الخميس ٢٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧
بقلم فرج الغضاب

نظرة في الفنّ الكازاخستانيّ المعاصر

ليلى أحمد عثمان فنّانة كزاخستانيّة ولدت في 1 نوفمبر 1973 بمدينة ألماتي العاصمة الكزاخستانيّة السّابقة. حيث تابعت تعليمها الابتدائي. ثمّ الثّانويّ بالمعهد الجمهوريّ للفنون الّذي تخرّجت منه بملاحظة مشرّف سنة 1992 . ثمّ تابعت دراساتها الفنيّة بأكاديميّة الفنون بجمهوريّة كزاخستان المسمّاة حاليّا " ت. أ . زورغينوف" لتتخرّج منها سنة 1998 بملاحظة مشرّف، إثر حصولها على شهادة أحسن عمل فنّيّ. وهي عضو في جمعيّة الشّباب التّابعة لاتّحاد الرّسّامين الكزاخستانيّ منذ سنة 1999. انتدبت للتّدريس بجامعة زورغينوف وعملت بها مدّة خمس سنوات 2003/1998 . وهي حاليّا تدرّس بسياتل بالولايات المتّحدة. ولقد شاركت بأعمالها في مختلف المعارض المحلّيّة والمنظّمة بدول اتّحاد الجمهوريات الرّوسيّة أو الدّوليّة. ولقيت أعمالها نجاحا كبيرا خاصّة في معرض ألماتي و أستانا العاصمة الحاليّة لجمهوريّة كزاخستان وفي موسكو وباريس.

تحصّلت سنة 2000 على الدّرجة الأولى بمشاركتها في المهرجان الدّوليّ للشّباب المبدع"شابيت-2000" وعيّنت سنة 2001 سفيرة المهرجان الدّوليّ للشّباب " زيغر-2001 ". وهي بصدد الإعداد حاليّا لمعرض جديد من المقرّر أن يجول العالم تكون انطلاقته في سنة 2005 من كزاخستان ليحطّ رحاله بأغلب العواصم، ومن بينها موسكو، باريس، طوكيو...

1- رؤية أولى:

إنّ المتأمّل في خطاب ليلى التّشكيليّ، ليندهش لعمق التّجربة الفنّيّة دقّة صناعة وإيحاء ومعالجة لقضايا الإنسان الإنسانيّة المعاصرة. إذ تسعى الفنّانة وهي تخلّد لحظات-برقصة أناملها الرّشيقة على أوتار المسدى عازفة ألحانا ساحرة- من هذا العالم الجميل، هذا العالم المعقّد، إلى مزج عوالم مختلفة بأزمان مختلفة بعضها معاصر وحديث وبعضها ضارب في القدم يعود في ارتحال أبديّ إلى لحظات البدايات، فيمتزج المحدث بالأسطوريّ ويتفاعلان فتخرج اللّوحة النّسيج من مسداها آية في الجمال محمّلة بأغلب قضايا الإنسان المعاصر، تعالجها من وجهة نظر الفنّان الملهم الّذي يؤرّقه الواقع وأحداثه فيسلّط عليه الفكر وينطق بما عجزت عنه اللّغة.

فالمنسوجات الفنّيّة محطّ النّظر ما هي في جوهرها إلاّ ألقا للفنّان وإرادة كشف وتجلّ للأسطورة في رحلة بحث دائب عن اللّغة المفقودة، لغة الذّات تنطق من وراء اللّسان إذ عنها يعجز فتتبدّى في نظام علاميّ أشمل يحدّث بالعالم الآخر فيهتك الحجب ويؤصّل ثمّ يؤسّس لما يجب أن يكون. ولا غرو في ذلك بما أنّ الفنّانة المبدعة وهي النّاطقة ببعض لغات العالم كالرّوسيّة والألمانيّة والانقليزيّة تعجز عن الكلام بلغتها الأمّ، اللّغة الكزاخستانيّة لسانا، فتوسّلت بفنّها أن تُنطق الذّاكرة لغتها الأصل تأكيدا للوجود الواعي. فيحضر بذلك الرّمز ويكون الخطاب غير ما أُريد له أن يكون، فائضا عن كلّ حدّ. فاعلا وإن كره الآخرون.

فالمنسوجات، إذن، تطرح هذا العالم في قالب سؤال ملحاح، يبرز كلّ ما يخالج الإنسان المعاصر من معضلات وجوديّة أرهقت الفكر أيّما إرهاق ولم تزل في قراءة شرقيّة صرف تسعى لإعادة الاعتبار وفرض نفسها حلاّ وقع التّغاضي عنه دهرا، بل أريد له أن يقبر من قبل. والقصد من ذلك السّعي إلى تأمّل واقعنا الشّرقيّ، المتردّي، الواهن، المهدّد... وسبر أغواره كشفا بالبحث والتّنقيب عن الحلول الملائمة الممكّنة من تجاوز المآزق المحيطة بنا من كلّ صوب – المتجلّية تحت أسماء زئبقيّة متنوّعة، تتشكّل في مظاهر شتّى أحدثها العولمة وأساطيلها المتربّصة بنا من كلّ المنافذ- استشرافا لمستقبل نريده أن يكون أفضل، أن يكون أكثر إنسانيّة، وإن كره البعض.

فالأعمال الفنيّة، ولئن اختلفت في ظاهرها بما هي كائنات منفصلة، مستقلّ بعضها عن بعض ماديّا، فإنّها في جوهرها تكوّن رؤية متماسكة لهذا الكون من حيث وحدة الموضوع ووحدة الفنّان الخالق المبدع الّذي أنتجها.

إذن هي اللّغة المشهديّة تُعمل الفكر وتجلي الذّاكرة من أدرانها عساها تبلغ بعض الوضوح أو تستقرّ على قرار متين منه يكون جديد البناء والتّأسيس.

2- مشهد عابر: لعبة الشّكل والتّكوّن :

تتوخّى الفنّانة ليلى شايمردينوفا أبسط الخطوط لتحديد عالم الأشكال في منسوجاتها، كما تتوسّل بأبسط الألوان إيحاء. ونظرة سريعة عابرة للمنسوجات تمكّن من تصنيف أوّليّ لطبيعة الشّكل واللّون، يمكن من خلالها ملامسة الوحدة الموضوعيّة الرّابطة بين كلّ الأعمال الفنيّة المقدّمة. ويمكن تلخيصها فيما يأتي:

*الشّكـــــل: تحيل "الموتيفات" المستخدمة إلى عوالم كثيرة يمكن حدّها في نظرة شموليّة تبسيطيّة. وهي تتوزّع على الأيقونات الدّلاليّة التّالية:

الأيقونة الموتيف قوالب التّشكيل الخصائص الدّلالة

كائن إنسانيّ

 الوجه

 الهيكل العامّ

 رسوم بدائيّة

- غير واضح الملامح/ تركيب سرياليّ.

 موتيفات مستقاة من رسوم الكهوف البدائيّة. المزاوجة بين المحدث والتّاريخيّ.كشف لانسحاق الذّات الإنسانيّة المعاصرة. وإيحاء بالعود الأبديّ حنينا لعصور طفولة الإنسانيّة.

كائن حيوانيّ

• طيور

• ثدييات

• زواحف

• كائنات خرافيّة

• حشرات

 عالم الكائن الحيوانيّ في تنوّعه.

 كائنات لها في الذّاكرة الإنسانيّة رجع و صدى.

 كائنات خرافيّة. الكائن الأسطوريّ بما هو حديث عن لحظة التّشكّل الأولى قبل الخلق )قصّة الخلق (
الكائن الأسطوريّ بما هو تصوّر للمنشود. العالم الآخر، العالم العلويّ، عالم ما بعد حدث الموت.

كائن نباتيّ

• أشجار

• حشائش

 عالم الطّبيعة لحظة التّشكّل الأولى.

 عالم الطّبيعة المنشودة. (رياض الجنان ) . الطّبيعة كما تبدو من خلال المنسوجات ، طبيعة من المخيال البشريّ نهاياتها استشراف لعالم منشود وأقاصيها العود إلى العالم المفقود.

الجماد

• حجارة

• عمارات - عالم الحقيقة الموضوعيّة.

 البعد الحضاريّ على مدى تاريخ الإنسانيّة.

 التّكوين والتّشكيل الثّقافيّ.

 عمل الإنسان في الكون. يوحي الجماد في المنسوجات بعالم الإنسان عبر تاريخه بما هو إنتاج ثقافيّ محوّر للطّبيعة فاعل فيها عبر الزّمن.

بيّن الجدول السّابق البعض من الكائنات الرّمز المؤسّسة للمعنى في إطار النّسيج التّشكيليّ. وهي كلّها حاملة للمعنى، راشحة به، إذا ما تعاضدت قدّمت رؤية مخصوصة للكون، وارتقت لمستوى الخطاب. وعليه تكون ضرورة القول في ما وراء الشّكل من مقاصد وإحالات.

فالأشكال جميعها، ليست تعيينيّة مرجعيّة بسيطة، بقدر ما هي حبلى بما وراء الدّلالة المباشرة. وإجمالا يمكن إقرار الملاحظات التّالية:

 تحيل الأيقونات التّشكيليّة في المنسوجات إلى سيرة الفكر المنشئ علاوة على أبعادها التّزويقيّة الفنّيّة.

 فكر الفنّان المنشئ الآنيّ يتميّز بتمكّنه من تمثّل أبعاد زمانيّة ثلاث:

• زمن ما قبل الخلق: لحظات التّشكّل الأولى.( الطّبيعة الأولى المتصوّرة )
• الزّمن التّاريخيّ (سيرة الخلق ): تاريخ الإنسانيّة (البعد الثّقافيّ ) منصهر في لحظة الآن.
• زمن ما بعد الموت: الطّبيعة الثّانية ، المنشودة. (البعد الثّقافيّ المنفلت من لحظة الآن ).

  الشّكل التّكوينيّ في المنسوجات، شكل قاصد اختير اختيارا، ينبع من الإرث العلاميّ الأسطوريّ المنغوليّ، بما هو ظرف للّغة الأمّ للفنّانة ليلى شايمردينوفا. إذ إنّها وإن كانت قد أُنسيت لغتها (فهي غير ناطقة باللّغة القوميّة الكزاخستانيّة) لظروف سياسيّة معلومة: مسألة سياسة الاتّحاد السّوفييتيّ السّابق تجاه اللّغات القوميّة لدول القوقاز وقزوين. فإنّ اللّغة تمكّنت من إيجاد وسيلة أخرى للتّعبير تجاوزت المنطوق وفاضت عليه.

*اللّـــــون: إنّ ما يميّز الألوان المنتقاة أنّها طبيعيّة في مجملها، تحيل إلى العناصر التّكوينيّة الأولى. فلكأنّها المادّة السديم في طور التّشكّل تريد أن تكون نارا أو ماء أو ترابا أو هواء... فالألوان المستعملة تغلب عليها الألوان الأوّليّة أو ما كان منها قريبا في خاصّياته الفيزيائيّة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ اللّون له دلالته السّيميائيّة الّتي تختلف من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى غيره. وهذا يستدعي طرح السّؤال التّالي: ما الّذي دعا الرّسّامة إلى تأسيس منسوجاتها الفنّيّة على تلك الألوان الأوّليّة؟ أمن خلال ذلك الاختيار قَصْدٌ، أم هو مجرّد مصادفة ومحض اعتباطيّة؟... ثمّ ما السّرّ من وراء هذا التّشكيل اللّونيّ البسيط...؟

إجمالا يبدو أنّ اللّون قد اختير اختيارا قاصدا، دقيقا بعد دراسة وتأمّل من فنّانة خبيرة بفنّها واعية بهموم واقعها... وما ذلك إلاّ قصد تبليغ فكرة مدروسة مسبقا، أرّقتها كثيرا...فهذه الألوان الأوّليّة ترجع إلى مقولة الهيولى، إلى العناصر الأصليّة الّتي منها اشتقّ الكون فنشأ في كلّ الفلسفات والأساطير الإنسانيّة القديمة... إنّها المادّة الأولى لهذا الكون إذن، يعاد تشكيلها فينبثق منها عالم جديد هو عالم الفنّانة وفكرها. وإذ تتولّد عن هذه الألوان البسيطة ألوان ثانويّة تعضدها، ففي ذلك إنباء بولادة جديدة... وما الفكر إن لم يحمل في طيّاته عالما جديدا، وليدا، منشودا...

عوالم المنسوجات إذن، من خلال تشكيلها اللّونيّ، هي عالم سديميّ في طور التّفاعل، في طور النّشوء، يبشّر بولادة جديدة، فخلقٍ جديد. وبساطة اللّون فيه مطيّة يتوسّل بها الخطاب بلوغ بعده الكونيّ المشترك المتجاوز للحدود الإقليميّة الضّيّقة. وقد تكون في هذه العوالم إجابات فكر الفنّانة وذائقتها الحسّاسة عن هموم هذا العصر: عصر الانهيارات في كلّ المجالات، ولعلّ أخطرها الانهيار القيميّ وضبابيّة المفاهيم... وقد تكون فيها دعوة إلى إعادة البناء من أوّل، وذلك بمساءلة الأصل والمنشأ.

3-رمز ودلالة: لعبة الكشف والتّجلّي:

لا يمكن بعد هذه النّظرة السّريعة في الشّكل واللّون أن يقع إهمال الحديث في الرّمز، ومعابثة الأصل بالكشف والإجلاء. وإذْ وقعت الإشارة سابقا إلى اللّغة الأمّ، والمرجع الأسطوريّ الّذي تصدر عنه هذه اللّغة المشهديّة المحمّلة قصدا الرّاشحة معنى، فقد وجب القول في أسطورة الخلق المنغوليّة. ثمّ الحديث في دلالات بعض الأيقونات المرجعيّة.

* أسطورة الخلق المنغوليّة:

تقول الأسطورة: "إنّ نسر الجبل الأزرق القاتم قد اختطف الشّمس والقمر وطار بهما بين مخالبه. ومن لحظتها نشأ العالم ونشأت الحياة."

ومن تلك اللّحظة أيضا اتّخَذ الطّير في الذّاكرة المنغوليّة بعدا قدسيّا، واتّخِذ رمزا للأمّة، بل إنّه اليوم رمز للقوميّة الكزاخستانيّة. ولعلّ نظرة للعلم الكزاخستانيّ الرّسميّ تعبّر عن ذلك. وعليه فليس من الغرابة في شيء أن تستلهم الرّسّامة ليلى أحمد عثمان تراثها، بل أن توظّف المقولات الأسطوريّة من خلال أيقوناتها في أعمالها الفنّيّة سعيا لرصد أطراف الهمّ الحضاريّ، وابتغاء لتسريب الفكر على غير لغة.

وممّا لا شكّ فيه أنّ الرّموز الاجتماعيّة المتوارثة في تلك المنطقة من العالم تصدر كلّها عن تلك الرّؤية البدئيّة المبسّطة للعالم المحدّثة عنه بلغة استقرّت في الذّاكرة وما انفكّت تتجلّى في مشهديات مضبوطة ذات دلالة. ولتبيّن ذلك يكون من الضّروريّ تبيين بعض دلالات الأيقونات الأسطوريّة الموظّفة في المنسوجات.

* دلالة الأيقونات:

في هذه المرحلة لن نجري القول في كلّ الأشكال الرّمزيّة المستعملة في المنسوجات، بل سيقع الاكتفاء بالبعض منها في عرض بسيط مختصر تُذكر فيه أهمّ المفاهيم الأسطوريّة المنغوليّة كما استقرّت في ذاكرة الفكر الشّرقيّ فوجّهت الذّائقة:

الشّكل الرّمز البعد الدّلاليّ

الأفعى رمز للخلود والصّراع الأزليّ في الذّاكرة الجمعيّة المنغوليّة، تشترك فيه مع مختلف الحضارات الإنسانيّة.

المنحنيات والدّوائر « سبيرال » علامة أسطوريّة منغوليّة تحيل إلى نوع من النّظام التّداوليّ من خلاله يمكن للإنسان السّيطرة على قوى القمر.

الأفعى والدّوائر معا علامة ثنائيّة ترمز إلى حالات القمر الّذي يمثّل بدوره معنى الحياة وجوهر نظامها ( حياة الزّمن والعود الأبديّ )

السّلحفاة رمز أسطوريّ يحيل في المخيال المنغوليّ على: الشّمال والشّتاء والماء واللّون الأسود. وهي عنصر فاعل في عمليّة خلق الكون حسب الأسطورة.

الوجه البشريّ ضبابيّ السّمات رمز يحيل إلى الإنسان الأوّل ( العنصر المغوليّ التّركيّ تحديدا )
الطّير:

  النّسر

  طائر الفينيق

  الحشرات رموز أسطوريّة تحيل إلى:

  النّسر يرمز للخلود فهو الخالق الأوّل للكون، واهب الحياة.

  طائر الفينيق يرمز للخلود في الحياة والتّجدّد.

  الحشرات ترمز للحياة بإطلاق.

النّبات الشّجر رمز يحيل إلى: الكون والحياة النّضرة والخلود. كما يحيل على الخصب والعالم المنشود.
الأغصان رمز يحيل على التّماسك القرابيّ للكون.

الماء رمز يحيل إلى مفهوم التّوافق والتّناغم والسّعادة بإطلاق.

النّار رمز لحالة التّشكّل الأولى ، حالة السّديم. أي عمليّة الخلق ذاتها.

الماء والنّار معا رمز مركّب يحيل على مفاهيم الخلق والخصب. وهما في المخيال المغوليّ يمثّلان قالبا لقوى سحريّة ومنبعا للحكمة الّتي تمكّن من التّكهّن بالمستقبل.

تبيّن من خلال الجدول السّابق أنّ المنسوجات بالخصائص الدّلاليّة للأيقونات الّتي تحملها ضاربة في عمق التّجربة الإنسانيّة، وصادرة عن وعي بما تختزنه الذّاكرة، ذاكرة الفنّان المبدع. وعليه فإنّ توظيف تلك المعطيات في عمليّة الإبداع الفنّيّ يتخطّى مجرّد التّجربة الجماليّة الذّوقيّة، ويكون قاصدا الفكرَ الجمعيَّ للتّأثير فيه وتحديد مسيره. وذاك هو الإبداع الجوهر، بما هو ليس خلقا من عدم، وإنّما هو إفراغ لعلامات الموروث من دلالاتها التّعيينيّة المرجعيّة كما ترسّخت في الذّاكرة الجمعيّة واستقرّت بها في علاقة مباشرة، ثمّ إعادة شحنها بمفاهيم جديدة، وليدة. أي إنّ ما يصطلح على تسميته بالإبداع الفنّيّ لا يمكن أن يستقيم إلاّ بقطع العلاقة بين الدّال والمدلول كما ترسّخا في التّجربة القديمة الموروثة، وإدخال مدلول جديد سمته الضّبابيّة وعدم الوضوح غالبا. وهي سمة تجعل العلامة الدّالّ منتجة لمداليل عديدة بإطلاق، تختلف وتتنوّع حسب تجربة المتقبّل. وهو ما يمكن تلخيصه في التّرسيمة التّالية:

والملاحظ أنّ في المنسوجات مصداق لهذه المقولة اللّسانيّة. إذْ ولئن توسّلت الفنّانة الأيقونات الأسطوريّة مطيّة لغويّة خيارا فرديّا. فإنّها في نفس اللّحظة لم تقتل تلك الرّموز بحدّها بما استقرّ من دلالاتها في التّجربة الجمعيّة [ البعد الحِرَفيّ ]، وإنّما عملت على إكسابها مفاهيم جديدة معاصرة تشتغل في حقل الهموم الحضاريّة اليوميّة. وعليه عالجت المنسوجات عوالم مختلفة وقعت الإشارة إليها سابقا. ويحسن الآن التّوقّف عندها لتمحيص دلالاتها وسبر أغوار الفكر فيها وتجلّياته.

تقسّم المنسوجات إلى أنماط مشهديّة مختلفة يمكن حصرها فيما يلي:

* مشهديّات الخلق [ المنسوجات من رقم:1 إلى رقم: 19 ] تبرز التّوافق الكونيّ.

* مشهديّات العالم الآخر، العالم المنشود [المنسوجات من رقم: 20 إلى رقم:38 ] تبرز التّوافق الكونيّ.

* مشهديّات العالم اليوميّ، العالم الثّقافيّ التاريخيّ [المنسوجات من رقم:39 إلى رقم:44] تبرز الاختلال الكونيّ.

وما يقال في هذه العناصر المشهديّة أنّها تحمل من الكون موقفا هو التّالي: ابتدئ الكون عند الخلق في حالة توافق وانسجام بين كلّ مكوّناته، ثمّ بظهور الإنسان، وابتداء التّاريخ الإنسانيّ اختلّ التّوازن فأصبح الكون نثارا لا نظام فيه ولا انسجاما توافقيّا. ومنها نشأ الفكر وسعى في البحث عن إعادة ترتيب البيت تمثّلا ذهنيّا لمقوّمات التّوافق وأسسه بين عناصر الكون. واتّخذ في ذلك مسيرا ذا وجهين: أوّلهما استرجاع المفقود. وثانيهما استشراف المنشود. والوجهان كلاهما يحيل على عوالم مثاليّة متعالية تجسّمها مشهديّات الجنّة الضّائعة المطلوبة على اختلاف طرق تمثّلها منهجا ورؤية.

وبإدراج هذه الرّؤية في المقام التّواصليّ المفترض، يتّضح أنّ المشهديّات كلّها إن هي إلاّ رسالة تحمل جملة من رؤى وأفكار مُنشِئها قرّ له قرارها بعد بحث وتمحيص وأرق فكريّ آنيّ، فأخرجها للآخر أيّا كان هذا الآخر المؤوّل ليعي خطابها عن طريق تدبّره بما توفّر له من خبرة تأويليّة في سيرة تجربته الذّاتية المفردة أو الجمع.

وعليه فإنّ المنسوجات ما هي إلاّ مواقف من الكون والحياة، تحكي أساطير البدء وأوجاع الرّاهن وممكن المستقبل، فدعوة هي إلى نسق بعينه أفردت له منسوجة بعينها استلهمت فيه الفنّانة النّاسجة مقوّمات الفلسفة التّاوية ورأت فيها الحلّ الأقوم لاسترجاع سمة التّوافق الكونيّ المفقود.

إنّها ثنائيّة اليانغ واليينغ المتحكّمة في بناء توازن الكون الّذي يمكّن الكائن الإنسانيّ من بلوغ أقاصي السّعادة المطلقة بأن يتناغم مع ذاته من جهة ومع الكون من جهة ثانية، في سيرورة غير متناهية وصيرورة محدودة يحكمها مبدأ التّناسخ الآبد. أو هي اللّحظة الحاضرة المفترضة تختصر الزّمن، بل تحتويه فتفيض عليه. ولعلّ أيقونة طير الفينيق أبلغ تعبيرا عن ذلك في المخيال العامّ.

4 – رؤية الخروج:

إذن، بعد هذا العرض الموجز يمكن استخلاص أنّ المنسوجات تعالج قضيّة هامّة بل معضلة ما انفكّ الإنسان يواجهها، وهي مسألة الإنسان والمعرفة والكون... هذا الثّالوث المؤرّق الباحث دوما عن الانعتاق، عن توازن ينشئه لتحقيق خلق جديد.

وعليه فإنّ المنسوجات الفنّيّة على بساطتها في ظاهر الشّكل واللّون، إذا ما تؤمّلت ودقّق النّظر فيها، باحت بدرر كنوز جوهر الفكر الشّرقيّ الموغل في البعد الإنسانيّ، وألمحت إلى دقّة هذه الفنّانة المتمرّسة بصنعتها في معالجة ما يطرح على الذّات الإنسانيّة اليوم من قضايا شائكة، تطرحها في أسلوب بديع، بسيط، محمّل بالمعاني خلاّق، يستلهم أسطورة الخلق في شكلها الإنسانيّ الّذي ينأى عن التّقوقع على الذّات الفرد ومخزونها الحضاريّ مترامي الخبرات، ويسعى إلى بلوغ الشّموليّة والعالميّة. فما الرّسالة الّتي تحملها المنسوجات عند النّظر إلاّ رسالة كونيّة تنطق بكلّ اللّغات وإن صمتت، وتحمل أفكار كلّ الحضارات، وإن بسّطت من حيث التّقنية والإخراج التّشكيليّ الفنّيّ.

والنّظرة الشّاملة للأعمال في كلّيتها تبيّن أنّ تقنية المزج بين حدود العوالم، منجزها وممكنها، في المنسوجات أضفت عالما غرائبيّا عليها يلحقها بعالم الحلم والمخيال الأخّاذ...

فهذه الضّبابيّة المنتشرة عبر كامل مدلولات الدّوالّ تكسب العمل وحدة قوامها التّمازج والتّداخل وعدم الفصل بين الحدود، وتكسبها قدرة على الإيحاء الدّلاليّ المحمّل بشتّى أنساق الفكر الإنسانيّ عند ممارسة التّأويل من ناحية. وتكسبها أشكال الرّموز المرسومة سمة اللّغة البكر المعبّرة عن خلجات الذّات الباثّة من ناحية ثانية.

وفي الحقيقة تحتاج كلّ منسوجة من هذه المنسوجات إلى تحليل عميق، رصين حتّى تبدي مكنونها، إذ إنّ المقاربة العامّة تبقى دائما محدودة النّتائج، تقديميّة لا غير.

وإجمالا، فما هذه المنسوجات إذن، إلاّ لغة بصريّة تحمل رسالة مشفّرة من باثّ ما تحدّد جسدا وكيانا في شخص الرّسّامة النّاسجة الكائن التّاريخيّ إذ يفكّر فيحاول أسر اللّحظة الجماليّة لتخليدها، باقتطاعه لبعض ومضات الزّمن الحاضر الزّئبقيّ المنفلت بطبعه... هذه الرّسالة المشفّرة قاصدة الكيان الآخر، المغاير، المتعدّد، المختلف، للتّأثير والتّحفيز أو لمجرّد المتعة الجماليّة.

فما الّذي يخفيه هذا الأثر الفنّيّ الصّامت بضجّته ؟ وما الّذي يجعله من مصاف اللّغات الطّبيعيّة إن لم يفض عليها ؟ ... إذ لا مبالغة أن يقال إنّه اللّغة عينها القادرة على التّعبير عمّا يعجز عن دركه الكلام... هي اللّغة البصريّة إذن، تعزف ألحان الفكر إذ تشدّ أوتار المنسوجة إلى بعضها فنّا، فتتجاوز كلّ قيد يعقل اللّهجة المحلّيّة أو اللّغة القوميّة لتدرك أعلى مستوى من التّخاطب، عالميّ السّمة يفهمه القاصي والدّاني كليهما على حدّ سواء.

فهذه الأشكال بسيطة المظهر الّتي ترجع إلى المخزون الثّقافيّ الإنسانيّ كما سلف الذّكر، إذ توحي برسوم البدايات المنحوتة في الكهوف البدائيّة الرّاشحة، الصّدئة، المعتمة، الّتي تكاد تُنسى، والمخلّدة لخلاصة فكر الإنسان وتفكّره المضني مذ فجر التّاريخ في هذا الكون الفسيح، تنبئ في عمقها بنظرة دقيقة امتشقت حقيقة الكون فحدّثت بلسانه... أفليست هذه الأشكال الرّموز تجريدا رائعا لكلّ ما أنتجه الإنسان وصاغ أنساقه عبر التّاريخ؟ أليس فيها تذكير بما يجب ألاّ ينسى في فترة من الزّمن قاتمة، عابسة، مظلمة الآفاق...؟ أليس ذاك صدى الحقيقة الأزليّة المروّعة يتردّد في خاطر كلّ مثقّف حادّ الحسّ مرهفه يعلن إفلاس مرحلة حديثة و أخرى معاصرة من جوهر الوجود الإنسانيّ، مبشّرا بخلاص جديد فيه دعوة إلى التّأمّل واستيعاب درس التّاريخ... حتّى تتّضح الرّؤية ويستقيم جديد البناء البنّاء إن أريد له أن يكون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى