نِسبة حرّية التّعبيرّ في المُنتَج الثَّقافي لدى فلسطينيّي الــ48
كلما طُلب مني رَبط المسرح بالسّياسة أَكتشِف كم أنّنا بسبب عدم حلّ قضيّتنا الوطنيّة، نجد أنفسنا صارفين جُلّ جهدنا في تقييم واقعنا الذي يختلف عن سائر الفنّانين الذين لا يُعانون من مشكلة الحديث عن احتلال وقضايا تحرّر وطني.
لا بدّ من التّوضيح أنّ هنالك مؤسّسات إسرائيليّة تدعم المؤسّسات الثّقافيّة المنضوية تحت اسم "عرب اسرائيل" بالمفهوم الإسرائيلي، او "فلسطينيو الداخل" بالمفهوم الفلسطيني، بحدود التزام هذه المؤسّسات بأمن الدّولة وبتبعيّتها لها، ورويداً رويداً، تعترف هذه المؤسّسات بأنّها جزء من الدّولة ومؤسّساتها، وليست مؤسّسات فلسطينيّة تابعة لفلسطين التّاريخيّة، او للفلسطينيّين بشكل عام.
وأيضا رويداً رويداً تسعى إسرائيل بـِخُطَى حثيثة الى جعل "الدّاخل الفلسطيني" يعني أن كلّ فلسطين التّاريخيّة تحت سيطرتها بحيث يُطَبّق الاحتلال على منطقة الــ48 ومنطقة الــ67، أي السّعي لضمّ مناطق الـ67 الى حدودها، بحيث يبقى فلسطينيّو الشّتات خارج المعادلة، وفي الوقت ذاته فهي تبقى غير ملتزمة بتحديد منطقة حدودها، طمعاً في المزيد من التّوسّع الجغرافي والسّياسي والاقتصادي والتّسلّحي.
استمرت الرقابة العسكريّة الإسرائيليّة على المسرح والسّينما طوال فترة الحكم العسكري، اي حتى سنة 1966 التي انتهى فيها الحكم العسكري، ولكن الرّقابة على المسرح استمرت حتى سنة 1989. وقد "حظيتُ!؟" شخصيا بمنع مسرحيّتي "السّلام المفقود" سنة 1977- أي في فترة الحكم "المـَدني!"- من قِبَل لجنة الرّقابة على الأفلام والمسرح التي تكوّنت من 13 عضواً، صوّت 11 منهم ضدّ عرضها وصوّت واحد مع عرضها، وصوت الأخير بالحياد. كانت حجّة هذا الأخير تحمل كل المغزى، فقد ادّعى أنّه من خلال إتاحة عرض المسرحيّة على الملأ، يستطيع جهاز المخابرات أن يراقب نسبة التّعاطف الوطني مع فحواها، وهكذا يكون الخطر الأمني من قِبَل هؤلاء مكشوفاً، وعندها يمكن مواجهة مُرتكبيه. كان هذا التّوجّه أكبر دليل على عقليّة السّعي للاختراق الأمني لفلسطينيّي الــ48 من قِبَل السُّلطات الإسرائيليّة من أجل مواجهة أي وسيلة يعتبرونها تُهدِّد أمنَهم، مهما كانت ثقافيّة او اجتماعيّة. لقد آمنوا بأنّ القوّة العسكرية والأمنيّة والمخابراتيّة، المدعومة جميعها بقوّة مادّية واقتصادية ضخمة هي من أهمّ الدّعائم التي يجب أن تَحمل هَمّ الدّولة.
خلال فترة الحكم العسكري وبعدها بقليل، والتي كانت قريبة من النّكبة والتّهجير والواقع الجديد الذي زُجّ به فلسطينيو الـ48، كاد المسرح يكون معدوماً، إلّا ما كان منه يتطرّق الى مواضيع اجتماعيّة، او المعتمد على نصوص مسرحيّات مُستوردة من الخارج، أو مسرحيّات مدرسيّة مراقبَة من قبل مؤسّسة الدّولة ومخابراتها. كان همّنا الحفاظ على بقائنا، ولم يكن بمقدورنا ممارسة رفاهية الإبداع المسرحي بشكل حرّ او كعنصر من عناصر أولويّات حياتنا، وخاصة أنّ المسرح عملٌ جماعيّ، ويتطلّب تَجمُّعا بَشريّاً بين الفنانين وجمهورهم، فكيف تستطيع التّحرُّك مسرحيّاً وأنت تحت حُكم عسكري قمعي؟ التّجربة الوحيدة التي سُمح بها بمزاولة الفعل المسرحي كانت بعد إقامة السُّلطات الإسرائيليّة "مسرح بيت الكرمة" في مدينة حيفا سنة 1963، أي خلال فترة الحكم العسكري، كمسرح عبري/عربي مُدار من قبل يهود، وقد أُطلق علية عمدا اسم "المسرح العبري/العربي، وليس المسرح الإسرائيلي/الفلسطيني، فالعلاقة مع العرب لا بأس بها، أما مع الفلسطينيّين ففيها تَفطين بأنّ شيئاً ما خاطيء في المعادلة، وقُدِّمت فيه مَسرحيّات عربيّة لجمهور عربي، وعلى الأغلب لجمهور المدارس، التي هي أيضا كانت مُراقَبة مخابراتيّاً بِشدّة. وليس صدفة أنّ "المسرح النّاهض" على سبيل المثال تأسس في حيفا سنة 1968، أي بعد انتهاء الحكم العسكري بسنة، وهو مسرح مستقلّ، وفي الوقت ذاته كان يسعى لإنتاج أعمال مسرحيّة إنسانية معتمدة على نصوص مستوردة من الخارج عربيّاً او أجنبيّاً، بالقدر المسموح به.
رويداً رويداً، وبعد فشل تجربة المدّ القومي والاشتراكي، وبعد الهزائم الـمُتكَرِّرة للعرب، وبضمنهم الفلسطينيّين، ظَهَر المدّ الدّيني كإيمان بإمكانيّة إيجاد بديل عامودي مع السّماء بدلاً من البديل الأفقي الذي فشل مع الأرض، حتى تطوّر الأمر الى نوع إضافيّ من الرّقابات السّابقة بمنع بعض الأعمال الإبداعيّة بحجة أنها مُنافية للدين والأخلاق، ولتعاليم السّماء وخالقها.
كان لا بدّ للمواطن الـمُحبّ للحياة وللبقاء أن يجد لنفسه طُرُقاً ذكيّة من أجل الحفاظ على بقائه، وطمعاً في مزاولة بعض إبداعاته وفنونه. كان لا بدّ من ممارسة الرّقابة الذّاتيّة والسّير بين حبّات المطر في منطقة شديدة الهطول والوحولة. وأما المسرح، فلأنه فنّ جماعي يتطلّب اللقاء بين متجمّعين من مؤدّين وجمهور، فإنّه كان يتطلّب أكثر جهداً ومغامرة من أجل طَرْقِه، فهو يتّسم بطابع تَظَاهريّ، وهو بحاجة إمكانيّات مادّيّة، فمجال التّطوّع يبقى آنيّاً، ما أدّى الى ظهور غزارة في الفرق الفنيّة والمسرحيّة، ورويداً رويداً أصبحت هذه الفرق تعتمد على دعم المؤسّسة الإسرائيليّة، أكان ذلك على شكل دعم لمؤسّسات او لمسارح مُسجَّلة كجمعيّات رسميّة. قد يبدو لأول وهلة أنّ هذا الّدعم غير مشروط، ولكنّه في عمقه مُهدَّد بالقصاص فيما إذا لم يحظَ برضى السُّلطات الإسرائيليّة، وبالتّالي يُهدَّد بقطع الدَّعم، ومن ثم بالإغلاق، كما حدث لــ"مسرح الميدان". يكون الأمر أكثر صعوبة عندما تكون المسارح بنايات ومؤسسات، وليست فِرَقاً بدون بنايَات مسرحيّة تتطلّب ميزانيّات ضخمة، ولا تستطيع الاستمرار من مدخول التّذاكر، وهي بحاجة لدفع رواتب وأتعاب موظّفين وعاملين وممثّلين ومخرجين..ألخ.)
يوصلونك الى وضع "التَّعلُّق" بالرِّزقَة، بالدَّعم، بالحصول على الميزانيّات عن طريق مؤسّسات الدّولة، وبالتّالي فأنت تُراقِب نفسَك بنفسك، بأن لا تتطرّق الى مواضيع وطنيّة او تحريضيّة، وبالتّالي فالأضمن لك أن تُكرّس جُلّ جهدِك للإبداع الفنّي والتّرفيهي، بحيث يبدو الأمر في النّتيجة مساهَمة في "الاحتراف الإبداعي!؟" الذي يبقى بحدود المواضيع الإنسانيّة العامّة، والذي ترى فيه السُّلطات الإسرائيليّة أمرا مُحبّباً بعيداً عن التّحريض السّياسيّ الذي قد يُهدِّد أمنها، لا بل إنّها بذلك تضمن أنّ المبدع يبقى بحدود مواطنَته كعربي إسرائيلي تابع لدين معيّن وليس لفلسطينيّته، وكجزء من كيان أصبح حقيقة، ومع الوقت يصبح التّعلُّق بالفنّ ناتجاً عن كونه مصدرَ رزقٍ ترفيهي شُهروي، والمصدر الدّاعم له هو المؤسّسة الحاكمة التي تجد نفسها ساعية باجتهاد لإنْساء الفلسطيني بأنّه يعيش في فلسطين التّاريخيّة، وأنّه أصبح مواطناً إسرائيليّاً يحلم بأنّه ربّما تصبح فلسطين "هناك"، وأنّ "هنا" هي إسرائيل لا غير. وبالتّالي فهي تعترف بمواطنَتِنا الجزئيّة كعرب أصحاب ديانات وليس كأصحاب قوميّة مشتركة أو وطن مشترك تمّ الاستيلاء عليه، وليس كفلسطينيّين، وإنّما كأناس لهم حقوق مواطناتيّة جزئيّة، وواجبات مرهونة بمدى ولائنا لهذا الكيان، البديل لكياننا الأصلي.
ضمن هذه المعادلة فالاستقلال الإبداعي يتطلب التّضحية، وهو مكلف جدا، وهو ما حاولناه في مسرحنا من خلال تجربتنا في "مسرح السّيرة" المتجوّل، ولاحقاً من خلال تجربة "مسرح خشبة" في حيفا. كان لا بدّ من البحث عن حلّ وسط، وهو ان تُنتِج أعمالك بِقواك الذّاتيّة وتعرضها بدون أخذ دعم من المؤسّسة الإسرائيليّة، ولكنّك توافق بأن تقدّم عروضك مقابل مردود مادّي للعرض، بينما أنت تحاول ان تكون مُستقلّاً بقدر الـمُستطاع، فالجمهور الذي تعرض له هو فلسطيني، كما هو الحال في المدارس والمراكز الجماهيريّة، ففي هذه الحالة، على الأقل أنت تأخذ مقابل أتعابك وليس كدعم او كتبرّع لمؤسّستك او لمسرحك.
يدّعي القائمون على الأعمال الإبداعية والمسجّلون كجمعيّات رسميّة معتمدة على دعم المؤسّسة الإسرائيليّة أنّهم كمواطنين يدفعون الضّرائب، ومن حقّهم أن يسترجعوا جزءاً ممَّا يدفعونه. وأما المؤسّسات التي تَدفع نسبة معيّنة مقابل العروض والفعاليّات فهي مؤسّسات دولة، مثل "السّلة الثقافية"، "المكتبات العامّة"، "مفعال هبايس"، "وزارة التّربية والرّياضة".
بعد أنْ اشتدّ عود إسرائيل، توسّعت وازدادت ثقة بنفسها لدرجة الغَطرسة، وتعاظمت قوّتها العسكريّا والأمنيّة لدرجة الهَوَس، وتكامل بُنيانها مؤسَّساتيّاً، واعتراف العالم بها، ودَعَمها بسخاء، وخاصّة عندما أصبحت الامبراطوريّة الأمريكيّة تعتبرها ولايتها الــ51، فأصبحتْ أكثر اطمئناناً بأنّ الفنّ بشكل عام لا يشكّل خطراً عليها، لا بل أصبحت تُخصِّص ميزانيّات لدعم الفنّ محاولةً تجييره لصالحها مُتذرّعة بتَمَيُّزها الدّيمقراطي، ولكي تصل الى فلسفة "أطعم الفم تستحي العين" وفلسفة ربط الارتزاق بالفن، اي בעל המאה הוא בעל הדעה (عبرية: معناها صاحب المال هو صاحب الرأي)- فهي عن قصد تُعرّفه كعربي وليس كفلسطيني لكي تنفي عنه جغرافيّته وتاريخه الأصلييّن- فإذا وصل المبدع العربي في إسرائيل الى درجة الإدمان على الفن، والارتزاق منه، فإنّه مع الوقت سيلجأ الى الاستغناء عن إزعاج السُّلطة، ما قد يجعلها تحرمه من الميزانيّات، فتنتهج بدورها فلسفة "أطعم الفم تستحي العين". وهكذا يتحوّل الفنّ الى مهنة من أجل الارتزاق وطلب الشُّهرة، بعيداً عن قضيّته الوطنيّة، لا بل أحياناً يكون مُكرَّساً لخدمة إسرائيل، إمّا عن مصلحة الفنان الشخصيّة، وإمّا عن قناعته بذلك وهذا هو الأخطر، فيكتفي بعض الفنّانين بممارسة الفنّ من أجل الفنّ والرِّبح والشُّهرة، وعدم تقريبه الى هويّتنا الوطنيّة والسّياسيّة، والاكتفاء بالادّعاء انه يهدف الى التّرفيه، وطَرْق مواضيع إنسانيّة عامّة لا تـَمتّ الى واقعنا الاستثنائي. وضمن هذا المفهوم أصبح بعض الفنّانين يلجؤون الى القول: "أنا لا أتدخّل في السّياسة". هذا لا ينفي وجود بعض المؤسّسات والفِرَق التي تُعلن انتماءها الوطني الفلسطيني بحدود المسموح به "ديمقراطيّاً!؟". هل ينطبق السُّؤال المطروح عالميّاً عن الفن والإبداع بأنّه ترفيهentertainment، فمجال المسرح مثلا في نشرات النّشاطات المسرحيّة والسّينمائيّة والثّقافيّة العالميّة يُذكر تحت عنوان ترفيهentertainment، فهل ينطبق ذلك على وضعنا كأصحاب قضيّة وطنيّة تضغط على المبدعين لكي يكونوا جزءاً فعّالاً من حياتها وحياتنا السّياسيّة والوطنيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة بشكل عام؟
حتى هذه اللحظة، وبعد 74 سنة من وجود إسرائيل كدولة معترَف بها عالميّاً، تقريباً بدل فلسطين، لم يعُد التّعامل مع فلسطينيّي الــ48 كمواطنين قابعين تحت احتلال إسرائيلي، فإسرائيل بناء على الواقع الجديد تعتبرهم خارج المعادلة الفلسطينيّة وداخل معادلتها. أما "هناك!؟" في الضفّة الغربيّة فإنّ القانون الدُّوَلي يَعتبر الاحتلال هو المسؤول عن حاجاتهم الحياتيّة، وليس في القدس المحتلة، حيث أدارت إسرائيل ظهرها لهذا القانون على مرأى ومسمع العالم، لأنّ القدس عمليا ضُمّت لإسرائيل سنة 1967. أما هنا، ففلسطينيّو الــ48 وبناءً على اعتراف العالم بوجود إسرائيل، فعليهم الاعتراف بإسرائيل كأمرٍ واقع لا فكاك منه، ولا مناص من قبولها والعيش فيها ومعها على أساس أنها دولتُهم، وألّا يحلموا بأن تعود فلسطين لكي يعيشوا فيها.
وافق بعض الفلسطينيّين أيضا على مبدأ دولتين لشعبين، ولاحقا اعترفت منظمة التّحرير بإسرائيل مقابل اعتراف إسرائيل بها، فوافقت إسرائيل، ولكنّها لم تُصرّح بأنّ ذلك يعني الموافقة على دولة فلسطين، بل الاعتراف بالمنظّمة. ضمن هذا المفهوم أصبحت إسرائيل كياناً قائماً ومعترفاً به، وبقيت فلسطين رهن التّفاوض اللانهائي غير المشروط، وعندما يُقال "الاحتلال الاسرائيلي"، فهذا قد يعني عمّا احتلته سنة 1967 فقط، اي الضفة الغربية وقطاع غزّة.
حصلت إسرائيل على اعتراف عالمي بها، فوافقت على ذلك الأمم المتحدة، ولاحقاً منظمة التحرير الفلسطينيّة، ولاحقاً اتفاقيّة أوسلو، ومن ثمّ معاهدات السّلام العربيّة مع إسرائيل، وما مَوجةُ التّطبيع العربي مع إسرائيل إلّا تعبيرا صريحا وصارخا عن التّنازل عن فلسطين التّاريخيّة لصالح إسرائيل التي ترفض أن يكون لها دستورٌ تُحدِّد من خلاله حدودَ حدودِها، طمعاً في تحقيق حلمها بالامتداد من النّيل الى الفرات. تألّمتُ كثيراً لردّ أحد الكُتّاب من إخوتنا الفلسطينيّين العائدين الى الوطن بعد "اتّفاقية أوسلو" عندما قلت له بأنّني الآن أستطيع أن أُقدّم طلبات لدعم مشاريعي الإنتاجيّة المسرحيّة والكتابيّة من خلال فلسطين الجديدة، وليس أن أكون راضخاً لإملاءات السّلطات الإسرائيليّة، فقال لي كاتبنا: "بالعكس، انت تستطيع أن تأخذ ميزانيّات من إسرائيل، فهذا حقّك". للأسف، فقد شعرت بخيبة أمل، وكما يقول المثل الشّعبي: "أجيت يا عبد المعين تَ تعين أثاري يا عبد المعين بدّك مين يعينك".
أصبحت مِنحة العمل الإبداعي بعد اتفاقية أوسلو مشروطة من قبل الاتّحاد الأوروبي بوجوب التّعاون بين مبدعين إسرائيليّين وأردنيّين، او بين فلسطينيّين وإسرائيليين. اي إجبار الفلسطينيين والأردنيين على التّعاون مع إسرائيل مقابل الحصول على الميزانية، وذلك بهدف ترسيخ مفهوم "السّلام!؟" بين الجيران. إذا اردنا التّعامل مع هذه الشّروط فهل نتقدّم نحن لطلب المنحة كـ"إسرائيليّين؟!" مع مبدعين فلسطينيّين في الضّفة، ام أنه سيكون مشروطا بالتّعاون بين يهود إسرائيليّين وفلسطينيّين ضفّاوييّن؟
"عرب الــ48" أصبحوا يُعتَبرون بالنّسبة لإسرائيل، وبالنسبة لبعض العرب، وحتى بالنّسبة للمتّفقين على أوسلو، تقريباً خارج المعادلة الفلسطينيّة، وكأنّ دولة اسرائيل هي دولتهم وهم مواطنون فيها. لاحظ قلت "كأنّها دولتهم"، لأنّ إسرائيل لا تَعتبرهم مواطنين لهم كامل الحقوق وكجزء من الشّعب الفلسطيني، لأنّها تُعرِّف نفسها بأنّها دولة يهوديّة لليهود. فلسطينيّو الــ48 يُعتبرون مواطنين في دولتهم التي هي في الحقيقة ليست دولتهم، فلا هي تعتبرها دولتهم ولا هم يعتبرونها دولتهم، لأنها قائمة فوق وطنهم التّاريخي بغير حقّ، وهذه المعادلة هي سبب التّعقيد العَبَثي الذي نعيشه، خلافاً لكلّ البشر الذين يحظون بأوطانٍ ودولٍ مستقلّة. إذاً ففلسطينيّو الــ48 يُعتبرون مواطنين إسرائيليّين يُعامَلون كأنّها دولتهم وأنّ لهم دولة، وما تغيّر هو فقط إسرائيل بدل فلسطين، لهم حقوق وعليهم تأدية الواجبات، وتضغط الدّولة عليهم لتأدية هذه الواجبات حتى ولو كانت عسكرية او شُرَطيَّة او مخابراتيّة.
على الرغم من كل هذا التّضييق، وهذا الواقع السّياسي العبثي الذي يعيشه فلسطينيّو الــ48، فانّ فناّنينا يُثبِتون مع الوقت أنهم موجودون على السّاحة الإبداعيّة وبشكل مِهني، وعن وعيٍ ودرايةٍ في مجالات تخصُّصاتهم الإبداعيّة المختلفة، مع وجوب اتّخاذ الحذَر الشّديد من إمكانيّة ان تُجيِّر إسرائيل هذه الطّاقات الـمِهَنيَّة والإبداعيّة لصالحها من خلال مؤسّساتها الـمُخْتصَّة، وقد حدث ذلك بشكل فظّ مع مسلسل "فوضى" الإسرائيلي الذي يُؤنسِن قوّات كوماندوز الـمستعربين، ويجرّم الفلسطينيّين، وقد وقع في مصيدته 100 ممثل فلسطيني وعربي بين محترف وهاوٍ، أُوهِم بعضهم أو توَهّموا أو ربما أغرت بعضهم المادّة والشُّهرة، وبأنّ المسلسل "ديمقراطي" ويعطي حرّية التّعبير لكلا الطرفين الصّهيوني والفلسطيني بعَرض واقعهما بــ"كامل الحرية!؟" وبشكل "موضوعي!؟" و"إنساني!" و"حُرّ!"، فقام مُنتجو المسلسل بتسويقه عبر منصّة "نتفلكس" التي يشاهدها الملايين في كل العالم، وفيه تبدو إسرائيل وأبطالها المستعربون وأجهزة مخابراتها وجيشها إنسانيّين، بينما الفلسطينيون هم الإرهابيّون والـمُعَتدون والقَتَلة. قِسْ على ذلك مسلسلات وأفلام إسرائيليّة انتهجت الأسلوب ذاته، والتي لا مجال للحديث عنها في هذا البحث، وما نراهن عليه هو أنّ الانسان الفلسطيني مهما طال الزّمن وقست عليه الظروف فإنّه لا يستطيع أن يخرج من جلده الأصلي.
وأخيراً، ما دامت قضيّتنا الوطنيّة غير محلولة، فإنّنا لن نستطيع أن ننعَم بالإبداع الحر، وكأنّ كلّ شيء على ما يرام مثل باقي الشّعوب التي تحظى بدُولٍ مُستقلة، ويتعاملون مع مؤسّساتها بشكل وطني ومستقرّ، ويحظون بدعمها. كيف نستطيع أن نتحرّك بجدارة ضمن هذا الواقع الجديد، ونتصرّف كأنّ الأمور طبيعيّة ومحلولة وعلى ما يُرام، والأهم.... وإلى متى؟