الجمعة ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم محمود عبد الرحيم

«نهضة» تونس تكشف عن وجهها

لا يمكن قراءة المشهد التونسي بمعزل عن الوضع في الدول التي شهدت ما بات يُعرف ب«الربيع العربي»، خاصة مصر، حيث يبدو أن ثمة تشابهاً في المعطيات والمسارات، وربما أصداءً متبادلة هنا وهناك، تدفع باتجاه «ربيع إسلامي»، ومحاولة لتغيير الهوية المدنية التي كانت سائدة طوال عقود طويلة، لهثاً وراء هوس«أخونة الدولة» أو ما هو أبعد بالحديث المتواتر في السر والعلن عن «الخلافة الإسلامية»، وكأن ثورات الشعوب العربية اشتعلت لتطبيق الشريعة ونشر الإسلام في«بلاد كافرة»، وليس لتحقيق أحلام الشعوب في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وللتخلص كذلك من التبعية للاستعمار الجديد ومواجهة التحدي الصهيوني اللذين قوضا لعقود مشاريع التنمية المستقلة للأمة العربية، وحرما شعوبها من خيرات بلادهم، ووضعهم رغماً عنهم في ذيل قائمة التخلف الحضاري والعوز الاقتصادي وتقزم الدور السياسي.

إن كانت ثمة بدايات في تونس بشرت في الشهور الأولى لخلع الديكتاتور زين العابدين بن علي، بتحول ديمقراطي حقيقي، وقدرة على التوافق بين كل القوى الليبرالية منها واليسارية والإسلامية، وتقديم نموذج يحتذى في الديمقراطية والتعايش المشترك، وفق قيم التمدن المتعارف عليها في العالم المتحضر، خاصة بعد أن قامت «حركة النهضة» الإسلامية بإرسال رسائل طمأنة عديدة للداخل والخارج، وبدا أن خطابها معتدل ومتسامح، ويحمل قدراً كبيراً من المسؤولية الوطنية، فضلاً عن مساعي التمايز بينها وبين السلفيين، الأمر الذي كان مسار إعجاب كبير، مقارنة بالحالة المصرية التي اختارت فيها حركة الإخوان المسلمين المسار المعوج الذي يقوض الثورة، وأخذ مسافة واسعة من القوى الثورية، والتناقض مع بقية الفصائل الوطنية، سعياً للهيمنة وخصخصة الثورة المصرية لمصلحة مشروعها الخاص الذي تعمل عليه على مدى 80 عاماً أو يزيد، حتى لو بالتحالف مع جنرالات مبارك وأركان نظامه، ومع الراعي الرسمي للكيان الصهيوني واشنطن، غير أن بعد السير لخطوات في مسار المرحلة الانتقالية أوضح أن تميز الحالة التونسية عن المصرية كان وهماً، وأن التوافق الواسع بين كل التيارات لم يكن سوى شكل خارجي، أو قشرة لامعة تخفي وراءها تناقضات حادة في المجتمع التونسي بين الإسلاميين والقوى المدنية، مثلما هي الحال تماماً في مصر، وأن »خطابات الاستهلاك المحلي« وازدواج الخطاب أو السعي لتصدير صورة منمقة للغرب عن »حركة النهضة« لم يعد يجدي، وأن هوس الهيمنة على مفاصل الدولة، وصبغها بالصبغة الإسلامية واحد بين «النهضة» والسلفيين، بل بين «إخوان تونس» و«إخوان مصر»، حيث يرون أن ثمة فرصة سانحة وتاريخية، ربما لن تعوض للتمكين، وإعادة إنتاج نظام الفساد والاستبداد والتبعية الذي كان قائماً، والتستر ب»ورقة توت الدين« التي يمكن استغلالها لإخفاء هذا التوجه الانتهازي أو لخداع الجماهير قليلة الوعي السياسي والثقافي، أو حتى استغلال الدين سلاحاً لمواجهة الخصوم السياسيين عند الضرورة بإلقاء تهم جاهزة كالكفر ومعاداة الإسلام والدفاع عن الشواذ والموبقات .

مشروع واحد

ولعل شريط الفيديو الذي تم تسريبه مؤخراً لزعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية راشد الغنوشي، وحديثه خلال لقاء مع قوى سلفية عن مخطط الهيمنة على مفاصل الدولة التونسية، خاصة أجهزة الأمن والجيش والإدارة والإعلام، وعدم تركها بيد من أسماهم »العلمانيين«، فضلاً عن حديثه عن »الخلافة الإسلامية«، أسقط الحاجز الذي يفصل »النهضة« عن السلفيين، وأكد بشكل واضح أن ثمة التقاء في الأهداف والتوجهات وامتلاك المشروع ذاته لأسلمة المجتمع، بل السعي للتحالف مع دول أخرى على أساس الهوية الدينية فقط، ما جدد المخاوف على الهوية المدنية لتونس، وأثار موجة من الذعر والاستياء الواسع بين قطاعات واسعة من التونسيين، خاصة النساء والنشطاء والفنانين والأدباء الذين اكتووا مؤخراً بنار التشدد الديني وعنفه الممنهج، رغم محاولة الغنوشي وأنصاره التملص من المسؤولية عن هذا الحديث، والادعاء أن ثمة تحريفاً جرى في الفيديو المنسوب إليه لتشويه صورته هو وحزبه من قبل خصومه المتربصين به .

وإذا ما عدنا للمقارنة بين الحالة المصرية والتونسية، خاصة أن مرجعية حركة «النهضة» هي «إخوان مصر»، وثمة علاقة وثيقة ومعلنة وزيارات متبادلة بين أحد رموز الإخوان كالشيخ يوسف القرضاوي ورئيس حركة النهضة التونسية، فضلاً عن خطوط الاتصال المفتوحة مع مكتب إرشاد جماعة الإخوان في مصر، نجد أن ما حفز الغنوشي إلى التصريح بهذا المخطط، هو ما قام به مؤخرا الرئيس الإخواني محمد مرسي بعد وصوله إلى الرئاسة من محاولة للسيطرة على وسائل الإعلام والجيش والشرطة والحكم المحلي، وغيرها من مؤسسات الدولة المصرية، سواء عبر زرع عناصر إخوانية في هذه الأجهزة أو الاستعانة بعناصر من النظام السابق لديها استعداد للولاء لمن قام بتعيينها، ولخدمة أهداف الإخوان في هذه المرحلة .

وربما الدافع الآخر، هو محاولة الاستقواء من قبل الغنوشي وحركته بالسلفيين خلال الاستحقاقات المقبلة من احتجاجات وانتخابات واستفتاء على الدستور، في مواجهة القوى اليسارية والليبرالية التي يوماً بعد يوم تزداد قوة في الشارع، وباتت تمثل صداعاً في رأس »حركة النهضة« وحكومتها، ولا تلبث أن تفضح سلوكها وعدم قدرتها على الوفاء بمتطلبات الشعب التونسي واستحقاقات الثورة، خاصة مع التساهل الواضح مع السلفيين الذين انتهجوا العنف طريقاً لفرض رؤاهم المتشددة والعمل على تقويض الحريات العامة والخاصة وحرية الرأي والتعبير .

تراجع شعبية "النهضة"

ولاشك أن شريط الفيديو المسرب، فضلاً عن غض حكومة »النهضة« الطرف عن انتهاكات السلفيين بحق مجتمع منفتح كالمجتمع التونسي، ومحاولة تقييد حركته وحريته، فضلاً عن المخاوف المتصاعدة إزاء الدستور التونسي الجديد بعد طروحات الإسلاميين التي تراها قوى عديدة، بمن فيهم رئيس المجلس التأسيسي، مزعجة وغير مقبولة، كل هذا أعطى للمعارضة زخماً، وفرصة لمنازلة «إخوان تونس» والسلفيين بقوة في الشارع السياسي، والخصم من رصيدهما شعبياً، حتى إن استطلاعا للرأي جرى مؤخرا أسفرت نتائجه عن احتلال الباجي قائد السبسي الوزير الأول السابق ورئيس حركة «نداء تونس» المرتبة الأولى، في حين حل الرئيس التونسي الحالي المنصف المرزوقي في المرتبة الثانية، فيما احتل زعيم حركة النهضة »الحزب الحاكم« راشد الغنوشي المرتبة الثالثة .

ولم تأت الانتقادات من قبل المعارضة فقط بل من داخل النظام الحاكم أيضاً، حيث حذر الرئيس المنصف المرزوقي في لقاء تلفزيوني أخير من خطر السلفيين ومواصلة نهج العنف، فيما اعترف كاتب الدولة للشؤون الأوروبية النعماني العبدولي بأن ثمة تمويلاً خارجياً للترويج للفكر السلفي، وأن الحركات السلفية وإن جاءت الطمأنة منها في البداية، لكن لوحظ تصعيد أعمال العنف الذي برز في الهجوم على السفارة الأمريكية، متهماً حكومة النهضة بالتساهل في مستوى التعامل الأمني مع المتشددين، ما جعلهم يعيشون فوق القانون .

وفي نبرة تهديد ووعيد قال المسؤول الحكومي المنتمي لحزب «التكتل»: إ«ن السلفيين إن لم ينضبطوا ويخدموا الشعب التونسي، فلن يكون لهم مكان وسيواجهون برفض اجتماعي».

سقطت الأقنعة

وبحسب الفنانة التشكيلية التونسية آمال بن حسين التي عانت تحرش السلفيين بأعمالها الفنية «فإنهم يتلاعبون معنا كالقط والفأر، لكن مخططاتهم لن ترى النور، لأن مدتهم قاربت على الانتهاء، خاصة بعد أن سقطت أقنعتهم وقسموا المجتمع بين كافر ومؤمن، وتناسوا مصالح الناس».

وتابعت: «لقد أفهمونا بأنهم أعداء ومختلفون حتى نزل فيديو سري لراشد الغنوشي، ظهر فيه وهو يوزع الأدوار في المخطط القادم ويطمئنهم بأنه سيستولي على مقدرات البلد لتحقيق الهدف الحقيقي للسلفية. إننا بلد فقير ينتعش بالسياحة والحرية، وفي ظل الأسلمة سيعم الفقر، ولن تكون قائمة لتونس تحت الفاشية الدينية».

وقد تصاعدت خلال الأيام الماضية الدعوات داخل المجلس التأسيسي بضرورة حل »حركة النهضة الإسلامية« لتهديدها الهوية المدنية للدولة والتآمر على الدولة التونسية، إلى جانب انسحاب بعض الأعضاء، علاوة على تحرك محامين باتجاه القضاء في هذا الشأن، على غرار الدعاوى القضائية في مصر بحل جماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانوناً، التي تتربع على رأس السلطة التنفيذية والجمعية التأسيسية ومجلس الشورى بعد حل مجلس الشعب، فيما يتواصل الحشد للخروج في مظاهرات واسعة يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول المقبل تحت شعار «الثورة التونسية الثانية»، لإسقاط حكومة حركة النهضة وتسلُّم السلطة منها وإنهاء مهام المجلس التأسيسي بعد أن أثبت، حسب رأي المعارضة، عدم جدية على صعيد إعداد الدستور .

الأمر الذي ردت عليه حركة النهضة والسلفيين بالتنسيق لنشر لجان شعبية منهما في اليوم ذاته للتصدي للاحتجاجات الشعبية وإحباط أهدافها، مثلما اعتاد أن يفعل «إخوان مصر» في مواجهة خصومهم السياسيين، بل حذرت تجمعات سلفية من اغتيالات وأعمال عنف وتخريب في ذلك اليوم، وهو ما تراه قوى المعارضة محاولة استباقية للتبرؤ من ارتكاب مثل هذه الجرائم ونسبها إلى معارضي القوى الإسلامية، أو لتخويف الجماهير وصرفهم عن الاحتشاد .

تنسيق

وربما هذا التنسيق المشترك بين «إخوان تونس» والسلفيين، في مواجهة القوى المدنية مؤشر آخر إلى مدى الانسجام والتوافق بين النهضة والسلفيين، وأن ما يثار عن خلاف أو تمايز يدخل في إطار الدعاية الممنهجة وتوزيع الأدوار في سياق اللعبة السياسية التي يصطف فيها الإسلاميون على اختلاف تناقضاتهم الثانوية، وليست الجوهرية في معسكر واحد بعد التفاهم الواضح مع واشنطن والدعم الخارجي، للوصول إلى «ربيع إسلامي» يرفع العلم السني، لاستدامة الأوضاع القائمة وشبكة المصالح الداخلية والخارجية التي تؤمّن مصالح أمريكا و«إسرائيل»، ويمكن استخدامها مستقبلا في مواجهة المناهضين للمشروع الصهيوأمريكي داخليا أو إقليميا .

وفي الأخير يمكن القول إن المعركة السياسية والمجتمعية في تونس تزداد سخونة يوماً تلو الآخر، مثلما هو الوضع في مصر، وبات من الصعب التنبؤ بالخطوة التالية، هل ستصب في خانة تمكين «إخوان تونس» والسلفيين أم إسقاطهما؟ وهل ستميل الكفة للأحزاب المحسوبة على نظام الرئيس المخلوع بن علي ك «نداء تونس» الذي باتت أسهمه في ارتفاع، لدرجة انضمام أم مفجر الثورة التونسية بو عزيزي له، أم ستتحول الأوضاع لمصلحة الأحزاب والتنظيمات المحسوبة على الثورة؟

ويبقي السؤال الأهم: أين موقع الثورة وأهدافها والمواطن التونسي في صراع السلطة والنفوذ الجاري حالياً؟ خاصة أن طموحات الأغلبية إلى حياة أفضل، كما بشرت الثورة، تبددت، وحل محلها الإحباطات والمخاوف على المستقبل، وهو الشيء نفسه الحادث في مصر أيضاً .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى