الخميس ٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم إبراهيم سعد الدين

هذه هي إسْرائيل.. فماذا نحن فاعلونْ..؟!

المَجْزرة الأخيرة التي ارتكبتها إسرائيل في هجومها الوحْشي على قافلة المُساعدات الإنسانيّة "الحُرّيّة" ليست اسْتثناءً في تاريخ هذا الكيان العدوانيّ الغاصب، بل هي جُزْءٌ لا يتَجَزّأ من تكوينه العُنصريّ وأيديولوجيته المُنافية للعَقْل والمَنْطق والتاريخ، وهي نَهْجٌ ثابتٌ وحلقةٌ جديدة من مُسَلْسَلِ القَتْلِ والتَّشريد والترويعِ وسَفْك الدّماءِ وانتهاك الحُرُمات التي ارتبطت بنشأة هذا الكيان الشّاذّ وواكبت مسيرته حتى اليَوْم. لكنْ ما فعلتْه إسرائيل في هذه المَجْزَرَةِ الأخيرة يُجَسِّدُ طبيعة المأزق التاريخي الذي تواجهه الحركة الصُّهيونيّة وعُمْق الأزمة التي يعيشها الكيان الصّهيوني منذ أمدٍ بعيد، والتي تَجَلَّت واضحةً في تمخُّض انتخاباتها الأخيرة عن مثل هذه الحكومة الخارجة على كُلّ القوانين والأعراف، والتي تعكس إفْلاساً واضحاً وجَلِيّاً وتَشَوُّشاً في الفِكْر واضطّرابا في الرُّؤية وخوْفاً عميقاً من المُسْتَقْبل داخل المُجْتَمع الإسْرائيلي. فهذه الحكومة ـ التي هي تَجَمّعٌ لعناصرَ وشراذم من أكثر التّيارات تطَرُّفاً وعُنْصريّةً وجَهْلاً وبَلْطَجَةً وعشْوائيّةً في إسرائيل ـ هي التَّجسيدُ الحَيّ لتزعْزع اليَقين واهْتزاز الثقة في إمكانيَّة بقاء هذا الكيان على ما هو عليه، بعد أن تفاقمت تناقضاتُه الدّاخليّة وانكشفَت حقيقتُه وتَعَرَّت سوءاته واشْتدّ حصارُ الرّأي العام العالمي من حوله خاصّة بعد الحرب الأخيرة على غَزَّة وما كشفته التقارير والتحقيقات الدّوليّة عن جرائم وفظائع ارتكبتها إسرائيل بِحَقّ الشَّعب الفلسطيني وبِحَقّ الإنسانيّة. يُضافُ إلى هذا الإخْفاقُ العَسْكريّ المُشين للجيش الإسرائيلي بحربه الأخيرة على لُبنان وما تكبَّده من خسائر فادحة وعَجْزه عن تحقيق أيِّ إنجازٍ رغم الدَّمار الهائل الذي أحدثته آلة الحرب الصهيونية وما ارْتكبته من مجازر بحقِّ المدنيّين في لُبْنانْ. والسُّؤال الذي فَرَضَ نفسه على المُجتمع الإسرائيلي وما يَزالُ مطْروحاً بقوّة هو: ماذا بعد..؟ وأيُّ مُسْتقبلٍ ينتظرُ الإسرائيليّين إذا كان جيشهم لمْ يَعد الذّراعَ الطويلة والقَويّة التي تكفلُ لهم الحماية والأمن وتُحقّقُ لهم الاستقرار.؟! أيُّ مُسْتَقْبَلٍ لِدَوْلةٍ ينظرُ إليها المُجْتمع الدّولي على أنَّها كيانٌ عُنْصُريٌّ خارجٌ عن القوانين والأعراف الدّوليّة والإنسانيّة يُطارَدُ قادتُه وزُعماؤه في مختلف دول العالم كمُجْرمي حَرْب..؟!
هو مأزقٌ تاريخيٌّ تواجهه الحركة الصُّهيونيّة، وهي أزمةٌ عميقة تَهُزُّ العَقْلَ والوجدان والضَّمير داخل المُجْتمع الإسرائيلي، أشبه ما تكون بالأزمة التي واجهها نِظامُ الفَصْل العُنْصريّ في جنوب إفريقيا وهو يحتضرُ ويَلْفُظُ أنفاسَه الأخيرة. ووجْه المُقارَنةِ التاريخيّة هنا لا يكشفُ ويُفَسِّرُ لنا ـ فقطْ ـ طبيعة الواقع السّياسي والاجتماعي الرّاهن في إسرائيل، وإنَّما يُلْقي الضَّوْء على السلوك العدواني الوَحْشيّ السّافر للكيان الصّهيوني والمُؤَهّل ليزداد عدوانيّةً وإجراماً وخروجاً على كُلّ الأعراف والقيم في المُستقبل، تماماً مثلما وصلَ نظامُ الفَصْل العُنصريّ في جنوب إفريقيا إلى ذِرْوَةِ تطرُّفه وشراسته في أواخر أيّامه.

هذه هي إسرائيل اليوم.. قُوّةٌ غاشِمَةٌ مُنْفَلِتَةٌ من عِقالِها، تَشْعُرُ في قرارِ وَعْيِها الجَمْعيّ أنها تُحاربُ آخِرَ مَعارِكها ومِنْ ثَمَّ فلا سبيلَ ولا مجالَ للتَّفكير في أي خطوةٍ لسلامٍ مع الفلسطينيين ومع العربْ، فإسرائيل تُدْرِكُ أكثر من غَيْرها أنّ السَّلام الذي تعنيه ليس أكثر من شعارٍ للاسْتهلاك الدُّوليّ وذَرّ الرّماد في العيون، وأنّ السّلام الحقيقي يعني حَصْر هذا الكيان داخل حدودٍ غير قادرٍ على تجاوزها، وكبْح جماح التّوسُع والاستيطان والتهام الأرض العربية قطعةً تِلْو أخرى، الأمْر الذي لا تحتمله إسرائيل ولا تقدرُ عليه لأنه يضعها وَجْهاً لوَجْه أمام مأزقها التّاريخيّ كفِكرةٍ ومشروعْ.

والسُّؤال الآن: ماذا نحن فاعلون كعرب أمام حقائق هذا الصّراع ومُجرياته..؟!

مَجْزرة قافلة (الحُرِّيّة) هي مُقَدِّمةٌ لسلسلةٍ وشيكة الحدوث من الجرائم سوف تُقدمُ عليها إسرائيل بِدَمٍ بارِدٍ ما لم تكن هُناك قوّة ضَغْطٍ عربيّة رادعةٍ وتَحَرُّكٌ فلسطينيٌ وعربيٌ مسؤولٌ وواعٍ بمُعطيات هذه المرحلة.
على الفلسطييين ـ أوّلاً ـ مهمّة عاجلة ومُلِحَّة تتمَثَّلُ في إنجاز المُصالحة الوطنيّة ومُعالجة أسباب الانقسام على أسسٍ وطنيّة وديمقراطيّة تضَعُ مصْلحة القضيّة الفلسطينيّة فوق كُلّ اعتبارْ. وعليهم أن يُعلنوا وقف كُلّ شَكْلٍ من أشكال التفاوض المُباشِرِ أو غير المُباشر مع الكيان الصّهيونيّ. فهي مُفاوضات لن تُفضي إلى أيّ حَلٍّ مقبولٍ للصّراع، ولن تفعل أكثر من تجميل الوجه القَبيح والمُدان لهذا العدوّ.

وعلى العرب ألاّ يكتفوا بِشَجْبهم واسْتنكارهم أو صَمتهم المُشين والمُهين أحياناً، وأن يتخلوا عن تلك الدّيباجة المَعيبة والمُثيرة للسُّخرية في بياناتهم الرّسميّة والتي يدعون فيها الوسيط الأمريكي للسّلام والمُجتمع الدُّوَليّ إلى تحَمّل مسْؤوليّتهم. فالوسيط الأمريكي لم يَدَّخرْ وسْعاً في خُذلاننا وتحدّي مشاعرنا والاستهانة بدمائنا بانحيازه السّافر والمُعلن لإسرائيل. والفيتو الأمريكي وتواطؤ بعض حكومات الدول الغربية جاهزان لأيّ مشروع قرارٍ لصالح العرب في المحافل الدّوليّة. على العرب أن يتحمّلوا مسؤوليّتهم هُم أوّلاً قبل أن يُطالبوا الآخرين بتحمّلها، بأن يُعلنوا سَحْب المبادرة العربية للسّلام التي ماتت بالفِعْل وشَبِعتْ مَوْتاً تحت أقدام العَنْجَهيّة الإسرائيلية، وعليهم أن يُعْلنوا رفع الحصار المفروض على غَزَّة وفتْح مَعْبَر رَفح بِشَكْلٍ دائمٍ لتقديم كُلّ أشكال المُساعدة والدّعم للشَّعب الفلسطيني وإنهاء معاناته ورَفْد شريان الحياة فيه بكُلّ عناصر القوّة والنَّموّ والاستقرارْ.

على النُّخْبة العربيّة الحاكمة أن تتَخَلَّى عن صياغاتها التقليديّة التي لا تُحَرّكُ ساكناً ولا تكسبُ تعاطفاً أو احتراماً، وتتولّى مسؤوليّتها التاريخية تجاه قضيّةٍ هي قضية مصيرٍ ووجودٍ وأمْنٍ واسْتقرارْ. وكثيرةٌ هي الأوراق التي نملكها كعرب في إدارة هذا الصّراع والضَّغط على الدّول التي تتخذُ مواقف مُعادية ومُنْحازة ضِد الحَقّ العربي، فقط لو صَحَّت الإرادة وصَدَق العَزْم ووضحت الرُّؤية.

أمّا جماهيرنا العربية فهي القُوّة المُحرّكة لِكُلّ آليّات الصّراع وعليْها اليوم ـ أكثر من أيّ وقتٍ مضى ـ أن توحّد صفوفها وتُسْمع صَوْتها وتَفْرض إرادتها وخياراتها الوطنية على كُلّ المُتردّدين والمُتخاذلين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى