس لكي يبث في أمره ويرى ما في جعبته من أخبار..(ثم متوجها باستعلاء إلى الشيخ): أما أنت أيها الشيخ المشاكس فأنا الذي أتولى جرك إلى الحاكم كما تجر البهائم إلى المذبحة..

(تحدث في الجموع حركة احتجاج. يحاول بعضهم حماية الشيخ من الجندي. ينهال الجنود على المحتجين بالضرب. تُسمع أصوات أنين وصرخات ألم، وتقع فوضى عارمة. يتفرق الناس ويمضي الجنود وهم يجرون الشيخ)

المشهد الثالث

(زنزانة ضيقة. ضوء خافت يتسرب من كوة صغيرة في أعلى الحائط. الرجل الغريب ينتحب، والشيخ يغني بمرح. وجسد ممدد على الأرض بدون حراك)
 الشيخ (يغني): الزنزانة رحبة..والسجن مدى مفتوح..البوابة فُضَّتْ بكارتُها..والرجل الغريب تاه..
 السجان (من خلف القضبان): ألا تتعب من الهذيان أيها الشيخ الموبوء؟..
 الشيخ (مهلوسا): السجان سجين..أنا حر حيثما كنت..القضبان صولجان والزنزانة قصور العارفين..من أكون حين أغني؟ ومن تكون أيها السجان حين تمسك بالساطور وتجز رقاب المارقين؟..الحاكم صنم..والصنم مَحضُ حَجَرٍ مَهِينٍ سواء كان لاتًا أو عُزَّى..(ثم متوجها إلى الرجل الغريب) قم أيها الرجل الغريب..لدينا صلاة نصليها..في نفس الصف نكون..نَتَجانَبُ بالأكتاف ونَتَراصَفُ مثل البنيان المرصوص..
 الرجل الغريب(بصوت يخنقه البكاء): أيها الأحمق الممسوس، أنت سبب المَضْيَعَة..أنت المارق الذي حال بيني وبين الغنيمة..دعني أندب حظي..دعني أفرغ كل ما فيه جوفي من دموع شجية..
 الشيخ (مستمرا في رقصته البوهيمية): هذا الحال الذي أنت عليه هو الغربة القصوى..لماذا سَمَّوْكَ الرجل الغريب؟ السمك المملح وطن وألفة..السمك المملح كُوَّةُ نُور..ما زالت الأمواج متلاطمة تتقاذف السفينة..الشط بعيد واليابسة دنستها الأيدي الهمجية..
 الجسد الممدد على الأرض (بصوت خافت): السمك المملح ارتحال بدون سفر، وإقامة بدون سأم..
 الشيخ (بفضول فاتر): من أنت أيها الجسد الممدد مثل الجثة الهامدة؟..
 الجسد الممدد على الأرض (يرفع رأسه. يجيل نظراته فيمن حوله ثم فجأة نهض واقفا): أنا المسافر الذي لا يركن أبدا للإقامة..أنا المرتحل دوما نحو الأبعد والأقصى…
 الشيخ (بابتهاج الأطفال): مرحى..أنت هو أنت..أنت هو ذاك..أنت الرحالة..أنت الوجه الآخر للغربة..أنت الغياب المسرف للانتماء..أنت الواقع دوما خارج كل وطن..
 الرحالة (بصوت خائر): كيف عرفتني وقد حسبتُ دوما أن ارتحالي يجعل مني هوية محجوبة؟..من أنت أيها الشيخ؟..
 الشيخ: أنا السمك المملح..وكل العارفين يقتاتون من لحمي لكي يستعيدوا طراوة الصبا ونَدَاوَةَ الخَبَل..
 الرحالة (ينهض واقفا، يمسك بالشيخ ويسر في أذنه): ما زال معي الكيس الثاني من السمك المملح..
 الشيخ (متحمسا): أعطني إياه..دعنا نطعم منه الرجل الغريب لكي تزول عنه غربته ليرى ما لا يُرى، وليزول عنه عَمَاهُ فيبصر..
 الرحالة (هامسا): ألا تعلم أن السمك المملح ممنوع في المملكة؟ السمك المملح يجر على صاحبه النكبات والويلات..(يُخرج الكيس من تحت ثيابه) خذ الكيس..اِفعل به ما تشاء..اِنفرد بلعنته وحدك أيها الشيخ السقيم..
 السجان (صارخا): ما الذي تتهامسان به؟ ماذا يوجد في ذلك الكيس؟..
 الشيخ: عن أي كيس تتحدث؟ لا يوجد أي كيس..
 السجان (يفتح باب الزنزانة ويدخل): هات ذلك الكيس لأرى ما يوجد فيه..
 الشيخ (يخرج من الكيس قطعة سمك مملح ويمدها إلى السجان): لا يوجد فيه سوى هذا السمك المملح..خذ هذه القطعة..تذوق طعمها اللذيذ..
 السجان (يضع القطعة في فمه ويبلعها دفعة واحدة): أووم!..هذا لذيذ..أريد المزيد..هات ما عندك أيها الشيخ..
 الرحالة (معترضا): يكفيك هذا أيها السجان..اِصبر قليلا وسترى أثر هذا السمك..سترى أنك ستصبح بدورك سمكة..وستفتح باب السجن لكي تخرج منه كل الأسماك..ستكون بطلا..وبسبب بطولتك سيقطع الحاكم رأسك..
 السجان (ممتعضا): ما هذا الهذيان أيها الرحالة الأبله؟ أنا السجان..والسجان لا يحرر المساجين..السجان يبقي عليهم في السجون لكي يستمر سجانًا كما أُريدَ له أن يكون..(ثم يفعل السمك المملح فعله ويشرع السجان فجأة في الرقص والتمايل كالسكران): أنا السجان، والسجن مملكتي التي أتبوأ فيها عرشي وتكتمل فيها عظمتي..(متوجها إلى الرجل الغريب): قم أيها الرجل الغريب..قم أيها النسر المهيض وطر عاليا في السماء..مكانك ليس هنا..مكانك بين الجموع..وأنت أيها الشيخ، مالك حزين مثل أبي الهول؟ لحيتك فيها الشوك والصُّبَّار..وعيناك مغارتان تتخايل فيهما المآسي والهموم..(ثم يشير إلى باب الزنزانة المفتوحة): اخرج من هنا..حلق بعيدا مثل الكواسر..ليس في السجون سوى الجرذان..شيخوختك هي جسر الوصول..أنا السجان العتيد وها قد أخرجتك من سجن السجن إلى سجن الجموع..سَمَكُكَ المملح غريب مثلك..فيه مفعول عجيب..
 الرحالة (مندهشا): لقد جُنَّ السجان..هيا أيها الشيخ..هيا نخرج من هذه الزنزانة الحقيرة..أسرع قبل أن يغير السجان رأيه ويذهب عنه مفعول السمك المملح..
 الشيخ (معترضا): أنا مثل سقراط الذي رفض الهروب من سجنه..لن أخرج من هذه الزنزانة..هنا مصيري وهنا كل المآل..هنا أرتاح من أطماع الدنيا وأحقاد الناس..اخرج أيها الرحالة..حلق وحيدا مثل العُقَابِ في أديم السماء، أما أنا فالأرض هي سمائي..لا أريد التحليق في الأعالي..أريد المشي مثل الزواحف على الأرض..أريد التبشير بالسمك المملح في كل مكان..أين أنت أيها الحاكم؟ خذوني إلى الحاكم..خذوني إلى صاحب الفخامة الكالحة..

(فجأة تتدفق أعداد كبيرة من الجنود داخل الزنزانة. يقيدون الشيخ والرحالة والسجان والرجل الغريب. يجرونهم نحو الخارج)

رئيس الجند (مخاطبا جنوده): جُرُّوا الخَوَنَة..جُرُّوهُمْ نحو حتفهم المستحق..خذوهم إلى صاحب الفخامة!..
الشيخ (متغنيا): أيها السمك المملح!..يا صاحب الفخامة بدون حد..أنت الحاكم..أنت..
(يهوي عليه أحد الجنود بضربة شديدة على قفاه)
الجندي: أصمت أيها الشيخ اللعين..عن أي سمك مُمَلَّحٍ تتحدث؟..
الشيخ (متأوها): اصبري أيتها القفا..كم من الضرب يكفيكِ لكي تَلِينِي وتطأطئي الرأس الأَشَمّ؟..قَفَا الحاكم جذع شجرة عارية..عين الحاكم رمداء..وسيف الحاكم مفلول..فِيمَ الخوف أيها الرحالة؟ لِمَ الضرب أيها الجندي السخيف؟ ها أنا آتٍ إليكَ أيها الحاكم وفي جعبتي ألف سر، وفي صدري فؤاد عتيد..
الرجل الغريب (متباكيا): لعنة الله عليك أيها الشيخ..لعنة الله على السمك المملح..أنا الغريب بدون وطن..أنا السجين الموعود بالعقاب الأليم..وداعا أيتها السماء المُجَلَّلَةُ بالنجوم!..وداعا أيتها الأشجار الوَاِرفَةُ النابتة كالعرائس على جنبات الطريق!..كم كرهتكَ أيها الموت الزؤام! كم كرهتك!..وها أنا اليوم أُساقُ رغما عني إليك..سحقا لك أيها الحظ العاثر..سحقا للحاكم الذي يقتص من الناس لأنه ليس من الناس..
الشيخ (يمد قطعة سمك مملح إلى الرجل الغريب): كل أيها الرجل الغريب..كن شجاعا وابلع هذه الأعجوبة..كنتَ نذلاً معي ومع كل الناس، وها قد خسرتَ كل شيء، ربما تكون هذه القطعة من السمك المملح هي فرصتك الأخيرة للحلول في مقام المقتدرين والأولياء..
الرجل الغريب(مترددا في البداية، ثم عازما بحماس): هات السمك المملح! دعني آكل من هذا الرَّهَجِ الذي يحرر الناس من الخوف ويزيل عنهم لَوْثَةَ العقول السَّقيمة..
الشيخ: كل أيها الرجل الغريب..كل لكي تزول عنك غربتك المقيتة..
الرجل الغريب: كم هو لذيذ هذا السمك! (ثم متراقصا تحت تأثيره): غربتي يا غربتي! ها أنا أنضو عني رداءكِ القبيح..السماء حمراء كَلَوْنِ الدم..والأشجار مثقلة بالثمار مثل المفرقعات..صوت الحاكم كالنباح..قصر الحاكم قوقعة وبنيان بدون أساس..الزنزانة وطني فَلِماذا البكاء؟ الرحالة تَوَقَّفَ عن الرحيل، والأرض عانقت السماء..سفينتي رست على المرفأ البعيد..وَدَّعْتُ نفسي ولَوَّحْتُ لكل الغرباء مثلي بأغصان الزيتون والمنديل..دموعهم سالت مثل الأنهار، مَلأتْ كلَّ الوِهادِ فأبحرتُ وحيدا يا صاحبي..شراعي كان معي لكن أخذته مني الرياح..ما لون سمائك أيها الجندي المتجهم؟ إلى أين تأخذني رغما عنك وعني؟ تحدث أيها السجان..تحدث أيها الرجل الذي يحسن المدح والتمجيد..
السجان (يتمايل ونظراته شاخصة نحو السماء): كل أحاديث عمري كانت أحاديث قيود وزنزانة..خمرتي كانت دموع المساجين، ورغيفي كان غُمولَةَ المعتقلات السرية..الطريق إلى قصر الحاكم مفروش بالبهارات الشهية..سَلَّمْتُ كل المفاتيح التي كانت معي..خُنْتُ الحاكم..رأيته في المنام يبكي مثل جاريته الشقراء..كانت دموعه مثل دموع التمساح..التمساح يبكي وهو يفترس ضحيته على ضفة النهر المحجوب عنكَ وعني بالضباب والغيوم الداكنة التي ترسل الأعاصير تباعا لكن بدون مطر..صوتي مفتاح..كفي بساط ريح.. صوتي مفتاح..كفي بساط ريح..أنا سجان..كنتُ سجانا..صرت اليوم سجينا..

(يباغته أحد الجنود ويضربه. يركله في مؤخرته. ويدفعه بعنف فيسقط السجان وينبطح على الأرض. يقهقه عاليا ويرفض النهوض)
 الجندي(بأعلى صوته): انهض أيها اللئيم..انهض أيها الخائن الأكبر..
 السجان (مستمرا في الانبطاح): لن أنهض لكي أساق إلى المقصلة مثل خراف العيد..لن أنهض لكي أجثو أمام الحاكم وأبايع..
 الشيخ (ساخرا): انهض لكي تطأطئ الرأس وتلعق أحذية الأعيان والأسياد..(ثم يمسك السجان من ذراعه محاولا إجباره على النهوض): انهض يا رجل! ألا تعلم أن النهوض من النهضة؟..ألم يحدثك أبوك وجدك عن امرأة تدعى "نهضة"؟..راودوها بشتى الهدايا..أسبغوا عليها كل المكارم والنعم..قالوا فيها شعرا كثيرا وتغزلوا بمحاسنها في السر والعلن..كان الزمن ليلا..وفي الليل تتهادى الخواطر والنفوس على إيقاع الرؤى والأحلام..
 الجندي (يقترب بتطلع وفضول): أنت تحسن الحكي أيها الشيخ الهَرِم..قل..تحدث..ماذا وقع بعد ذلك؟!..

( يتحلق الجنود والسجان والرحالة والرجل الغريب حول الشيخ، ويستمعون للحكاية بفضول واهتمام)
 الشيخ (متابعا الحكي): كانت أجواء الاحتفال مفعمة بالوعود الوردية الجميلة..وكانت الموسيقى تصدح باندفاع وحماس..مازلت أتذكر ذلك العهد..ها هو الاحتفال يتراءى لي طريا شهيا كأنه عنقود عنب..ها هي "نهضة" قد تجملت وكشفت عن مكامن حسنها الباهر..ها هي ترقص وتتمايل بطراوة وبهاء..ألا ترونها؟ ألا تبصرون غُرَّتَهَا وَقَدَّهَا الْمَنْضود؟ ألا ترون قامتها الهيفاء وبهاءها الفخم العجيب؟..

(يتطلع الجميع نحو الناحية التي يشير إليها الشيخ. يمعنون النظر. يشير بعضهم بالأصابع)
 السجان (يدور حول نفسه ونظراته زائغة): أين هي هذه المرأة المتجملة؟ أين أنتِ يا "نهضة"؟ لا أرى شيئا..لا تبدو لي سوى الأشباح..أرى الكثير من خيالات الناس..أراهم مرضى..جياع..تدهسهم دبابات وتقصفهم طائرات معادية..(ينهض واقفا كالممسوس، يصيح بأعلى صوته): ها هي الرؤوس تتدحرج مثل كُراتِ التِّـنِسِ المُتَنَطِّطَة..انظروا هناك! احذروا القصف..انطفأت نار القنديل..أصابع الشيطان تداعب فَتائِلَ المدفع والزِّناد..
 الرجل الغريب (ينظر أمامه هائما، فاغرا فاه، يُهَلْوِسُ): ها هي "نهضة"..ها هي البهية النَّدِيَّةُ الفخمة الغرَّاء..ها أنا أبصرها..ليست وهما أو خيالا.. يا لها من امرأة جميلة! يا لِأِشراقة وجهها الصبوح! يا لِنعومة قدِّها المائس!..(يجري نحو الأمام، ينحني مثل الفرسان، ويقول بصوت متزن شفاف): اسمحي لي سيدتي بهذه الرقصة! امنحيني شرف مراقصتك على إيقاع هذه الموسيقى الفردوسية التي تليق بمقامكِ أيتها الملاك!..( يمد يده متخيلا أنه يراقصها): هذه رقصتي التي أَجَّلَتْها المقادير..هذا اكتمالي الذي حرموني منه فَعِشْتُ بدونه غريبا متجهما مثل حجارة الوادي أو صخور الجبل..أنتِ ملكي الآن أيتها الأميرة الفاتنة..هذه ليلة زفافنا الموعود..هذا يوم عرسنا الأغرّ..مهرك ما شئتِ من ذهب وسمك مملح..رضاك أبغي أيتها المرأة الفخمة الفاتنة!..

(يفاجئه الرحالة، يدفعه بقوة، يأخذ منه المرأة الوهمية، يحضنها بأقصى ما يستطيع. يراقصها وهو يدور على نفسه)
الرحالة (يتخيل أنه يراقصها): أنا الرحالة..أنا المسافر الذي جال الأقطار بحثا عن دفء عينيكِ الكحيلتين..عشقتكِ يا امرأة..عشقتكِ قبل أن أراك..عشقت السحر في عينيك..وعشقت التراب الذي تدوسين عليه بالأقدام..دعيني أتوسد صدرك وأغفو مثل الأطفال..تعبت من السفر والترحل..أجهدتني المشاوير الليلية الطويلة..دعيني أتوسد صدرك الغَضِّ الذي تتدلى منه الثمار الكوكبية العجيبة..(يمد يده متوهما أنه يمسك المرأة من خاصرتها، يأخذها جانبا، يُجلسها ويتوسد الحائط وهو يتوهم أنه يتوسد صدرها): آه يا خليلتي الموعودة..ذهب كل التعب..هذا رأسي يتوسد صدرك الرطيب..انتهى زمن الترحال..على شط صدرك أبني القلاع والحصون..من نافذتيْ مُقلتيكِ أُطِلُّ إطلالتي الأسطورية على العالم والناس..وفي ظلال أنوثتك الهادرة المتدفقة أَنْضُو عني أَطْمَارَ الخجل وأَسْمَالَ الحَزَن والضَّيْم.. عيناكِ مسكني ومن شَهْدِ شفتيكِ أجني لنفسي ولغيري رُضابَ العسل..
الشيخ (متضاحكا): ها قد انطلت عليكم الخدعة كما انطلت على غيركم!..
الجندي (شاهرا مسدسه، وملوحا به في الهواء): أيها الشيخ المقيت..لن تخدعني أبدا..أنا الجندي المعتد دوما بسلطة الرصاص والسلاح..هذه المرأة لا يمكن أن تكون لغيري..(ثم متوجها نحو الرحالة. يوقظه من غفوته بعنف وشراسة): ابتعد أيها الجِلْفُ القميء..هذه المرأة لي (يتوهم أنه يجرها ويأخذها في حضنه): أنت ذخيرة الجندي وفسحة المقاتل..أنت رهينة في يدي..أملكك بحد السيف وقانون الرصاص والنار..
(يطلق رصاصة في الهواء بيده اليسرى وهو يتوهم أنه يمسك المرأة بيده اليمنى. ينبطح الجميع. يسود الصمت)
 الشيخ (يتابع الحكي بصوت مأساوي): وفي ليلة الزفاف أيها السادة انكشف المخبوء وافْتُضِحَ السر..تَجَمَّلَتْ "نهضة" وتَسَرْبَلَتْ بالحرير وتَعَطَّرَتْ بِأَرِيجِ الْبَان..أَشْهَرَ العريس فحولته..تباهى بها كالطاووس..دخل الخِدْر..هلل الناس..زغردت النساء..ثم طال الترقب وعَمَّ الصمت..انتظر الناس سماع صرخة "نهضة" وهي تتلقى في أحشائها سر الخصوبة الأفخم..لكن كل ما سمعوه وَهُمْ صامتون جامدون خامدون كالأموات كان هو صوت بكاء وانتحاب..
الرحالة (مشدوها): بكاء؟! انتحاب؟!..
- الرجل الغريب (بين التصديق والتكذيب): خَسِئْتَ أيها الشيخ..كنتُ هناك..أقسم أني كنتُ هناك..رأيتُ كل ما حدث..سمعتُ كل ما قيل..ليست الحكاية كما قصصتها علينا أيها الشيخ الكذاب..
السجان (منتفضا): أنا أيضا كنتُ هناك..الشيخ صادق في كل كلمة قالها..أنت هو الكذاب أيها الرجل الغريب..دعِ الشيخ يكمل الحكاية وإلا زججت بك في غياهب الزنزانة..
الرحالة (باحتقار): ألم تقل إنك سلمت مفاتيح السجن وأطلقت سراح كل المساجين؟..
السجان (يخرج الكثير من المفاتيح من جيوبه): مفاتيح السجن ما زالت معي كعهدها منذ القدم..أنا السجان في الماضي وأنا السجان في كل زمن وحين..كُلُّكُمْ سجناء مع وقف التنفيذ..كُلُّكُمْ أبرياء حتى تثبت تهمتكم..أنا صوت الحاكم..أنا سوط العقاب..أنا إعصار العذاب..
الجندي (يشهر مسدسه، يرسل رصاصة في الهواء): التزموا الصمت وإلا أفرغت ما عندي من ذخيرة ورصاص في صدوركم وجباهكم الكريهة..(متوجها إلى الشيخ): أكمل قصتك الشيقة أيها الشيخ..حدثني عن "نهضتي" الرقيقة الغَضَّةِ البَضَّةِ التي أخذها مني المتهالكون والمتحذلقون والرِّعاع..
الشيخ (يتابع الحكي): طال الانتظار ولم يحصل شيء..لم تخرج من الخدر الصرخة التي كان يبتغيها الناس..وفجأة خرج العريس وهو ينادي بالويل والثبور..وأعلن في الناس أن أهل "نهضة" خدعوه وأنها ليست بِكرا كما يدعون..بعد ذلك بقليل خرجت "نهضة" وهي تنادي في الناس: أيها الناس..هذا العريس الذي به تفخرون ليس فحلا..وفحولته ليست غير ادعاء وكلام..ورايته راية مُنَكَّسَة..
الرحالة (مصدوما): لا أصدق..أهذا ما حصل فعلا أيها الشيخ؟!..
الجندي (متأففا): دعه يكمل الحكي..
الشيخ (يطرق برأسه ويتريث قليلا قبل أن يتابع الحكي): هاج الناس وماجوا..اجتمع الحابل بالنابل..حدثت فوضى وازدحام..انقلب الاحتفال مأتما..تَجَلَّلَ العرس بِالعار..اختفى العريس ولم يخلف أي أثر..واختفت "نهضة" دون أن يعلم أحد أين ذهبت أو مع من..وخارت العزائم..وتبخرت الآمال..وطال أمد الليل..ومنذ ذلك الحين ظهر في الناس الشيخ والرجل الغريب والرحالة والسجان..
الجندي: يا لها من حكاية! يا لها من مأساة تقض المضجع!..لكن ما علاقة كل هذه الأحداث بالسمك المملح الذي تتحدثون عنه؟..
الرحالة: هذا سؤال في غير محله..هذا سؤال سخيف..
الجندي: بل أنت هو السخيف..
الرحالة: بل أنت هو السخيف..
الشيخ : التزموا الهدوء قليلا أيها السادة! السمك المملح هو الطعام الذي نسي العريس أن يأكله قبل الدخول إلى الخِدْر..النسيان آفة..السمك المملح هو سر الفحولة..من أكل منه أصابته لعنة الخَبَل..الخِدْرُ منيع..والعريس اختفى..من ُيشهر الفحولة من جديد؟ من يخترق المدى؟ الرحالة لم يبرح مكانه..والرجل الغريب أعمى..السجان أبلاه السهر..والشيخ حَنَّ لأيام الطفولة التي سُرِقَتْ منه فَتَصَابَى..من منا يعتلي صهوة الريح؟ من منكم يخترع حكاية أخرى نُصَدِّقُها؟ أنا شيخ هَرِمٌ..قلتُ ما عندي..حدثتكم بأحاديثي العجيبة..أيها السجان ضعِ القيود في يَدَيّ..أيها الجندي أطلق الرصاص عليّ..لن أموت لأن الموت يكرهني..لن أشيخ لأن الشيخوخة محنة كبرى..أرى في الأفق ما لا تدركه أبصاركم الرمداء..أرى قَدًّا مائِسا يتهادى..وأسمع صرخةً تَشُقُّ الأسماع..تنبعث من خِدْرٍ محجوب..تتوحد فيه الفحولة الجليلة والأنوثة العَصْمَاء..العريس سيعود..سيفتض البكارة..ستسيل دماء..ستذرف العيون دموع الفرح المجيد..وسيصلي الناس صلاة الحمد في المسجد المعلوم..فَتَهَجَّوْا في كلماتي وعد الله الآتي وأبجدية البشارة..
(يسود صمت ثقيل. تتساقط قطرات المطر وتهب ريح شرقية خفيفة. يُسمع صوت المؤذن وهو ينادي للصلاة. يتقاطر الناس من كل صوب. تنتظم الصفوف وتقام الصلاة بِتَبَتُّلٍ وخشوع تحت المطر المُتَهاطِل)

المشهد الرابع

(ديوان الحكم. الحاكم يعتلي عرشه العظيم وعلى يمينه زوجته. الشيخ والسجان والرحالة والرجل الغريب يقفون أمامه مقيدين بالأصفاد)

 الحاكم (بتعاظم الملوك): من هؤلاء أيها الوزير؟..
 الشيخ (يسارع بالجواب دون أن يأخذ الإذن): نحن هَبَّةُ الريح جاءت إليكَ من مجاهل الفجِّ العميق..
 الوزير (ينهر الشيخ): اصمت أيها اللعين..انتظر حتى يُؤذَنَ لك..ألا ترى أنك في حضرة الحاكم الأعظم؟..
 الحاكم (يرفع يده مخاطبا الوزير): دعه يتكلم أيها الوزير..دعه يتكلم..قد أَذِنَّا له..
 الشيخ (متهكما): طوبى للحاكم الذي يعطي الإذن بالكلام للشيخ المُعْدِمِ والأرملة والثكلى..طوبى للوزير الذي أطاع مولاه حتى فسدت دخيلته وخالطه الرياء وأصابه العُجْب..
 الحاكم: أيها الشيخ الذي خالطه الخَرَف! تحدث حديثا يليق بمقامنا وإلا أذقناك من بأسنا ما لا طاقة لك به..
 الرحالة (حالِمًا يخاطب نفسه): زاد الرحالة هو المشي الحثيث مهما كانت وُعورَةُ الطريق..العالَم مدى مفتوح لا تستوعبه الصور ولا تحيط به الخرائط..الكرسي لا يصلح إلا للجلوس..الكرسي خامل مثل صاحبه..كرسي الحكم لا يعتليه إلى المُقْعَدُ أو الكسيح..ليس لي من زاد سوى عصارة الأسفار الضَّنْكَة..أوصاني شيخي ألا أطيل الصمت ولا الجلوس..ارتحلتُ حافيَ القدمين..دَمِيَتْ أصابع رِجْلي وتَشَقَّقَتْ كثمار التين التي نضجت حتى أصابها التَّـلَفُ وتَدَوَّدَتْ..في اليَمِّ العظيم الذي تبحر فيه السفن النورانية لا وجود لحاكم أو وزير..عن أي إذن يتحدثون؟ أنا الرحالة بدون فخر..أنا الرحالة بدون ضغينة أو ادعاء ولا أحتاج لإذن من أحد لكي أواصل الطريق أو أسلك السبيل..
 الرجل الغريب (يجثو على ركبتيه ويخاطب الحاكم): أيها الحاكم الأمجد والملك الأسعد..جئتك غريبا كما شاءت لي الأقدار..مملكتك مترامية الأطراف..مُشْرَعَةُ المداخل والأبواب مثل مومس رومية..غربتي هي رفيقتي في السفر وخليلتي حين أقيم في المَهَاجِر الباردة أو الأوطان الملسوعة بالغبن والمَعْلولَةِ بالسَّقَمِ والعار..حكيتُ سري لمن لا يكتم السر، فعافني الناس وصرتُ منبوذا أَيْنَمَا حَلَلْتُ وحَيْثُمَا أقيم..ذاك التاج الذي يتبوأ هامة رأسكَ الأصلع من صنع غربتي وأسفاري..وتلك المرأة التي تُجَانِبُكَ على العرش البالي هي عروسي التي اختطفها الأوغاد مني..أسلموها إليك بعد أن علموها كيف ترقص وتغني..كل الأمطار التي أخصبتْ أرضَكَ المجدبة كانت من مخزون دموعي..كل الرياح اللَّواقِحِ التي بَثَّتِ العنفوان والحياة في جَنَباتِ قصركَ كانت من آهات أنفاسي..لستَ حاكما إلا لأنك تقتات من غربتي وتحيا على فُتاتِ أمجادي..
 الحاكم (بابتسامة مفتعلة): مرحى لضيوف السعد وأولياء الله الشاكرين الحامدين..(متوجها إلى الوزير): أيها الوزير..يا حكيم دولتنا الفاضلة..خذ هؤلاء المساكين..أكرم مثواهم وهيأ لهم مقاما كريما في المارستان..وابعث في الشعب من ينادي أن الحاكم قد تَكَفَّلَ تَكُفَّلَ كَرَمٍ وإحسان بهؤلاء الغرباء الوافدين علينا من الفجاج القصية..
 الوزير(غير مقتنع): لكن يا مولاي!..
 الحاكم (صارخا بحدة): نفذ ما أمرناك به أيها الوزير..(ثم يشير إليه بالاقتراب، ويهمس في أذنه): لقد جلبتم إلي طائفة من المجاذيب الذين يقولون قولا عجيبا..هؤلاء أشد خطرا عليَّ من جميع المعارضين والمناوئين العُتاة..خذهم إلى المارستان..كَمِّمْ أفواههم وأَغْلقْ عليهم الأبواب بمفاتيح النحاس وأختام الكبريت..لا تترك لهم منفذا للهروب أو مخالطة الناس..رأسك في كفة وهؤلاء الحمقى في كفة..أفهمت؟..
 الوزير (مرتعد الفرائص): السمع والطاعة يا مولاي..السمع والطاعة..
 الشيخ (ينفجر من الضحك): فرائص الوزير ترتعد..والحاكم يكرم من لا حاجة به للكرم..
 الرحالة (معقبا بسخرية): الحاكم طيب والوزير سهل القياد..أما أنت أيها الشيخ فقد نسيتَ أن تُخَضِّبَ لحيتكَ بالحِنَّاء كما يفعل الذاهبون إلى الميدان..
 الشيخ (متراقصا أمام أنظار الحاكم): الحاكم طيب والوزير سهل القياد.. (ثم مقلدا صوت الحاكم) خذ هؤلاء المساكين..أكرم مثواهم وهيأ لهم مقاما كريما في المارستان..وابعث في الشعب من ينادي أن الحاكم قد تَكَفَّلَ تَكُفَّلَ كَرَمٍ وإحسان بهؤلاء الغرباء الوافدين علينا من الفجاج القصية..
 زوجة الحاكم (متضاحكة بمرح): يا لها من رقصة غريبة! هذا الشيخ يَهذي كالمحموم..دعه يرقص أيها الوزير..ها هو القصر قد أصبح مثل المارستان..(تضحك)..
 الوزير(مرتبكا): سيدتي..صاحبة الفخامة..أتقصدين أن أترك الشيخ يرقص مثل المعتوه؟! (متوجها إلى الحاكم): سيدي الحاكم، ماذا أفعل؟ من أطيع؟..أنا وزيرك المخلص الذي يأتمر بأمرك في حضورك وغيابك..من أطيع أيها الحاكم؟..
 الحاكم (يهمس في أذن الوزير): أخرجني وأخرج نفسك من هذه الورطة المحرجة..تصرف أيها الأحمق..
 الوزير(مخاطبا الشيخ): هيا ارقص أيها الشيخ..وأنت أيها الرحالة..وأنت أيها السجان..وأنت أيها الرجل الغريب..ارقصوا كلكم..نفذوا أمر صاحبة الفخامة..نفذوا مشيئتها المباركة..مشيئتها من مشيئة الحاكم العظيم..(ينظر الوزير إلى الحاكم فيجده راضيا مبتسما، فيتشجع ويزيد حماسه ويتوجه إلى رئيس الخدم): هيا اجلبوا الجوقة..لتصدح الموسيقى..اليوم عيد بأمر الحاكم والحاكمة!...
(تصدح الموسيقى. يأخذ الوزير سيف أحد الجنود ويشرع في الرقص وهو يلوح به فوق رأسه. ينضم إليه الشيخ والرحالة والسجان والرجل الغريب. جميعهم يرقصون تحت نظرات الحاكمة والحاكم)
 السجان (يتظاهر أنه يُراقص امرأة. يهذي وهو في غمرة التمايل والرقص): راقصيني أيتها الحلوة..ارتمي في أحضاني يا "نهضتي" المتغنجة الرقيقة.. أيتها المتربعة على القلب منذ ألف عام..هبيني نفسك مثل هدايا العيد القرمزية..هَبِينِي وَسائِدَ قَدِّكِ مثل حلوى الأعراس أو لَبَنَ الثـَّـرِيد..تَـلَقَّـفِينِي في أحشائك مثل النار والإعصار..لَمْلِمِي أشلاء القلب لكي يحيا حياة بدون هوان.. أيتها الهادرة بألف سر وصمت!..أَسْبِلِي عليَّ فراءك الفسيح..أَشْرِعِي نهديك للريح..فُكِّي طَلْسَمَ الأحاجي لكي يزول الصدأ عن الحديد....يا "نهضتي" الحلوة الجميلة!..أيتها الغجرية المُفْعَمَةُ بِأَلَقِ الضحى وسحر الشرق التَّـلِيد!.. تَخَثَّرِي أمام عيني جسدًا للرغبة والحلم فَغَدًا سننتهي يا سيدتي...سننتهي ونَتَلَبَّسُ مُسوحَ الأسطورة..!..
 الرجل الغريب (حالِمًا): "نهضة" ماتت أيها السجان..أَغْرَقوها في الوَحَل واختنقت أنفاسها في السراديب والدهاليز المتوارية خلف الواجهات المضيئة..الشيخ الأبله حكى لنا عن امرأة لم توجد أبدا إلا في مخيلته المَعْلولَةِ والمريضة..
 الحاكم ( ينهض واقفا وعلامات الغضب بادية على وجهه): من قال إن "نهضة" ماتت أيها التافه؟..ما هذا القول الكَـِريه؟ (مشيرا إلى زوجته الجالسة بجانبه): ألا ترى أن مولاتك "نهضة" حقيقة وليست خيالا؟ ألا ترى أنها حية ترزق وتدير معي شؤون الحكم؟..
 الوزير: (مناصرا سيده الحاكم ومستنكرا كلام الرجل الغريب): هذا إفك عظيم..هذا كلام زور..هذا بهتان..السجان خان العهد..والرجل الغريب حقود..مولاتي "نهضة" سيدةٌ مَصُون..هي الخصب في أيام القَحْط..وهي الماء الزلال في أوقات القَـيْظ..
 نهضة (تُسْرِفُ في الضحك وهي في حالة حماس وانتشاء): بُوِركْتُمْ أيها الفُحولُ الشِّداد..تَطاحَنُوا فيما بينكم مثل التُّـيوسِ أو الثيران..تصارعوا من أجلي لكي أُسْبِلَ عليكم ِردَاءَ ِرضاي..حدثوني عني..احكوا لي عن نفسي لأعرف من أنا..ولأرى صورتي في مرآتكم المُعْتِمَة..أنا "نهضة" وكلُّ ما عَدَايَ مُقْعَدٌ وكَسِيحْ..
 الرحالة: إذا كان الأمر كما تقولين يا زوجة الحاكم السعيد، فما قولك في الحاكم؟ هل هو كَسِيحٌ أم مُتَكَاسِحٌ؟ مُقْعَدٌ أم يدَّعي ذلك؟..

(يسود صمت ثقيل. تظهر علامات الحرج على وجه الحاكم. يرتبك الوزير. تنظر زوجة الحاكم إلى زوجها وعلى وجهها ابتسامة خفيفة غامضة)
الوزير (في غاية الارتباك): تبا لك أيها الرحالة الوقِح السَّلِيط..تبا لك ولكلامك الذي يخرج من فمكِ مثل الرائحة المُنَفِّرَةِ الكريهة..مولاي الحاكم ليس مُقْعَدًا..مولاي الحاكم وَهَبَ نفسه لكرسي الحكم حتى تَوَحَّدَ به فأصبح هو الكرسي والكرسي هو مولاي..الرِّعَاعُ من الشعب والأَجْلافُ من الناس يرون في ذلك نقصا وإعاقة..أما العالمون والعارفون والمطلعون على الأمور فَيَرَوْنَ في ذلك إخلاصا لطقوس الجلوس الأبدي على الكراسي التي لا تليق بغير الحُكّام الفَطَاحِلِ وأولياء الأمر العظماء..
الرحالة (حالِمًا): أنا لم أجلس أبدًا على كرسي..رحالةٌ كنتُ وما أزال..لم أَتَوَحَّدْ سوى بِوَعْثاءِ السفر وغَبْراءِ السُّبُلِ الوَعْرَةِ البعيدة...جلوسي كان على ظهر الجِمالِ أو كَلْكَلِ الْجِيادِ والأَحْصِنَة..ركبتُ ارتحالي مثل جميع الراكبين..تعبتُ من الركوب مثل كل هؤلاء الواقفين أمام الحاكم وقوف مطاولة واستهتار..(مشيرا إلى الشيخ): الشيخ ركب رُكام سنواته المديدة فأهلَكَتْهُ الشيخوخة وأَبْلَتْهُ الأيام..والرجل الغريب ركب غربته فلم يستأنس بطراوة الحبيبة والخليلة إلا في الرؤى والأحلام..جميعنا ركبنا المركب الصَّعْبَ فَتِهْنَا..جميعنا أضعنا مخزوننا من الأيام الحلوة الجميلة في البحث عن اكتمال لم يتحقق إلا بالغُصَصِ المريرة وعَلْقَمِ المكابرة..
الشيخ (بَاسِطًا يديه مثل جناحي طائر، ويدور على نفسه): وأنا بدوري لم أجلس أبدا على كرسي..ظللت أعتلي أدراج السنوات المُتَجَهِّمَةِ والضَّنْكَة..شِخْتُ قبل الأوان أيها الحاكم..شِخْتُ قبل الأوان..مشيت على الأقدام وحَبَوْتُ مثل الأطفال وزحفت مثل الأفاعي والديدان..فعلت كل ذلك أيها الحاكم لكن لم أُصادف أبدًا كرسيا جاهزًا مثل كرسيكَ المُرَصَّعَ بالفَيْرُوِز والماسِّ والأحجار الكريمة والصَّوْلَجَان..ظللتُ ناهضا رغما عني في كل وقت وحين..رأيتُ الجالسين على الكراسي..رأيتهم من وراء حجاب..كانوا يغطون في نوم عميق..وكان شخيرهم يملأ الأسماع بالطنين والصديد..الطنين والصديد..أَتتصور ذلك أيها الحاكم!..
(ينهض الحاكم بصعوبة من فوق الكرسي وهو يتكئ على عكاز غليظ. يكاد يسقط فتتلقفه أيدي الوزير)
الحاكم(ينادي في الناس): أيها الناس! لا تسمعوا قول هؤلاء الغرباء..هذا يوم المكاشفة..فاسمعوا مني وافقهوا قولي..أيها الناس! لا يُضيرني أن أكون مُقْعَدًا وأتربع على كرسي الحكم..السلطة والنفوذ..بهما يستقيم عودي فأشعر أني فوق كل الناس..(مشيرا إلى زوجته نهضة): هذه "نهضة" التي شغلتِ الناس وهربتْ منهم في ليلة عرسها المشهودة..أتتني وهي مُسْدَلَة الشعر، مُخَضَّبَة الجبين بالحِنَّاء..كانت دموعها تسبقها وشهقاتها تُسمع من بعيد..سَتَرْتُ عَوْرَتَها وأَشْهَدْتُها على أن أكون لها نِعْمَ الزوج إن هي قبلتْ إعاقتي..
نهضة (تقاطع الحاكم): قبلتُ إِعاقَتَهُ وأَشْهَدْتُهُ على أن أُنْهِضَهُ لكي يقف، وأَحُثَّهُ على السير لكي يمشي..
الحاكم (يقاطعها بدوره): لكنني لم أشغل نفسي بالنهوض وتَعَلُّمِ المشي..لا حاجة لي بذلك ما دام الكرسي يحملني والخدم الأوفياء يحملون الكرسي وأنا رَابِضٌ فوقه مثل الأسد، ويمشون بي وينقلونني حيثما شئت..حتى "نهضة" تعلَّمتْ معي أن النهوض لا طائل منه حين تكون الكراسي فخمة ومريحة وأبدية..ها هي "نهضة" أمامكم..اِسألوها..اِسألوها وستخبركم...
نهضة (تنهض بصعوبة): أُخْبِرُهُمْ؟…!أُخبرهم بماذا؟! ...
الحاكم (بغيظ): أخبريهم بالحقيقة..هيا يا "نهضة" أخبريهم أنكِ اقتنعتِ أن الجلوس إلى جانبي على كرسي الحكم أفضل من النهوض والمشي..الحركة متعبة..والسلامة لا تكون إلا في التكوم والارتكان والجلوس على الكراسي المخملية..أليس كذلك يا "نهضة"؟..
نهضة (تبتسم بغموض، وتحادث نفسها بهمس): الكراسي المخملية؟!..الحقيقة؟!..لا أدري..الجلوس الطويل على الكرسي أتعبني..أشعة الشمس احتجبت عني والفرح لم يعد يغشاني..وددت لو كنتُ مثل الرحالة أزرع بذرة ارتحالي على كل رصيف وفي كل سبيل..وددت لو تراقصتْ بِي قَدَمايَ المتجمدتان من كثرة الجلوس مثلما تتراقص أقدام الشيخ الواهنتين..وددت..
الحاكم: بماذا تحدثين نفسك يا "نهضتي" الحلوة؟...
نهضة (متلعثمة): لا..لا شيء أيها الحاكم..لا تشغل بالك..(ثم بعد صمت قصير): كنت أود أن أطلب منك طلبا صغيرا أيها الحاكم..
الحاكم (بدون تردد): اطلبي ما شئت أيتها الزوجة الودودة!..
نهضة: أطلب منك أن تدعني أراقص الشيخ عساني أستعيد بعضا من نبض الحركة التي كانت تسري في عروقي قبل أن يأخذها مني طول الجلوس على الكرسي..
الشيخ (يقفز واقفا ويصيح بأعلى صوته): الله أكبر..الله أكبر..
الرحالة (مُحْتَجًّا): بل أنا الذي سأراقص سيدتي "نهضة"..لن يراقصها أحد غيري..
الحاكم (بغضب): أيها المعتوهون الأوغاد..لن تَحْظَوْا أبدًا بمراقصة سيدتكم "نهضة"..لن تنالوا ذلك حتى في أحلامكم البائسة..أنا الحاكم المُقْعَد وستظل زوجتي "نهضة" مُقْعَدَةً مثلي لكي أَلِيقَ بها وتَـلِيقَ بي..
نهضة (باحتجاج مكتوم): و..ولكن يا زوجي العزيز..أليس من حقي أن أَلِيقَ بنفسي فأكون مُتَوَثِّبَةً مثل الغزال النَّافر أو الجواد الأصيل الجَمُوح؟..ألا تود أن تراني أَتَنَطَّطُ أمام عينيك وأبعث الحركة في هذا القصر الخامل؟..
الحاكم (باستعطاف): زوجتي الحبيبة..يا شريكتي في الحكم ورفيقتي في سراديب الليالي والأيام!..أَلَمْ يُعَلِّمْكِ طول الجلوس على الكرسي أن سعادة الحاكم ليست في الحركة بل في السكون؟..الرقصُ فِسْقٌ والحركة بدعة وفجور..أما الجلوس المستكين على الكرسي الفخم العتيد فهو رأس الحكمة وذروة التجلي والاستبصار..
الوزير: هذا هو القول الفصل..هذا هو كلام العقل..النصر ثم النصر لسيدي الحاكم..وسُحْقـًا للخَوَنَةِ والمعاندين والمكابرين السَّفَلَةِ الأوغاد..
الشيخ (باسطا يديه مثل جناحي الطائر ومتراقصا بانتشاء): ها أنا أُحَلِّقُ في الأعالي..أرى العالم صغيرًا والناس تَدِبُّ دَبِيبَ النَّمِلِ تحت سوط الجلاد..اِنزلي إلى الميدان أيتها اللمسة السحرية..راقصيني على مرأى من العيون المشدوهة والهامات الذليلة..دعينا نستشرف حركة المَدِّ الآتية..نركب الموجة تلو الموجة وننهض من سقطتنا كما ينهض الجواد الأصيل من كبوته العابرة..هيا أيتها المرأة البَهِيَّة..خُذِي من شيخوختي ما تستعيدين به شبابكِ الذي ذَوَى من كثرة الجلوس فوق العروش الخاوية..انهضي يا نهضة..تَجَلَّيْ ببهائكِ الصقيل لكي يشع نورك كالشمس أو كالبدر ساعة الاكتمال الأوفى..تعالي أيتها اللحظة الاحتفالية..تعالي أيتها الفَوْرَةُ القدسية...

(تمتد أيادي الشيخ والرحالة والرجل الغريب نحو "نهضة". ينادونها لكي تنضم إلى رقصتهم الجماعية. تتعالى موسيقى هادئة. تتساقط قطرات من المطر الخفيف. تسطع أضواء كاشفة. وتتهادى "نهضة" وهي تنزل من فوق الكرسي العالي وتمد يها نحو الأيادي الممدودة إليها، وتنخرط مع الراقصين في رقصة حالمة)
الشيخ (يسارع نحو "نهضة"): سيدتي..أيتها النسمة العليلة..أيتها الدَّفْـقَـةُ الرَّبَّانية..هكذا رأيتكِ في الحلم..كنتِ ترقصين بقدمين حافيتين وبِشَعْرٍ مُسْدَلٍ على الكتفين مثل شلاَّل..كان بساط الحرير الأحمر يَخْضَرُّ وَيـيْـنَـعُ تحت وقع خطوكِ الدافئ..وكانت نظراتكِ النورانية تَسْطَعُ بألف وَعْدٍ جميل..راقصتِ القريب والبعيد..راقصتِ الغني والفقير..وسمحتِ لي أن أُقَبِّلَ قدميكِ المُخَضَّبَـتَيْنِ بِحِنَّاءِ العيد وكَافُورِ الشّام..
الحاكم (يحاول النهوض فيسقط على الأرض وهو يصيح): "نهضة"..يا "نهضتي" الحلوة..عودي إلى الكرسي..عودي إلى سكينتكِ التي تُطَمْئِنُنِي..عودي إليَّ يا "نهضة"، فأنا الجالس دومًا جُلوسَ ثبات..وأنا الرَّابِضُ دومًا فوق الهاماتِ الوَطِيئَةِ والرِّقابِ السَّقِيمَة..أنا الكرسي..أنا الكرسي..أعيدوه إلي وأعيدوني إليه..وطأطئوا الرؤوس كما كنتم دوما تفعلون..مَجِّدُونِي لكي أشعر أني الزعيم الذي تقدسون..أنا الكرسي والكرسي أنا..أنا الكرسي والكرسي أنا...لا..لا..لا تدوسوني بالأقدام..
(تستمر رقصات الشيخ والرحالة والرجل الغريب وهم يحيطون بـ"نهضة". ينضم إليهم الوزير والسجان. يدوسون بأقدامهم على الحاكم وهو ملقى على الأرض. يُخرج الشيخ قطع السمك المملح من الكيس ويرميها في السماء. تتخاطف عليها الأيدي وتتلقفها الأفواه. تنضم الجموع إلى الرقصة الجماعية. يفتح السجان كل النوافذ والأبواب فتحلق الطيور. يعلو صوت المؤذن وهو ينادي للصلاة. تشرق الشمس، تَخْضَرُّ الأرض، تُبَرْعِمُ الأغصان..ويسدل الستار).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى